text
stringlengths
0
254k
الغلو في نظرية المؤامرة الحمد لله خالقِ السماوات والأرضين وما بينهما، مُدبِّر الأمر كله، صغيره وكبيره، تفرَّد بالخلق والأمر والتدبير: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾ [الرعد: 2]، ثم الصلاة والسلام الأتمَّان على خير مبعوث بالحق، نبينا محمد القائل: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه الله عليك))، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فتُهرع الغالبية الساحقة من الناس إلى نظرية المؤامرة كحلٍّ سطحي وسريع لتفسير كثير من القضايا الصحية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية، وغيرها، فالوباء صنعته أيادٍ خفية من أجل القضاء على أكبر عدد من البشرية، والزلازل التي حلَّت في المغرب وتركيا وسوريا كان سببها تفاعلاتٍ كيميائية من ورائها أيادٍ خفية، والفيضانات في ليبيا أيضًا كان سببها أياديَ خفية، وفشل الطالب في المدرسة كان سببه أيادي خفية، وإقصاء فريق معين في الدوري النهائي سببه أيادٍ خفية، وموت شخص مشهور في حادث سير وراءه أيادٍ خفية، وكل شخص يحمل تصورًا معينًا عن هذه الأيادي الخفية، وأيًّا كان ذلك التصور، فإنه يكمُن في طيَّاته تهديد عقدي قد يصل إلى الشرك الأكبر، إن المسلم العالِمَ بأسماء الله تعالى وصفاته يعلم أن الكون وما فيه تحت حكم الله وتدبيره، فالمدبر " هو العالم بأدبار الأمور وعواقبها، ومقدر المقادير ومجاريها إلى غاياتها، يدبر الأمور بحكمته، ويصرفها على مشيئته" [1] ، فمن استقر في قلبه معنى هذه الصفة، تحاشى أن ينسُبَ التدبير لغير الله، ولَعَلِمَ أن أقصى ما تنفذه الأيادي المزعومة قضاءُ الله؛ خيرُه وشرُّه. يَرُوج الكلام ويكثُر عن نظرية المؤامرة أثناء الأزمات أو التغيرات المفاجئة، خاصة عندما يقف الإنسان حائرًا أو عاجزًا عن معرفة السبب الرئيسي للمشكلة، فيلجأ لنظرية المؤامرة كجواب سريع يُطفئ به حُرقة الفُضول والخوف؛ جاء في بحث نشرته مجلة Sage كلامًا يوضح ما سبق: "تُقدِّم نظريات المؤامرة للناس إجاباتٍ مبسطة، وتحديدًا كيفية نشوء الأزمة وأي من الفاعلين في المجتمع يمكن الثقة فيهم، هذه الإجابات ذات أهمية قصوى في كيفية تعامل الناس مع الأزمات، من المحتمل أن يكون للأزمة تأثير نفسي على الناس بحيث يصبحون غير متأكدين، أو يشعرون بأنهم ليسوا قادرين على التحكم في بيئتهم" [2] . لا يجدر بشخص عاقل إنكار نظرية المؤامرة أو التهوين من شأنها؛ لأن أصحابها اليوم لا يكتفون بتخطيطها والتدبير لها، بل ينشرونها في المواقع، ويتكلمون عنها في المحافل، ويكتبونها في الكتب مرفوقة بجداول التنفيذ؛ وبالتالي فليس الحل في إنكار وجودها، وإنما النجاة في إخراجها من القلب كمدبر وفاعل مستقلٍّ، إلى سبب من الأسباب، إن شاءَ الله تعالى أنْفَذَها، وإن شاء عز وجل عطَّلها بحَوله وقوته، فها هم المشركون تكالبوا وتآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضوان الله عليهم، فما زادهم ذلك إلا إيمانًا وطمأنينة راسخة رسوخَ الجبال الرواسي: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، والمؤامرة في حد ذاتها ليست نظرية، بل واقع منذ أمد بعيد، والذي يقرأ القرآن يجد آيات تتحدث عن ذلك؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، ثم جاء كشف حال موسى عليه السلام؛ ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾ [القصص: 21]، وهي حالة خوفٍ طبيعية جُبِلَ الإنسان على الشعور بها أثناء الخطر، إلا أن الخوف لم يجعل كليم الله عليه السلام يزداد إيمانًا بالمؤامرة؛ بل بالله عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، المهم أن المؤامرة ليست شيئًا جديدًا، وبالتالي ليست شيئًا يُنكَر. إنه من المهم أن نعلم أن الغلو في نظرية المؤامرة يؤدي إلى مفاسدَ كثيرة، أقلُّها: غلق السُّبُل أمام تفسيرات أخرى أقرب للحقيقة، وأعظمها: السقوط في الشرك، إن كلماتٍ يقولها الإنسان في ثوانٍ لا يُلقِي لها بالًا تهوي به في قعر جهنم، فكيف بالاعتقاد أن الجمعية الفلانية هي المتحكمة في العالم، وأن الأمر أمرها، وكل ما يحدث من شرٍّ فهو تحت تدبيرها؟! إن مما تُورِثه نظرية المؤامرة في نفس الإنسان الهزيمةَ والاستسلام؛ فتنتج لنا إنسانًا مهزومًا يؤمن بنجاح غيره، وفشل نفسه؛ لأنه أغرقها في الأوهام والوساوس القهرية، فيصبح سقف طموحاته أن يعرف تفاصيل الأخبار التي تؤكد اعتقاده في نظرية المؤامرة، لقد ساهمت شبكات النت، ووسائل "الانقطاع" الاجتماعي في تكثير عُبَّادِ نظرية المؤامرة، وذلك بخلق مجموعات تنشر وتنقُل أخبارًا عن الأيادي الخفية، إنها نفس عاجزة، كلما فكرت في الخلاص، تذكرت أن أمرها بقبضة أيادٍ خفية تخطط للإيقاع بها وبمن شابهها، تخالج النفس الغالية في نظرية المؤامرة أوهامٌ وشكوك عند كل حادثة، فأثناء السَّلم، تتوقع الأسوأ، وعند حدوث السوء، تؤكد ما ظننته من سوء، وهكذا تنقضي أيامها في دوامة متسلسلة مغمورة بالخوف، والشك، والشرك. إن من أراد أن يفُكَّ قيود المؤامرة في عقله، ويقرأ أحداث العالم دون الغلوِّ في أي عامل قدَّره الله تعالى أن يكون سببًا في تدبير أو تقدير شيء، فليعتقد أن تدبير الله فوق كل تدبير، مهما عظُم وكبُر، وأن أقصى ما يخطط له الخلق تنفيذ قدر الله الكوني الذي كتبه في كتابه، قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولم أجد نصًّا بشريًّا يؤكد ما سبق بقلم راقٍ، وأسلوب جذاب؛ مثل ما كتبه ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين)، وهو يؤكد أن السائر إلى الله يسلخ نفسه من التدبير المخالف لتدبير الله تعالى: " ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبير ربهم تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلم يزاحم تدبيرُهم تدبيرَه، ولا اختيارهم اختياره، لتيقُّنهم أنه الْمَلِكُ القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي لتدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يُدخِلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده بـ"لو كان كذا وكذا"، ولا بـ"عسى ولعل"، ولا بـ"ليت"، بل ربهم تعالى أجَلُّ وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه، أو يسخطوا تدبيره، أو يتمنَّوا سواه، وهم أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى بارئ الأشياء وفاطرها، ناظرًا إلى إتقان صنعه، مشاهدًا لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم ." هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. [1] كتاب شأن الدعاء، تفسير هذه الأسماء، ص104. [2] Douglas, K. M., Sutton, R. M., & Cichocka, A. (2017). ‘The Psychology of Conspiracy Theories’. Current Directions in Psychological Science, 26(6), 538-542 .
الاختلاف: مفهومه في اللغة والاصطلاح وفي القرآن الكريم والفرق بينه وبين الخلاف أولًا: الاختلاف لغة واصطلاحًا : لغةً: الاختلاف لغة على وزن افْتِعَال، والخلاف والاختلاف في اللغة: ضد الاتفاق؛ قال الراغب الأصفهاني: "الخلاف والاختلاف في اللغة ضد الاتفاق، وهو أعمُّ من الضد، لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين" [1] . وابن فارس جعل لمادة (خلف) ثلاثة أصول [2] : أحدهما؛ أن يجيء شيء بعد شيء يقوم مقامه، والثاني خلاف قُدَّام، والثالث التغيُّر. ويقصد بالأصل الأول: الخلف وهو: ما جاء بعدُ، ومثال على ذلك الخلافة: إنما سميت خلافة؛ لأن الثاني يجيء بعد الأول قائمًا مقامه. ويقصد بالأصل الثاني: الخَلْف وهو عكس القُدَّام، يُقال: هذا خلفي، وهذا قُدامي. أما الأصل الثالث فيُقصد به: الخُلُوف، يقولون خلف فوه إذا تغيَّر وأخلف؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح الْمِسْك)). وقد أدخل ابن فارس الاختلاف في الأصل الأول؛ يقول: "وأما قولهم: اختلف الناس في كذا، والناس خِلْفَة؛ أي مختلفون، فمن الباب الأول؛ لأن كل واحد ينحِّي قول صاحبه، ويقيم نفسه مقام الذي نحَّاه" [3] . هذا المثال من ابن فارس يُوحي إلى أن الاختلاف بمعنى المجادلة والمنازعة. الاختلاف في الاصطلاح: عرفه الجرجاني [4] (ت816ه): "الخلاف: منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حقٍّ أو إبطال باطل" [5] . عرفه الفيومي [6] (ت: نحو 770ه): "تخالَفَ القوم: اختلفوا، إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهو ضد الاتفاق" [7] . عرفه الكفوي (ت: 1094 ه) [8] : "الاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا، والمقصود واحدًا، وفرقٌ بينه وبين الخلاف" [9] . عرفه المناوي [10] : "الاختلاف: افْتِعال من الخُلْف؛ وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور" [11] . ثانيًا: الفرق بين الخلاف والاختلاف: فرَّق جميل صليبا في معجمه الفلسفي بين الخلاف والاختلاف، قال: "الفرق بين الخلاف والاختلاف أن الأخير يُستعمل في القول المبنيِّ على دليل، على حين أن الخلاف لا يُستعمل إلا فيما لا دليل عليه" [12] . وهذا التفريق سبقه إليه أبو البقاء الكفوي في كلياته؛ حيث فرق بين الخلاف والاختلاف؛ قال: "والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا، والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل. والاختلاف من آثار الرحمة، والخلاف من آثار البدعة" [13] . وهناك من يرى [14] أن التفرقة بين الخلاف والاختلاف بهذا الاصطلاح الذي ذكره أبو البقاء الكفوي وغيره، لا يستند إلى دليل لغوي ولا إلى اصطلاح فقهي؛ إذ إن هذا الفرق قد يكون مسلَّمًا في جانب اختلاف الطريق مع اتحاد المقصود، وأما تخصيص الأول بالدليل دون الثاني، فهو أمر غريب ما لم يقُمْ عليه بيِّنة من استقراء عام، أو شبه عام، لتمَوْضُع كلمة الخلاف والاختلاف في السياقات الجُمَلِيَّة. ومجرد النظر إلى حديث ((تطاوعا ولا تختلفا)) [15] - مثلًا - لا يدل على المقصود، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118، 119]، قد يأتي بعكس دعواه رحمه الله؛ لأن الرحمة هنا قَيدٌ في عدم حصول الاختلاف؛ فدلَّ أن الاختلاف ليس رحمة في نفسه. وكذلك القول في تضمين البدعة فيه - أي الخلاف - فالخلاف والاختلاف نتيجة مع مقدمة، أو قُلْ: جزء مع كل! وإن وجدت بعض الأفراد يصدُق عليها دعوى الكفوي رحمه الله في التفرقة، فإنها لن تصدق على الباقي منها. وعليه يظهر ضعفُ التفرقة. فالخلاف والاختلاف في اللغة ضد الاتفاق، فهما بمعنى واحد، ومادتهما واحدة. ومما يدل على ذلك أن استعمال الفقهاء للفظين لا يفرِّقون بينهما، كما بيَّن ذلك الدكتور محمد الروكي؛ قال: "والملحوظ في استعمال الفقهاء أنهم لا يفرِّقون بين الخلاف والاختلاف؛ لأن معناهما العام واحد، وإنما وُضعت كل واحدة من الكلمتين للدلالة على هذا المعنى العام من جهة اعتبار معين، وبيان ذلك أننا إذا استعملنا كلمة (خالف)، كان ذلك دالًّا على أن طرفًا من الفقهاء شخصًا أو أكثر جاء باجتهاد مغاير لاجتهاد الآخرين، بغض النظر... ولهذا لا تجد فرقًا بينهما في استعمال الفقهاء" [16] . وهناك من ذهب إلى الاختلاف لا يعني الخلاف، وأن الخلاف نوع من أنواع الاختلاف [17] . ثالثًا: مفهوم الاختلاف في القرآن الكريم: ذهب أبو البقاء الكفوي إلى أن الاختلاف في القرآن هو اختلاف تلاؤم، وهو ما يوافق الجانبين؛ كاختلاف وجوه القرآن، ومقادير السور والآيات، والأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد [18] . وتوصلت الباحثة سعاد محمد مطيع في رسالتها (الاختلاف في القرآن الكريم دراسة موضوعية) إلى أربعة معانٍ للاختلاف في القرآن الكريم: الأول: التنازع؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]؛ يقول الإمام الطبري في تفسيره: "يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم - أيها المؤمنون - في شيء من أمر دينكم..." [19] . الثاني: التعاقُب؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]؛ يقول ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: "فهذا هو المراد باختلاف الليل والنهار؛ أي: تعاقبهما وخلف أحدهما الآخر..." [20] . الثالث: التناقض؛ قال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]؛ يقول ابن عطية في تفسيره لـ﴿ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾: "وظهر فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه" [21] . الرابع: التنوع؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]؛ يقول ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: "واختلاف لغات البشر آية عظيمة، فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آيةً دالةً على ما كوَّنه الله في غريزة البشر من اختلاف التفكير، وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف، والحذف والزيادة، بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة" [22] . [1] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهانى، أبو القاسم الحسين بن محمد (المتوفى: 502 هـ)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، كتاب الخاء، مادة: خلف، (ص 155)، دار المعرفة لبنان. [2] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، أحمد، أبو الحسين بن زكَرِيّا (المتوفى: 395هـ)، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، كتاب الخاء، مادة: خلف، (2/ 170)، اتحاد الكتاب العرب، 1423هـ - 2002م. [3] معجم مقاييس اللغة، كتاب الخاء، مادة: خلف، (2/ 172). [4] علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني: فيلسوف، من كبار العلماء بالعربية، له نحو خمسين مصنفًا؛ منها: "التعريفات"، و"شرح مواقف الإيجي"، وغيرها، توفي سنة 816هـ، ينظر: الأعلام، خير الدين الزركلي الدمشقي (ت: 1396 هـ)، (5/ 7)، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر: 2002م. [5] كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، علي بن محمد بن علي الزين (المتوفى: 816هـ)، ضبطه وصححه جماعة من العلماء، (ص: 101) دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 1403هـ -1983م. [6] أحمد بن محمد بن علي ‌الفيومي ثم الحموي، أبو العباس: لغوي، اشتهر بكتابه (المصباح المنير)، وُلِد ونشأ بالفيوم (بمصر)، ورحل إلى حماة (بسورية) فقطنها ... توفي نحو 770هـ؛ [ينظر: الأعلام للزركلي، (1/ 224)]. [7] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، الفيومي، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي (المتوفى: نحو 770 هـ)، دراسة وتحقيق: يوسف الشيخ محمد، كتب الخاء، مادة خلف، (ص: 95)، المكتبة العصرية. [8] أيوب بن موسى الحسيني القريمي ‌الكفوي، أبو البقاء: صاحب (الكليَّات)، كان من قضاة الأحناف، عاش ووَلِيَ القضاء في (كفه) بتركيا، وبالقدس، وببغداد، وعاد إلى إستانبول فتُوفِّيَ بها سنة 1094هـ؛ [ينظر: الأعلام للزركلي، (2/ 38)]. [9] الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، الكفوي، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الحنفي (المتوفى: 1094هـ)، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، فصل الألف والخاء، (ص: 60)، مؤسسة الرسالة – بيروت. [10] محمد عبدالرؤوف بن تاج العارفين ابن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، زين الدين: من كبار العلماء بالدين والفنون، عاش في القاهرة، وتُوفِّيَ بها عام 1031هـ، من كتبه (كنوز الحقائق) في الحديث، و(التيسير) في شرح الجامع الصغير، (فيض القدير)، و(شرح الشمائل للترمذي)؛ [ينظر: الأعلام للزركلي، (6/ 204)]. [11] فيض القدير، المناوي، (1/ 209)، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، الطبعة الأولى: 1356هـ. [12] المعجم الفلسفي، جميل صليبا (المتوفى: 1976 م)، (1/ 47)، الشركة العالمية للكتاب – بيروت، 1414هـ - 1994م. [13] الكليات، (ص: 61). [14] د. سمير مثنى علي الأبارة، شبكة الألوكة. https: / / www.alukah.net / culture / 0 / 112190 / [15] المقصود حديث سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، قال: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا ولا تختلفا))؛ [رواه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب، وعقوبة من عصى إمامه، رقم الحديث: (2873)، (3/ 1104)، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، دار اليمامة – دمشق، الطبعة الخامسة: 1414هـ - 1993م]. [16] نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، محمد الروكي، ص (180-189)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 1414هـ. [17] الاختلاف في القرآن الكريم دراسة موضوعية، سعاد محمد مطيع خليل، (ص123)، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية في نابلس – فلسطين، 2015. [18] الكليات لأبي البقاء الكفوي، (ص 60-61). [19] جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر الطبري، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي (المتوفى: 310هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، (8/ 504)، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420هـ - 2000م. [20] التحرير والتنوير "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"، الطاهر بن عاشور التونسي، محمد الطاهر بن محمد بن محمد (المتوفى: 1393هـ)، (2/ 79)، الدار التونسية للنشر – تونس، 1984 هـ. [21] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي المحاربي، أبو محمد عبدالحق بن غالب بن عبدالرحمن بن تمام (المتوفى: 542هـ)، تحقيق: عبدالسلام عبدالشافي محمد، (2/ 83)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى - 1422 هـ. [22] التحرير والتنوير، (21/ 73).
إطلالة على كتاب: الأربعون القرآنية الحمد لله الرحيم ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2] ووصف كتابه بأنه: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد: فهذه إطلالة على كتاب قيِّم جمع فيه مؤلفه (أربعين حديثًا مما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل وأحكام وآداب القرآن) وحرص أن يضع (الحديث القريب العبارة، الواضح البيان، لكي يسهل حفظه ويُنتفَع به ويُعْمَل به) وهذه الأحاديث (ليست خاصةً بحفظ القرآن فقط وإقامة حروفه وتجويده والتغنِّي به، بل إن الذي يقرأ الأحاديث ويتأمَّلها سيجد أنها جاءت بالحث على العلم والعمل، والقراءة، والحفظ). وقد عُرِض الكتاب على مجموعةٍ من كِبار أهل العلم، وعلى رأسهم مُقدِّمَا الكتاب الشيخان المحدِّثان: عبدالله بن عبدالرحمن السعد، وصالح بن سعد اللحيدان، وغيرهما، وقد أثنَوْا عليه بأبلغ الثناء الحق وأحسنه [1] . معلومات عن الكتاب: اسم الكتاب: الأربعون القرآنية، تجدر الإشارة إلى أنه توجد عدد من الكتب تحمل نفس العنوان مثل "الأربعون القرآنية" للشيخ ناصر القطامي حفظه الله تعالى، و"الأربعون القرآنية" لـ د.صلاح الدين البسامي. المؤلف: هو الشيخ: أحمد بن عبدالرزاق العنقري التميمي الكويتي، متخصص في علوم القرآن والقراءات العشر، طلب علم الحديث على الشيخ العلَّامة المحدث: عبدالله السعد.. وأجازَه بالكتب الستة، وهي: (البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه) ومن مشايخه أيضًا: العلامة الشيخ: عبدالرحمن البراك، وقد تعلَّم منه علم العقيدة والتوحيد على منهج أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، يحفظ الشاطبية وهي 1073 بيتًا، ويحفظ المقدمة الجزرية بسندها وغيرها، وله مجلس لتعليم علوم القرآن ودروس وهو مستقر حاليًّا بالرياض [2] . تقديم الكتاب: قدَّمَ لِلكتاب أربعة من كبار العلماء المحدثين وهم: صالح اللحيدان، عبدالله السعد، د.ماهر الفحل، د.حمد التميمي، جزاهم الله خيرًا. الناشر: دار الآل والصحب، الرياض، 1431هـ. أهمية الكتاب: للكتاب أهمية بالغة، فهو حديث السنة عن القرآن وقد (امتاز الكتاب بعنوانه ومضمونه، وشهِد كبار أهل الحديث بأنَّه لم يسبق له مثيلٌ من قبل، إضافةً لصحَّة الأحاديث الواردة فيه وشموليتها [3] . منهج الكتاب: جعل المؤلف جزاه الله خيرًا على هيئة فصول وتحت كل فصل تندرج مجموعة من الأحاديث على (نهج البخاري؛ فقد جعل عَناوِين الأبواب مُستَنبَطة من الأحاديث الواردة فيه) [4] . الفئة المستهدفة: الكتاب يستهدف المسلمين عمومًا، والمعتنين بالقرآن من حُفَّاظ وطلبة علم خصوصًا. خدمة الكتاب: كما هي عادة الكتب القيِّمة يتم خدمتها بأنواع الخدمة؛ كالشرح والتحشية والاختصار وغيرها، من ذلك: • يوجد شرح للكتاب للشيخ الصغير بن عمار، وتعليقات للشيخ الفقير العربي، وشرح للشيخ عبدالرحمن بن معاضه الشهري حفظه الله تعالى وغيرها. • للكتاب نسخة صوتية للقارئ عمر مظفر [5] . • تُرجِم الكتاب -بفضل الله- إلى التركية والهندية والفارسية وفي طور الطباعة حاليًّا في مصر والشام إضافة إلى انتشاره في دول الخليج وعلى رأسها المملكة.. حيث تنافس على حفظ متن الكتاب آلاف الحُفَّاظ من حَمَلة القرآن على نطاق جمعيات تحفيظ القرآن [6] . • تم تحويل الكتاب إلى بطاقات دعوية، وقد قام بهذا العمل مشكورًا موقع بطاقات دعوية شهير [7] . عرض موجز للكتاب: قسَّم المؤلف -وفَّقَه الله- كتابه إلى سبعة فصول حيث جعل الفصل الأول الأحاديث الواردة: في فضائل قراءة القرآن ومدارسته، ويندرج تحته عشرة أحاديث، أما الفصل الثاني فكان في الآداب والأحكام وضمَّنه عشرة أحاديث أيضًا، فيما كان الفصل الثالث عن الأحاديث الواردة في فضل حفظ كتاب الله وجزاء أهله وفيه ستة أحاديث، والفصل الرابع حول الأحاديث الواردة في الحث على تعاهُد القرآن ومراجعته وفيه ثلاثة أحاديث، أما الفصل الخامس في الأحاديث الواردة في استحباب تجميل الصوت بالقرآن وفيه حديثان فقط، والفصل السادس كان تحت عنوان: الأحاديث الواردة في إخلاص العمل لله عز وجل ويحتوي على حديثين أيضًا، فيما كان الفصل الأخير يتعلق بالأحاديث الواردة في فضائل بعض السور وفيه سبعة أحاديث تشمل فضل آية الكرسي وفضل الآيَتَينِ الأخيرتين من سُورَةِ الْبَقَرَةِ. والمؤلف قد يعلق أحيانًا على بعض الأحاديث بتوضيح مُشكِل أو شرح لفظ غريب، إما بنقل عن أحد العلماء؛ كابن القيم وابن كثير رحمهما الله تعالى أو من قوله. نموذج من أحاديث الكتاب: الحديث الأربعون: فضل الآيَتَينِ الأخِيرتين من سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهما فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ))؛ مُتَّفَقٌ عليه. تعليق: معنى (كفتاه)؛ أي: حفظتاه من الشر، ووقتاه من المكروه. مميزات الكتاب: الكتاب به مميزات كثيرة منها: • فريد في بابه. • مضبوط بالشكل وذلك لتجنُّب اللحن عند قراءته أو حفظه. • جيد الإخراج. • حَسن التقسيم للفصول وما يندرج تحتها من أحاديث. • وجود ترجمة لكل حديث؛ كصنيع البخاري رحمه الله تعالى. • مختصر مناسب للحفظ. • تحرِّي الصحة للأحاديث. مقترحات: وهنا نختم ببعض المقترحات لعل الله ينفع بها: • لو أن دور التحفيظ تدرِّسه لحفظة القرآن حتى يتعرفوا على الآداب والأحكام النبوية حول ما يحفظون من كلام ربهم. • من الأفضل وجود شرح تربوي يستهدف استخراج الفوائد التربوية لكي يسهل العمل بها والتأسي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم. • لو أن المؤلف صدَّر كل عنوان بآياتٍ من كتاب الله كما هو في رياض الصالحين، وحتى يتم الربط بين كتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم. • الكتاب بحاجة للتوسُّع في شرح غريب الألفاظ والتعليق على ما يُشكل. • جعل المؤلف الفصل الأخير في الأحاديث الواردة: في فضائل بعض السور ولو أنه استوعبها فهي ليست كثيرة؛ كفضل سورة الكافرون وحديث هود وأخواتها وغيرها. • لو جعل المؤلف فصلًا للسور التي تقرأ في مواضع معينة حتى يعرف الأئمة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في الصلاة وغيرها. • أخيرًا لو أن المؤلف جعل فصلًا لبعض أحاديث العقيدة الصحيحة في القرآن. [1] قاله مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بقلم د. حمد التميمي ( https://shamela.ws/book/36497/2 ). [2] https://old.shamela.ws/index.php/author/2319 [3] قاله مُعِدُّ الكتاب للشاملة: بقلم. د. حمد التميمي ( https://shamela.ws/book/36497/2 ) [4] https://shamela.ws/book/36497/2 [5] https://www.youtube.com/watch?v=HyHnPA3HhwM [6] https://old.shamela.ws/index.php/author/2319 [7] صفحة الكتاب على موقع بطاقات دعوية ( https://www.albetaqa.site/lang/arb/?cat=72 )
داود وسليمان عليهما السلام (2) بعد أن مكَّن الله لداودَ في الأرض، وآتاه المُلكَ والنبوَّة، وأنزل عليه الزَّبورَ وعلَّمه ما يحتاجُه هو وبنو إسرائيل من المنهج القويم، وقد يسَّر الله عز وجل لداود قراءةَ الزبور، وخفَّفه عليه حتى إنه كان يقرؤه بمقدار ما تُسرج دوابه، كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خُفِّفَ على داود عليه السلام القرآن، فكان يأمرُ بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبلَ أن تُسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده)) ، والمراد بالقرآن هنا الزبور الذي أنزله الله على داود عليه السلام؛ حيث يقول: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، كما يُطلق القرآن على القراءة، يعني: قراءة الزبور، وقد كان داود عليه السلام قد منحه الله عز وجل صوتًا جميلًا يتغنَّى به وهو يقرأ الزبور ويترنَّم، ولقد وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ترنُّمه بالزبور بصوت المزامير؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى، لقد أُوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود)) ، وروى أحمد في مسنده قال: حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صوتَ أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: ((لقد أوتي أبو موسى مِن مزامير آل داود)) . وقد التزم داود عليه السلام بأنه لا يأكلُ إلا من عملِ يده، كما اتَّخذ منهجًا في الصيام والصلاة هو أحب المناهج التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضُّ عليها في التطوُّع؛ فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفرُّ إذا لاقى)) ، وفي لفظ للبخاري من حديث عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)) ، كما روى البخاري في صحيحه من حديث المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكلُ مِن عمل يده)) . ولقد تفضَّل الله تبارك وتعالى على داود فَأَلانَ له الحديدَ، وعلَّمه صنعةَ لَبوسٍ؛ لصيانة المقاتلين المؤمنين، فكان أوَّلَ من صنع الدروع التي قد تسمى الزرد، وقد أرشده الله عز وجل إلى الطريقة المُثلى في صناعتها، فجعلها حلقًا بعد أن كانت صفائح ليسهل استعمالها، وأمره عز وجل أن يعملها سابغات تغطي كلَّ جسم لابسها ويجرها على الأرض، وتصلح للأجسام المختلفة طولًا وعرضًا، فيعم نفعها جميعَ المقاتلين، وأن يقدِّر في السرد؛ أي: في نسج الدرع، وهو إدخال الحلقات بعضها في بعض ولا تجعل المسامير غلاظًا فتكسر الحلقة، ولا دقاقًا فتتقلقل فيها، ولا تزاد في متانتها فتثقل على المقاتل؛ وهذه نعمة جزيلة، لفت الله المؤمنين إلى وجوب شكره عليها حيث يقول: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]. كما سخَّر الله عز وجل لداود الجبالَ والطير إذا سبَّح سبَّحتْ معه، وآتاه الحكمةَ وفصلَ الخطاب، وفي ذلك كلِّه يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 79، 80]. ويقول عز وجل في سورة سبأ: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11]. ويقول تعالى: في سورة (ص) آمرًا شيخ المرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء في الصبر بداود عليه السلام: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 17 - 20]. وقد افترى اليهودُ على داود عليه السلام أكاذيبَ كثيرة، كما كذبوا على أنبياء الله من قبله ومن بعده، وقتلوا بعضَ الأنبياء؛ فقد ادَّعوا أن داود خرج يتمشَّى على سطح بيت الملك مساءً، فوجد امرأة جميلة تغتسل، فأرسل رجالًا فأخذوها وجاؤوا بها إلى داود، فدخلت عليه فاضطجع معها وحبلت منه، وأنه عمل على قتل زوجها؛ فقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر صموائيل الثاني الذي بأيديهم في الفقرة الثانية منه: وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشَّى على سطح بيت الملك؛ فرأى من على السطح امرأةً تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا، وفي الفقرة الثالثة فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟ وفي الفقرة الرابعة: فأرسل داودُ رسلًا وأخذها، فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثمَّ رجعت إلى بيتها، وفق الفقرة الخامسة: "وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حُبلى"، وبعد أن يسوق سفر صموائيل الثاني محاولة داود التخلُّص من أوريا زوج المرأة وإرساله إلى الحرب ليُقتل، بعد ذلك يقول السفر في الفقرة 26: فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلُها ندبت بعلها، وفي الفقرة 27: ولما مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنًا، وأما الأمر الذي فعله داود فقبُح في عيني الرب، ثم يتابع السفر المذكور سرد معاتبة الرب لداود وإماتة الله للولد الذي جاءت به بثشبع، ثم توبة داود وصيامه، ثم دخوله على امرأة أوريا واضطجاعه معها فتحبل وتلد ولدًا اسمه سليمان، والعجيب الغريب أن هذه الأكذوبة انطلت على بعض من ينتمي إلى علم التفسير ففسَّروا بها قوله الله عز وجل: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 21 - 25]. وتفسيرُ هذه الآيات بأن داودَ عشِق امرأة أوريا وقهره على التنازل له عنها، وسعى في قتله حتى قُتل، وكان لداود تسعٌ وتسعون امرأة، ولأوريا هذه المرأة الواحدة، ومجيء ملكين في صورة متخاصمين لداود لتنبيهه على قبح ما فعل، أقولُ: إن تفسير هذه الآيات الكريمات بهذا هو تفسير عاطل باطل، فاسد كاسد، وإفكٌ مفترًى مبتدَع يأباه لنفسه السوقة والرعاع، ومكر يهودي مخترع تمجُّه الأسماع، وتنفر منه الطباع؛ ولذلك أثر أن عليًّا رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدتُه مائة وستين جلدة، وهي حدُّ الفرية على الأنبياء، كما أُثر أن رجلًا صالحًا من أهل العلم كان جالسًا مع عمر بن عبدالعزيز بالمسجد وبالقرب منهما رجل يقصُّ على الناس هذه القصة المخترعة على داود، فقال الرجل الصالح: يا هذا، إن كان الأمر على خلاف ما تزعم فقد افتريتَ على نبيِّ الله داود، وإن كان على ما تزعم وستر الله على نبيِّه داود وكنَّى وقال نعجة ولم يقل امرأةً فما يحلُّ لك أن تفضح نبيَّ الله داود، فقال عمر بن عبدالعزيز: "هذا الكلام أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس".
غزوة خيبر أصبحت خيبرُ مصدر خطر على المسلمين، ومكان تجمع لليهود والمنافقين للتآمر على المسلمين وتهييج الخصوم لشن الحروب عليهم، ومر سابقًا أن غزوة الخندق كانت بتحريض من يهود خيبر، ومن الفاسق الكبير العميل للروم "أبي عامر الراهب"، فكان لا بد من اجتثاث المتآمرين في خيبر، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر في ألف وأربعمائة مقاتل ومعهم مائتا فارس، ونزل عند الرجيع بجيشه؛ ليقطع طريق التقاء اليهود مع أحلافهم من غطفان، كما يشعر بهذا غطفان بأن أي مدد منهم لليهود سيعرض ديارهم للغزو بسبب فقدان المقاتلين عندهم؛ ولذلك ضمن بهذا الموقع تحييد غطفان والانفراد بيهود خيبر، ثم زحف الجيش نحو حصون خيبر ليلًا، وعند الصباح خرج أهالي خيبر من حصونهم للعمل في المزارع وكانت المفاجأة، فعادوا أدراجهم وهم يصيحون: محمد والخميس؛ أي: والجيش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، ثم حصرهم وضيق عليهم، فأخذهم حصنًا حصنًا، ومالًا مالًا، فكان أول حصن فتحه المسلمون حصن ناعم، ثم القموص وهو لبني أبي الحقيق، وفيهم الربيع بن أبي الحقيق، وكان فيه سبايا، منهم صفية بنت حيي زوجة الربيع، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، ثم حصن الصعب، وكان أكثرها طعامًا، ثم حصن الوطيح والسلالم، وهو آخرها.
العولمة والتهيئة في ضوء الجهود الحكومية والخاصة (الأهلية) في تدريب القوى العاملة المحلية، فإن هناك جهاتٍ دوليةً لها التزاماتُها في موضوع الرقي بالقوى العاملة، وتهيئة الموارد البشرية المواطنة، من خلال البرامج التي تقوم بها هذه الجهات - ومن أبرزها: جهود منظمة العمل الدولية، ثم منظمة العمل العربية - وإسداء المشورة وتكوين الخبرة، واستحداث التنظيمات والقوانين، التي تكفُل قيامَ قوى بشرية مدربة ومؤهلة لشَغْلِ سوق العمل، دون مزاحمة مباشرة من التقنية الحديثة. هذا مع التوكيد على تطويع البرامج والخبرة لمعطيات المنطقة الدينية والثقافية والاجتماعية؛ إذ من السهل استيرادُ نماذج جاهزة، لكن من الصعب جدًّا توقع نجاحها إن لم تكن قد خضعت لقدر عالٍ من التأصيل؛ إذ إنه "ليس من الحكمة أن يُفترض أن أيَّ تنظيم مؤسسي يجري استيرادُه من الدول المتقدمة اقتصاديًّا هو بالضرورة أكثرُ فائدة - من وجهة نظر التنمية البشرية - من المؤسسات التقليدية الموجودة في الدولة الأقل نموًّا. إن تيارَ العولمة كثيرًا ما يهدد باندثار تنظيمات مؤسسية وتقاليد عريقة في الدول النامية، لعبت طوال قرون عديدة دورًا فعَّالًا في التخفيف من أعباء الفقراء" [1] ، كما يذكر جلال أمين مؤلف: العولمة والتنمية العربية. من بين المؤسسات التي يذكرها المؤلف: مؤسستا الزكاة والوقف، اللتان "أصابهما الضعف والذُّبولُ مع زيادة اندماج الاقتصادات والمجتمعات العربية في العالم الحديث. إن المسؤولية عن مواجهة مثل هذه الأخطار تقع ليس فقط على حكوماتِ وشعوب الدول النامية، بل وكذلك على المؤسسات العاملة في ميدان التنمية الاقتصادية، والمنتمية إلى العالم الأكثر تقدمًا؛ فبينما تقع على الأولى مسؤوليةُ التَّمسُّك والثقة ببعض مؤسساتها التقليدية، التي ما زالت قادرة على القيام بدور إيجابي في التنمية وفي التخفيف من أعباء الفقراء، تقع على الأخرى مسؤولية التخلص من ذلك الاعتقاد البالي والثِّقةِ العمياء بأن أي مؤسسة عصرية أو أي تنظيم اجتماعي حديث هو بالضرورة أفضل وأكثر فعالية وأعلى - في مضمار التقدم - من أي مؤسسة قديمة أو تنظيم اجتماعي أبدعته ثقافة أمةٍ فقيرة" [2] . هذا يعني أن هناك بدائلَ موجودةً يمكن الإفادة منها إذا ما جرى عليها تطوير وتفعيل، بحيث تُسهِم في مشروعات التوطين من خلال دعم التدريب والتأهيل، ودعم مشروعات العمل الذاتي (الخاص) الصغيرة، التي تسهم بدورها في إيجاد فرص العمل للقادرين على دخول السوق؛ ليكونوا في البَدء رجالَ أعمالٍ بمنشآت صغيرة، لا يلبث بعضُها أن يتطور ويكبر وينموَ بفعل القيام عليها مباشرة، دون الاتكال على غيرهم في إدارتها، وجَني ثمارها من غيره على حساب صاحب العمل المبتدئ نفسه. من السهل على الجادِّين أن يبدؤوا صغارًا ثم يكبروا، ومن الصعب على المُستعجِلين أن يبدؤوا كبارًا ولا يصغروا، كما هو مضمون حديثِ الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض للشباب الخريجين في إحدى سنوات تخرُّجِهم من كليات التقنية في المملكة العربية السعودية، المقبلين على دخول سوق العمل يحدوهم الأملُ والطموح في توظيف ما تعلموه من مهارات في مجالها من سوق العمل الواعدة. [1] انظر: جلال أمين. العولمة والتنمية العربية - مرجع سابق - ص 86. [2] انظر: جلال أمين. العولمة والتنمية العربية - المرجع السابق - ص 86.
التفسير الصغير لفايز بن سياف السريح صدر حديثًا كتاب "التفسير الصغير"، تأليف: "فايز بن سياف السريح"، تقديم ومراجعة: "عبد الله بن عبد العزيز العواجي"، نشر: "دار الحضارة للنشر والتوزيع". وهو تفسير سهل موجز مختصر لكلمات القرآن بأوضح عبارة أتى بها الكاتب بعد مطالعة لغالب ما كتبه أهل التفسير، وقدّمها للقارئ في خلاصة لفهم كلام الله بشكل مُيسّر. يقول الكاتب: "وإنك أيها القارئ حين تطالع في كتب التفسير ستجد أن طرق التفسير متعددة، ومناهجه متنوعة، وجميعها يحتاج إليها الناس؛ كل بحسبه وعلى قدر وسعه؛ غير أن المقصود الأعظم من كلام الله تعالى تدبر آياته والعمل بما تضمنته من آياته، مما دعاني إلى كتابة تفسير انصب اهتمامي فيه على بيان ما أشكل معناه من كتاب الله بألفاظ دقيقة، وتعبيرات متينة، ومعان جامعة، وأقوال راجحة عند أهل التحقيق في هذا العلم، انتخبتها من معظم كتب التفسير، فجاء هذا الكتاب من أوجز ما كتب في تفسير القرآن الكريم، قريبًا على طالب معانيه، وسهلًا على من تأمل مبانيه، مفيدًا لمن كرر قراءته، ونافعًا لمن رام تحفظه، فهو خلاصة لما في كتب التفسير، ومفتاح يستعين به الطالب على جرد مطولات كتب التفسير فيما بعد، وقد سميته بالتفسير الصغير". وكان منهج الكاتب في تأليفه وانتخابه: • قصد بكتابة هذا التفسير بيان ما أشكل معناه من كتاب الله تعالى. • عمد الكاتب إلى تقليل عبارة التفسير وألفاظه ما أمكن إلى ذلك سبيلًا. • حاول أن تكون عبارة التفسير دقيقة متينة. • اقتصر الكاتب على قول واحد في التفسير؛ وهو ما ظهر له رجحانه من أقوال المفسرين. • حاول توضيح المعاني القرآنية وتسهيلها. • اعتمد في كتابة التفسير على طريقة الشرح الممزوج بالنص. • ترك تفسير الواضح واكتفى من ذلك بذكر نص الآية فقط؛ لظهور معناه وعدم حاجته إلى إيضاح. • يستطيع القارئ أن يختم منه القرآن؛ فيجمع بين التفسير والتلاوة. • ليس فيه شيء من الإسرائيليات. • يعتبر أوجز تفسير للقرآن الكريم فهو في 415 صفحة فقط. والكاتب "فايز بن سياف السريح" مهتم بعلوم القرآن والدورات التدريبية في تحفيظ القرآن، له من المؤلفات: • "قصص القرآن". • "أعلام القرآن". • "معالم السور". • "مدارسة القرآن". • "علوم القرآن سؤال وجواب". • "البينات في علم المناسبات". • "هدايات الآيات". • "نظرات في سور القرآن". • "كلمات القرآن".
العولمة والمعلومة العمالية أصبحت المعلومةُ هي المادة الأولية في القرن الحادي والعشرين، وهي أيضًا - حسب توفلر - ستكون مصدرَ النزاعات الدولية في المستقبل القريب [1] . إن منطقة الخليج العربية بدولها الست لا تزال - على تفاوت يسير بينها - تفتقر إلى المعلومة الدقيقة عن سوق العمل، وحجم طالبي العمل من المواطنين، ومدى تأهيلهم وقدراتهم الذاتية على العمل الميداني؛ مما نتج عنه غموضٌ في تحديد نسبة دقيقة للبطالة، بمفهوم البطالة العلمي الموضوعي الذي سبق الحديث عنه في وقفة سابقة من هذه الوقفات (الوقفة التاسعة عشرة). تُطوِّرُ دولُ مجلس التعاون الخليجية قدراتِها على توفير المعلومة في مجال العمل، وذلك من خلال إيجاد قواعد المعلومات الشاملة عن ظروف العمل وبيئته، وسوق العمل وإمكاناته، ومثال على ذلك: ما تقوم به وزارة العمل بالمملكة العربية السعودية التي جدَّت في إنشاء مركز لمعلومات العمل، يشتمل على قاعدة معلومات إلكترونية، وذلك منذ سنة 1418هـ/ 1997م عندما بدأت الوزارة ببناء هذا المشروع الذي يُشرِف على النهاية، بربط مكاتب العمل السبعة والثلاثين الموزَّعة في البلاد بقاعدة المعلومات المركزية في الوزارة، ويتعاون القطاعُ الخاص مع هذا المشروع بتزويد قاعدة المعلومات بما تتطلَّبه من معلومات أولًا بأول. هذا على الرغم من تَكرار الدعوات إلى إيجاد نُظُم معلومات العمل، ومراكزها، وقواعدها المعلوماتية الكفيلة بإذن الله تعالى بالقدرة على صُنعِ القرار في مجال تنمية الموارد البشرية، وتهيئتها لسوق العمل في المنطقة، مما يستدعي سرعةَ التنبُّه إلى ذلك عمليًّا، بعد أن تمَّ التنبهُ إليه نظريًّا من خلال توصيات الندوة الإقليمية حول التشغيل في إطار تنمية الموارد البشرية بدول مجلس التعاون، التي تمَّت بدولة البحرين بالتعاون مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بدولة البحرين، ومنظمة العمل الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في المدة من 5 - 7/ 8/ 1418هـ الموافق 6 - 8/ 12/ 1997م [2] . لا عبرة ببعض الأطروحات العَجلى التي أعطت البطالةَ الوطنية في المنطقة نسبًا دخلت في حيز العشرات بدلًا من الآحاد؛ إذ إنها في معظمها لا تتكئ على استقراءٍ علمي سليم، يُطبِّق المفهومَ الفني للبطالة. ويتطلع الجميعُ إلى الرقم الحقيقي المبني على أسلوب علمي سليم على مستوى منطقة الخليج العربية؛ حيث يضع في الحُسبان عدَّةَ متغيرات تتدخل في النظر إلى البطالة، بما في ذلك حسم النقاش المستمر حول الحد الأدنى لسن الالتحاق بالعمل، الذي حددته منظمة العمل الدولية بخمس عشرة سنة [3] . هذا التحديد الذي يبدو أنه يحتاج إلى إعادة نظر ما أخذت دول المنطقة بإلزامية التعليم، وحددت سنواتِه؛ مما سيُعين بإذن الله تعالى على اتخاذ المزيد من الإجراءات النظامية (القانونية) في التصدي للبطالة [4] ، ومن ثَمَّ المُضي قُدُمًا في مشروعات التوطين وبرامجه، دون النظر إلى سلسلةٍ من الإحباطات الناجمة عن الصعوبات التي تكتنف هذا المشروع، بحيث أصبحت هذه الصعوباتُ تحدياتٍ في طريق توطين سوق العمل، الذي يؤكد واقعُه أن الوافدَ قد سيطر على معظمه، لا سيما في المنشآت التجارية الصغيرة، تلك التي تعتمد على تجارة التجزئة وتقديم الخدمات، وتمثل ما يصل إلى 90% من حجم سوق العمل في المنطقة؛ مما أوجد ممارساتٍ غيرَ نظامية (غير قانونية) في هذا الجو غير الطبيعي وغير الصحي، الذي ينخرُ في التركيبة العمالية المحلية، مما يمكن أن يدخل في مفهوم "مافيا سوق العمل". في الأحوال العادية - غير الحال الخليجية - التي يسيطر فيها الوافدُ على معظم سوق العمل، يمكن القول: إن العامل الوافد في الوقت الذي يسهم فيه في رفع كفاءة الإنتاج، وفي زيادة ربحية المؤسسات التي يعمل بها - إلا أنه يسهم "في الإخلال بعدالة توزيع الدخل في دول الاستقبال؛ حيث يرفع من دخل مالكي مؤسسات الإنتاج، ويُضعِف من دخل العمالة المواطنة، ويكون ذلك الاختلال أكثرَ وضوحًا عندما تُترك الأجورُ لتُحدَّد وَفقًا لعوامل السوق فقط، وهنا لا بد للدول المعنية من التدخل وتصحيح هذا الفشل للسوق، والحد من تأثيراته السلبية على استقرار المجتمع، وهذا أحد الأدوار المهمة التي ستؤديها الحكوماتُ في ظل العولمة، ومن خلال التدخل في تشريع وتقنين سوق العمل، خاصة في الدول ذات الندرة العمالية كدولنا الخليجية" [5] . رغم أن أنظمةَ قوانين العمل في المنطقة لا تتضمن التفرقةَ في الأجور بين العامل المحلي والعامل الوافد؛ فإن واقعَ الممارسة يُحتِّم على دول المنطقة ضرورةَ اقتراب متوسط أجور العمال المحليين مع متوسط أجور العمال الوافدين [6] ، لا بإنقاص أجور العمال المحليين - الأمر الذي لن يحصل - ولكن برفع كُلْفةِ العامل الوافد من حيث أجرُه ومن حيث استقدامه، وفي الوقت نفسه رفع كفاءة العامل المحلي، وتهيئته بالتأهيل والتدريب. [1] انظر: السيد ولد أباه، اتجاهات العولمة: إشكالات الألفية الجديدة - مرجع سابق - ص 2. [2] انظر: المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نتائج وتوصيات... سلسلة توصيات ونتائج الملتقيات العلمية، ع 16 (ذو الحجة 1419هـ/ أبريل 1999م)، ص 53. [3] انظر: عدنان خليل التلَّاوي، القانون الدولي للعمل - مرجع سابق - ص 519 - 533. [4] أكدت مصلحة الإحصاءات العامة بوزارة التخطيط بالمملكة العربية السعودية - من خلال نشرها للبيانات الإحصائية على موقع الوزارة في الإنترنت - على أن حجم البطالة في البلاد قد وصل إلى 9،6%، لكن الخبير الاقتصادي الدكتور صالح بن محمد الشعيبي لا يرى أنها بطالة اقتصادية، بقدر ما هي بطالة هيكلية واجتماعية، لا سيما عند تطبيق المفهوم الفني الموضوعي للبطالة، كما ورد ذكره في الوقفة العشرون، وذلك في المحاضرة التي ألقاها في كلية الملك فهد الأمنية بالرياض في شعبان 1423هـ، ضمن فعاليات ندوة الأمن والمجتمع، سوق العمل في المملكة: الواقع والتحديات بعنوان: دراسة عن البطالة في اقتصاديات المملكة العربية السعودية. [5] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية - مرجع سابق - ص 32. [6] انظر: أحمد هاشم اليوشع، عولمة الاقتصاد الخليجي: قراءة للتجربة البحرينية - المرجع السابق - ص 75.
من أقدار الله في التاريخ من أشهر الأحداث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعرف بقصة يهود بني قريظة، وهي قبيلة يهودية كانت تسكن المدينة، وكانت كافرة وبقيت على كفرها حتى بعد مهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم عهدًا إلا أنهم خانوه ونقضوا العهد في أثناء غزوة الخندق؛ حيث حالفوا قريشًا ضده صلى الله عليه وسلم، فأُتِي المسلمون من أمامهم (قريش وحلفاؤهم) ومن خلفهم (يهود المدينة ومنهم بنو قريظة)، وعظم الخطب، واشتدَّ الخوف، ونجم النفاق، وبقي المسلمون محاصرين قرابة شهر، ثم إن الله تعالى أرسل الريح والملائكة فانهزم المشركون وحلفاؤهم، وتورَّط اليهود! ثم توجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فحاصرهم بضع عشرة ليلة حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ لأنهم كانوا حلفاءه فحكم فيهم بحكم الله: أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم، ثم أمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فخُندقت لهم الخنادق، ثم أمر بضرب أعناقهم في تلك الخنادق أرسالًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم، ومن لم ينبت أن يتركوه. روى أبو داوود (4404) أن عطية القرظي قال: "كنت من سبي قريظة، فكانوا ينظرون: فمن أنبت الشعر قتل، ومن ‌لم ‌ينبت لم يقتل، فكنت فيمن ‌لم ‌ينبت"، وفي رواية: "فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السبي". فمن عجائب التقدير الإلهي أن عطية القرظي لم ينبت آنذاك، وكان صغيرًا حين شهد قتل قبيلته، ومن فضل الله عليه أنه أسلم بعد ذلك وصار صحابيًّا -رضي الله عنه- يروي ويُروى عنه، كما جاء في أُسْد الغابة (3/ 543). وجاء في تهذيب الأسماء واللغات للنووي: قال العلماء: لا نعرف له غير هذا الحديث، ولا نعرف نسبه، روى عنه مجاهد، وعبدالملك بن عمير، وكثير بن السائب، وحديثه هذا رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح... [1] . فكانت تلك الأحداث بدءًا من خيانة اليهود ثم قتله صلى الله عليه وسلم لقريظة قومه خيرًا له، وفضلًا من الله عليه! ومثله أيضًا: كعب بن سليم القرظي ثُمَّ الأوسي، كَانَ من سبي قريظة الذين استحيوا إذ وجدوا لم ينبتوا، ولا تعرف لَهُ رواية... [2] ، وهو والد الإمام في التفسير محمد بن كعب القرظي، التابعي، جاء في ترجمته: أبو حمزة، القرظي، المتوفى سنة 108هـ، سمع ابن عباس، وزيد بن أرقم، قال أبو نعيم: مات سنة ثمان ومائة، سمع منه الحكم بن عتيبة، وابن عجلان، ويقال: محمد بن كعب بن سليم، وكان أبوه ممن ‌لم ‌ينبت يوم قريظة فترك... [3] . فانظر كيف كانت الأقدار الربانية؟! وكيف كان التدبير الإلهي؟! قال الذهبي: الإمام، العلَّامة، الصادق، أبو حمزة - وقيل: أبو عبدالله - القرظي، المدني، وكان أبوه كعب من سبي بني قريظة، سكن الكوفة، ثم المدينة. قالت أم محمد بن كعب القرظي له: يا بني، لولا أني أعرفك طيبًا صغيرًا وكبيرًا، لقلت: إنك أذنبت ذنبًا موبقًا؛ لما أراك تصنع بنفسك. قال: يا أماه، وما يؤمنني أن يكون الله قد اطَّلع علي، وأنا في بعض ذنوبي، فمقتني، وقال: اذهب، لا أغفر لك، مع أن عجائب القرآن ترد بي على أمور حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي... وكان لمحمد بن كعب جلساء من أعلم الناس بالتفسير، وكانوا مجتمعين في مسجد الربَذَة، فأصابتهم زلزلة، فسقط عليهم المسجد، فماتوا جميعًا تحته... [4] . وشبيه بذلك جدًّا ما حدث لأحد أعظم شخصيات التاريخ الإسلامي في مواجهة التتار، وهو الملك المظفر قطز! سيف الدين ‌قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، واسمه الأصلي محمود بن ممدود، وهو من بيت مسلم ملكي أصلي، وهو رحمه الله ابن أخت جلال الدين بن محمد بن خوارزم الذي هزم التتار مرتين، ثم هزم وفر إلى الهند، ثم عاد إلى أرض فارس وقتل الكثير من المسلمين إلى أن قُتِل. فالتتار لما أمسكوا بعضًا من أهل جلال الدين بن خوارزم بعد فراره إلى الهند، كان ‌قطز أحد هؤلاء الذين أمسكهم التتار، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم؛ ليباعوا في سوق الرقيق، وكان ممن بقي محمود بن ممدود أو ‌قطز. ثم إنهم أطلقوا هم الذين أطلقوا على ‌قطز اسم ‌قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني: الكلب الشرس، فقد كان واضحًا على ‌قطز علامات القوة والبأس من صغره؛ فلذلك أطلق عليه التتار هذه الكلمة، ثم باعوه بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك؛ ليصبح أكبر قوَّاده، ثم يكون ملكًا على مصر، وبعد فترة قصيرة من حكمه يواجه التتار (الذين أمسكوه وباعوه) ويرتطم معهم في معركة عين جالوت الشهيرة ويقتلهم قتل الخراف! [5] . وهكذا.. فكم في المحن من منح! ويا لأقدار الله، ما أعجبها! ويا لتدبيراته، ما أروعها! وإنه لباب للتفكر لو وجد عقلًا! ومجال للعبرة لو وجد قلبًا! [1] تهذيب الأسماء واللغات (1/ 533). [2] أسد الغابة في معرفة الصحابة (4/ 179) . [3] التاريخ الكبير (1/ 216). [4] سير أعلام النبلاء (5/ 65). [5] دروس صوتية بعنوان: التتار من البداية إلى عين جالوت، الشريط الثامن.
دعوة الملوك إلى الإسلام تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية إلى الدعوة في الآفاق، وإلى مراسلة ملوك الفرس والروم والقبط، فأرسل لهم الكتب التي تدعوهم إلى الإسلام. • أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس بمصر، فقبل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى إليه مارية القبطية وأختها، ومعهما خادم، وحمار اسمه يعفور. • أرسل شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما قرأه قال: أنا ثائر إليه، ثم قتل شجاع بن وهب. • وأرسل دحية الكلبي إلى قيصر "هرقل"، فاستشار صاحب رومية فقال له: إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه، فاتبعه وصدقه، فجمع أهل الدين عنده وعرض عليهم الأمر وأنه يريد الدخول في الإسلام فنخروا عليه نخرة واحدة، وهددوه في ملكه، فصرف النظر، وقيل: أرسل بطلب رجل من العرب فأتوا بأبي سفيان وكان في تجارة بالشام فأحضروه، وسأله هرقل عن النبي الذي ظهر عندهم وعن صفاته وأخلاقه حتى وقر في قلبه - بعد أجوبة أبي سفيان - أنه النبي المنتظر، لكنه قال لدحية: إن صاحبك نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، وروي أيضًا أن هرقل أرسله إلى الأسقف الأعظم ضغاطر، وعرض عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فصدقه، ثم جمع الروم في الكنيسة وقال: يا معشر الروم، قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فوثبوا عليه فقتلوه. • وأرسل عبدالله بن حذافة إلى كسرى، فأعطاه كسرى فمزقه، وكاد يقتل عبدالله، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمزق الله ملكه، وأرسل كسرى إلى عامله باذان في اليمن أن يرسل رجلين جلدين فليأتيا بمحمد، وقدما المدينة، فأخبرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، وبعث معهما إلى باذان يدعوه إلى الإسلام ويقره على اليمن، فأسلم باذان. • وأرسل عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فلما سلمه الكتاب آمن، وعز المسلمون في الحبشة، وكانوا لا يزالون في الحبشة مع جعفر في أمان، وحدث أن ارتد عبيدالله بن جحش، فانفصلت عنه زوجته رملة بنت أبي سفيان، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من النجاشي أن يزوجه رملة، ففعل، وأصدقها أربعمائة دينار، فلما سمع أبو سفيان بهذا الزواج قال: ذاك الفحل لا يُجدَع أنفه، وعاد المسلمون بعد ذلك من الحبشة في السنة السابعة عام فتح خيبر. • وأرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى حاكم البحرين - الأحساء - من قِبل الفرس، فلما قرأ الخطاب أسلم، وأسلم عرب تلك المنطقة، ومن كان فيها من الفرس أو اليهود أو النصارى فترك لهم حرية الاختيار بين الإسلام أو الجزية. • وأرسل سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة - وكان نصرانيًّا - فلما قرأ الكتاب أرسل وفدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: إن أشركته في هذا الأمر من بعدك أسلم وسار إليك ونصرك، وإلا فسيقصدك لحربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ولا كرامة، اللهم اكفِنيه))، فمات بعد قليل. نموذج من خطاب النبي للملوك: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإني أدعوك بدعاء الله، وإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر ﴿ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [يس: 70]، لقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة العالمية بعد صلح الحديبية منفِّذًا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [البقرة: 119]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وأي رحمة بهؤلاء العالمين أفضل من أن يدعوهم إلى الإسلام وينقذهم من ضلال الكفر وعذاب جهنم الأبدي؟ ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ﴾ [سبأ: 28]، ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67].
داود وسليمان عليهما السلام (1) نتحدَّثُ عن النبيَّيْنِ الرسولَيِنْ الملِكَيْنِ الكريمَيْنِ داودَ وسليمانَ عليهما الصلاة والسلام، وكان أوَّلُ ذِكْرٍ ثابت لداود عليه السلام هو ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن قتلِ داودَ لجالوت في الحرب التي دارت بين طالوت وجالوت في فلسطين، والظاهر من سياق القرآن الكريم لقصة هذه الحرب يُفيد أنَّ بني إسرائيل قد حاربهم جماعة من الوثنيين، وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، وكان على رأس هؤلاء الوثنيين جالوت لعنه الله، وقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياءُ، كلَّما مات نبي بعث الله عز وجل لهم نبيًّا آخر، يشرح لهم التوراة، ويحكم بها فيهم، ويبيِّن لهم ما غيَّروه وحرَّفوه وبدَّلوه من الكلم عن مواضعه، على حد قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾؛ (أي انقادوا لأمر الله) ﴿ لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾؛ (أي صاروا يهودًا) ﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]، وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلَك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي ))، فكان أنبياء بني إسرائيل كعلماء أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أنه كان يُوحى إليهم، فلما اشتدَّت الحرب على بني إسرائيل طلبوا من نبيِّهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون تحت رايته أعداء الله من الوثنيين، فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام أنه يخشى عليهم أن ينكلوا عن القتال إذا فرض عليهم ولا يَفُوا بما التزموا به، فقالوا: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246]؛ أي: أُخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد، فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام أن الله قد عيَّن لهم ملِكًا منهم هو طالوت، فاعترضوا على هذا التعيين، وقالوا: كيف يُعيِّنُ اللهُ علينا طالوت ملكًا ولم يكن في آبائه من ملك؟! فنحن أحقُّ بالملك منه، مع أنه فقير قليل المال، فأجابهم نبيُّهم عليه السلام بأن الله عز وجل قد اختاره عليكم وفضَّلَه من بينكم، وقد أعطاه الله عز وجل بسطَةً في العلم والجسم، فهو أعلم منكم بشؤون الحروب وتدبير الأمور، وأشد منكم قوَّة وصبرًا وجلدًا لملاقاة الأعداء، فلا تعترضوا ولا تتعنَّتُوا، وأنتم تعلمون أن الله هو الذي اختارَه وعيَّنه ملكًا عليكم، والله يؤتي مُلكَه من يشاء، والله واسع عليم، وقال لهم نبيُّهم: إن الله تبارك وتعالى جاعلٌ لكم آيةً على صحَّةِ مُلْك طالوت عليكم؛ وهي رجوع الصندوق الذي يشتمل على بعض آثار موسى وهارون، وقد عجزتم عن إرجاعه من يدِ مغتصبيه، ولن يُطلب منكم بذل مجهود في استرجاعه، بل سيجيء الصندوق تحملُه الملائكة فيه طمأنينة لبني إسرائيل، ودلالة ظاهرة على أن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، فصدِّقوا وَعْدَ الله وسارِعوا إلى طاعة طالوت وآمِنوا بما أخبرتكم به عن الله عز وجل، ولَمَّا انقادوا لذلك وتهيؤوا لقتال جالوت وجنوده تحت راية طالوت رحمه الله، وكان من بينهم داود عليه السلام، أخبرهم طالوت رحمه الله أن الله عز وجل سيختبرهم؛ حيث يَمُرُّون بنهرٍ وهم عطاش وهو يمنعُهم من الشرب منه لما يعلمه الله عز وجل أن الشرب منه يضرُّهم، والعجيب أنه لا يزال بعض قادة الجيوش إلى اليوم يحرِّمون على جنودهم أن يشربوا في أثناء زحفهم على عدوِّهم؛ لما يترتَّب على ذلك من الضرر بصحتهم، إلا أنهم يجيزون لهم أن يبلوا ريقهم بلًّا خفيفًا؛ ولذلك أذن طالوت لجيشه بأنه لا مانع من أن يغترف الواحد منهم غُرفة بيد تَبُلُّ ريقَه، ولا تعتبر شربًا، وهذا من آثار بسطة عِلم طالوت رحمه الله، وقد حذَّرهم طالوت وعرَّفهم أن مَن شرب من هذا النهر لا يصحبه في قتال أعداء الله من الوثنيين أتباع جالوت، ولا يجاوز النهر، غير أنه عندما وصل هذا الجيش إلى النهر عصوا طالوت وشربوا منه سوى عددٍ قليل منهم امتنع عن الشرب من النهر طاعة لطالوت رحمه الله. وقد جاء في بعض الآثار الصحيحة أن الذين جاوزوا النهرَ مع طالوت كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا بعدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهرَ بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله، ما جاوز معه النهر إلا مؤمن، وفي لفظٍ للبخاريِّ عن البراء قال: "كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أنَّ عدَّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن: بضعة عشر وثلاثمائة"، وفي لفظ للبخاري رحمه الله من حديث البراء رضي الله عنه قال: "كنا نتحدَّث أن أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر بعدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن". ولما جاوز طالوتُ النهرَ هو والذين آمنوا معه وجدوا أن عدوَّهم جالوت قد حشد جنودًا، وأعدَّ عدَّةً عظيمة، فقال بعض المؤمنين من أصحاب طالوت: لا طاقة ولا قدرة لنا اليوم على قِتال هذا العدوِّ الكثير؛ كأنهم استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم، فشجَّعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حقٌّ، وأن النصر من عند الله ليس بكثرة العدد وقوة العدد، وأنه ينبغي للمسلم أن يرغب في الاستشهاد ولقاء الله في سبيل الله قائلين لهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249، 250] سألوا الله عز وجل أن ينزل عليهم الصبرَ، وأن يُثبِّت أقدامهم في لقاء الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين، فاستجاب الله دعاءهم ونصرهم على أعدائهم، وقتل داودُ جالوتَ ملكَهم، وسارع طالوت بالتنازل عن الملكِ لداود، وبعث الله عز وجل داودَ نبيًّا رسولًا، وجعله ملِكًا كريمًا على بني إسرائيل، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على طالوت ووصفه بأوصاف كريمة. أمَّا ما زعمه بعضُ المفسرين والإخباريين من أن طالوتَ حسدَ داودَ وأصيب بالجنون وهام في الصحراء، فإنَّه زَعْمٌ باطلٌ لا دليل عليه من خبر ثابت، وقد أورد الله تبارك وتعالى قصَّةَ طالوت وحربه جالوتَ، وتمليك داود حيث قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252].
العولمة والبطالة هناك أُطروحاتٌ تذكر أن التوجهَ إلى العولمة سيزيد من حِدَّةِ البطالة في العالم كافة، وفي الدول المتقدمة بخاصة، وهناك من يتوقع "بنمو سريع في جزءٍ كبير من العالم الثالث في شرق آسيا وجنوبها، ومن المحتمل في أمريكا اللاتينية، وسوف تُحوِّل معدلاتُ النمو العالية والمستمرة نصيبًا ملحوظًا من الإنتاج العالمي إلى الدول النامية الكبرى؛ مثل: الصين والهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية" [1] . المتوقع أنه "بحلول عام 2020 سوف تمثل الدولُ النامية أكثرَ من 60% من الإنتاج العالمي، في حين تمثل الدول الصناعية الغنية أقل من 40%" [2] . هذا الطرحُ المتشائم قد يؤدي إلى الحدِّ من المزيد من الرغبة في الهجرة إلى الدول المتقدمة، التي لم تعُدْ قادرة على استيعاب المزيد، كما قد يؤدي إلى نشوء "عمالة" رخيصة، ذات أجور منخفضة أو متدنية، تهاجر إليها الأعمالُ، بدلًا من أن تهاجرَ هي إلى مواطن العمل، مما يؤثر على نوعية الإنتاجية [3] . تملك العولمة "إمكاناتٍ هائلة لنقل البطالة من مكان إلى آخر، فإذا كانت الاستثماراتُ تتدفَّق على بلد بسبب انخفاض أجور الأيدي العاملة مثلًا، فإن تلك الاستثماراتِ تظل على أُهبةِ الاستعداد للرحيل إلى بلد آخر، تكون الأجور فيه أرخص" [4] ؛ لهذا وبسبب العولمة، "وعبر نشاطاتِ الشركات المتعددة الجنسية، لجأت كثيرٌ من الصناعات التحويلية في أوروبا وغيرها إلى الانتقال إلى البلدان النامية؛ للاستفادة من المزايا والامتيازات التي وفرتها تلك البلادُ للاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ من نحو: الإعفاءات الضريبية، ورخص الطاقة والأرض واليد العاملة، وتحمل تكلفة التلوث البيئي" [5] . يذكر حسين عبدالهادي في هذا الصدد أن "هناك خطةً لتوزيع الصناعة عالميًّا، واتجاهًا واضحًا إلى إبقاء أنواع الإنتاج التي تتطلب جهودًا علمية أكبرَ في الدول الصناعية المتقدمة، ونقل الأنواع الأقل تعقيدًا والأكثر سكونًا، والتي تتطلب جهودًا عضلية كبرى إلى البلدان النامية؛ حيث اليدُ العاملة أرخص، وحيث تكون اعتباراتُ حماية البيئة أقلَّ تشدُّدًا" [6] . ظهر في بعض الدول النامية ما يمكن تسميتُه بمناطق الصناعات التصديرية، "وتضمُّ هذه مئات المصانع التي تصنع منتجاتِ الشركات الأجنبية: الثياب التي يشتريها الناس في الشوارع الرئيسية في بريطانيا، وفي المراكز التجارية في أمريكا الشمالية وأستراليا؛ من الأحذية الرياضية الشهيرة غاب إلى نايكي وأديداس وريبوك، التي تُباع بنحو 100 جنيه إسترليني للزوج الواحد في شارع أكسفورد بلندن، ويعمل في هذه المصانع عمالٌ يتقاضون ما يعادل دولارًا واحدًا في اليوم" [7] ، وقد تدوم ساعاتُ العمل في هذه المصانع إلى ست وثلاثين ساعة دون ترك المصنع [8] . هذا بدوره وفي الوقت نفسه مؤشر خطر بالنسبة للدول المتقدمة، لا سيما مع هذا التنامي في الحاجة إلى سدِّ النقص في عدد سكانها المتراجع [9] ، في ضوء تناقص الهجرة إلى الشمال، الذي يصاحبه التناقصُ في التكاثر المحلي، بما يطلق عليه "موت الغرب" [10] ؛ بحيث يصبح البِيضُ في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية أقلَّ من 50% من عدد السكان، وتصبح الثقافات الأخرى غير الأوروبية - كالثقافة الإسلامية - تقتربُ من الثقافة الغربية القائمة على التقاليد المسيحية ثم اليهودية، فاختلط الأنا بالآخر، عندما أصبح الآخرُ جزءًا من المسرح الغربي [11] ؛ مما أدى - ولأسباب ثقافية واقتصادية أخرى - إلى الالتفاف على قوانين الهجرة، وإعادة النظر فيها، واقتصارها على العمال الماهرين (العقول Brain Drain )، وليس العمال غير الماهرين (السواعد) [12] ، مع تشجيع العودة للأسرة "التقليدية"، ودعم الإنجاب للوصول إلى الحد الأدنى للبقاء، وهو معدل 2,1، في مقابل الواقع الذي وصل المعدل فيه إلى 1,2، كما تذكر صحيفة الهيرالد تريبيون في عددها ليوم الاثنين 4/ 9/ 2006م. هذا بالإضافة إلى بروز ظاهرة الهجرة العمالية المعاكسة؛ حيث أفرزت أحداثُ يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر جُمادى الآخرة 1422هـ الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ظهور شعور بالاضطهاد للعرب والمسلمين ومَن في حُكمهم في الدول المتقدمة؛ مما جعل العمالَ العرب والمسلمين المهاجرين - وتدخل معهم فئاتٌ إثنية وثقافية شرقية أخرى - يبدؤون في إعادة النظر في تقويم وجودهم في البلاد الغربية، والموازنة بين الحقوق التي يحصلون عليها في مقابل ما يتعرضون إليه وأُسرهم من مضايقاتٍ، على مستويات اجتماعية من بيئة العمل إلى وسائط التفاعل الاجتماعي. هذا بالإضافة إلى عوامل الترحيل، التي يتعرض لها العمال العرب والمسلمون ومن يدخل في حكمهم في ضوء الحملة على الإرهاب، لا سيما أن هناك إشاراتٍ "إلى أن العائدين اشتكوا من سوء المعاملة داخل السجون الأمريكية لأصحاب الجنسيات العربية" [13] ، فأضحى هؤلاء العمالُ ضحايا بريئةً للحملة على الإرهاب [14] . أما إذا أردنا تطبيقَ ذلك على منطقة الخليج العربية، فإن مفهوم البطالة الذي وضعته منظمة العمل الدولية، المتمثل في: رغبة العامل في وجود عملٍ يملِك العاملُ التأهيلَ له، ويبحث عنه فلا يجده - قد لا ينطبق موضوعيًّا على وجود عدد من الباحثين عن العمل من المواطنين الخليجيين؛ ذلك لافتقار بعضِهم إلى الرغبة، وافتقار فئة ثانية إلى التأهيل والتدريب، وحاجة البقية إلى الجدية في البحث عن العمل، وانصراف فئة رابعة، وهي الأغلبية، إلى العمل الحكومي؛ حيث الأمان الوظيفي من جهة، وحيث التساهل في قياس الإنتاجية من جهة ثانية، وحيث التهاون في تطبيق مبدأ الثواب والعقاب من حيث الانضباط في العمل من جهة ثالثة؛ مما أدى إلى اتهام الوظيفة الحكومية بأنها مرتعٌ للبطالة المقنَّعة. هذا مفهومٌ للبطالة أوسع من التعريف المهني المباشر لها؛ "فالذي لا يعمل هو في حالة بطالة لا نقلل من شأنها، ولكن الذي يعمل تحت إجبار الاحتياج ولا يربطه بعمله إلا المقابل المادي، هو أيضًا في حالة بطالة من نوع آخرَ، لا يقل خطورةً في معناه وأبعاده وعواقبه الاجتماعية والنفسية" [15] . يأتي هذا الاحترازُ توكيدًا على تعريف البطالة الذي تبنَّاه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أنه: "كل الأفراد فوق سِنٍّ معينة ممن لا يعملون بأجر أو لحسابهم الخاص، والمتوفرين للعمل، واتخذوا خطوات محددة؛ بحثًا عن عمل بأجر أو لحسابهم الخاص" [16] . مع هذا لا بد من التسليم بوجود بطالة في منطقة الخليج العربية بين الشباب من الجنسين خاصة، وأن على دول المنطقة اتخاذَ التدابيرِ المناسبة "لتنسيق الحماية من البطالة فيها في سياستها في مجال العمال، وتحرص لهذا الغرض على أن يُسهمَ نظامُ الحماية من البطالة فيها - لا سيما طرائق تقديم إعانات البطالة - في تعزيز العمالة الكاملة والمنتجة والمختارة بحرية، وألا يكونَ من أثرها عدمُ تشجيع أصحاب العمل على عرض عمالة منتجِة، والعمال عن البحث عن هذه العمالة" [17] ، هذا نصٌّ من المادة الثانية من الاتفاقية الدولية ذات الرقم (168) لعام 1988م، والتوصية ذات الرقم 176 من العام نفسه، بشأن تعزيز العمالة والحماية من البطالة. لا تتوسع هذه الوقفة في مناقشة آثارِ البطالة الاجتماعية، التي تؤدي إلى "كثير من التخلخل الاجتماعي، في صورة تطرف سياسي أو ديني أو طائفي، إلى شيوع الاتِّجار وتعاطي المخدرات، وإلى مختلف ظواهر العنف والجريمة والإرهاب، وإلى إدمان الخمور والقِمار، وإلى مختلف ظواهر الاغتراب، وما عُرف بالهَوَس والتحرر الشبابي" [18] . كلُّ هذه القلاقل قد تحصل في أي مجتمع متقدم أو نامٍ [19] ، بما في ذلك منطقة الخليج العربية، التي تُعدُّ منطقةً جاذبة لمثل هذه القلاقل جرَّاءَ وجود عمال غيرِ مواطنين عاطلين عن العمل، مع وجود مواطنين عاطلين عن العمل [20] ، في الوقت الذي تملك فيه دولُ المنطقة القدرةَ على تقليص هذا الوضع العمالي غير الطبيعي، بمواصلة الجهود في التخلُّص من العمال الوافدين الزائدين عن الحاجة، وضبط السوق الخليجية، بحيث يعمل العاملُ فيما استُقدم له، وتطبيق أنظمة مكافحة التستر [21] ، وبعض الأمور الإجرائية العمالية التي لا بد منها، والتي تتطابق مع الاتفاقيات العمالية الدولية، وتتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان. [1] انظر: عاطف السيد، العولمة في ميزان الفكر: دراسة تحليلية، د. م: المؤلف، 2002م، ص 118 - 119. [2] انظر: عاطف السيد، العولمة في ميزان الفكر: دراسة تحليلية - المرجع السابق - ص 118. [3] انظر: ميشيل تشوسودوفيسكي، عولمة الفقر/ ترجمة محمد مستجير مصطفى، القاهرة: مجلة سطور، 2000م، ط 2، ص 77 - 78، وانظر كذلك: بهاء شاهين، العولمة والتجارة الإلكترونية - مرجع سابق - ص 28. [4] انظر: عبدالكريم بكار، العولمة: طبيعتها - وسائلها - تحدياتها - التعامل معها، عمان: دار الأعلام، 1421هـ/2000م، ص 94. [5] انظر: عبدالكريم بكار، العولمة: طبيعتها - وسائلها - تحدياتها - التعامل معها، المرجع السابق، ص 92. [6] انظر: حسين عبدالهادي، العولمة النيوليبرالية وخيار المستقبل، جدة: مركز الراية للتنمية الفكرية، 1424هـ/ 2004م، ص 355. [7] انظر: جون بلجر، أسياد العالم الجدد/ ترجمة عمر الأيوبي، بيروت: دار الكتاب العربي، 2003م، ص 21 - 22. [8] انظر: جون بلجر، أسياد العالم الجدد - المرجع السابق - ص 21. [9] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا/ تعريب جوزف منصور، بيروت: عويدات، 2006، ص 223. [10] انظر: باتريك ج. بوكانن، موت الغرب: أثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب/ نقله إلى العربية محمد محمود التوبة، راجعه محمد بن حامد الأحمري، الرياض: مكتبة العبيكان، 1425هـ/ 2005م، 529 ص. [11] انظر: جاك غودي، الإسلام في أوروبا - مرجع سابق - ص 223. [12] انظر: موضوع هجرة العقول العربية، في: نجاح كاظم، العرب وعصر العولمة: المعلومات؛ البعد الخامس - مرجع سابق - ص 227 - 233. [13] انظر: محمد رؤوف حامد، القفز فوق العولمة، القاهرة: دار المعارف، 2003م، ص 65 - 76، (سلسلة اقرأ؛ 683). [14] انظر: محمد بن عبدالله السلُّومي، ضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب، الرياض: مجلة البيان، 1426هـ/ 2005م، ص 304 (سلسلة كتاب البيان؛ 63). [15] انظر: منى حلمي، الحب في عصر العولمة - مرجع سابق - ص 35. [16] انظر: تقرير التنمية البشرية لعام 2001: توظيف التقنية الحديثة لخدمة التنمية البشرية، القاهرة: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2001م - ص 256. [17] انظر: عدنان خليل التل َّ اوي، القانون الدولي للعمل: دراسة في منظمة العمل الدولية ونشاطها في مجال التشريع الدولي للعمل، جنيف: المكتبة العربية، 1410هـ/ 1990م، ص 361 - 362. [18] انظر: حامد عمَّار، مواجهة العولمة في التعليم والثقافة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006م، ص 99. [19] انظر: فتحي قابيل محمد متولي، مشكلة البطالة: الأسباب - المعوقات - الحلول، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008م، ص 87 - 89. [20] انظر: سيد عاشور أحمد، مشكلة البطالة ومواجهتها في الوطن العربي، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 2008م، ص 117 - 142. [21] محمد عبدالله البكر، أثر البطالة في البناء الاجتماعي: دراسة تحليلية للبطالة وأثرها في المملكة العربية السعودية، مجلة العلوم الاجتماعية (جامعة الكويت)، مج 32 ع 2 (2004).
أسئلة بحثية ومناقشة عقلية يمكن أن تسهم إلى حدٍّ ما في توظيف أي ميدان به كوادر بشرية التوظيف الأمثل عندما يكون ميدانُ أيِّ جهة مجالًا خصبًا للتجارب المفاجئة، والأفكار الآنية، فسيبقى في مجال التأرجُّح، وضعف الوصول لتحقيق الأهداف الغائية بعيدة المدى، فما يكون آنيًّا ينتهي كما بدأ. ولذا أرى أن تُطرَح بعض الأسئلة البحثية والمناقشة العقلية لأي فكرة أو مشروع أو برنامج، يُطرَح في مجال عام أو خاص على أصحاب القرار قبل أن يُزَجَّ به في الميدان: هل هذه الفكرة مدروسة أم فكرة عاجلة آنية مطروحة؟! وهل معايير التمايز والتفاضل بين هذا وذاك في هذا المشروع أو البرنامج معلنة للفئة المستهدفة كثقافة عامة؛ لتقدِّم الفئة المستهدفة أجود ما لديها؟! وإن كانت المعايير معلنة وثقافتها تشبع بها الميدان والفئة المستهدفة، فهل حدد ما سيقدم للفئة المكرمة أو الموهوبة أو المستقطَبة - من هذا البرنامج أو ذلك المشروع - من الفرص والمجالات التطورية، والاحتواء الفعلي لهم بعد التكريم وتسليط الأضواء عليهم، والاستفادة منهم فيما خُصِّص لهم وبرَعوا وبزوا فيه غيرهم، أم سيكون تكريمًا عابرًا ويُطوى مع النسيان بعد فترة وجيزة من طرح الفكرة أو المشروع أو البرنامج، مقابل ما سيُنفق عليها من الوقت والمال والجهد؟
جوانب العظمة في حياة أبي بكر الصديق رضى الله عنه قبل الإسلام وبعده دائمًا ما يحب الناس قراءة التاريخ، والتعرف على أحداثه، من قبيل التسلية أو التعلم من هذا التاريخ؛ لما في ذلك من سرد لأحداث التاريخ التي مضت، وذكر لجوانب عظمة المسلمين وفترات توهجهم وحضارتهم التي عمرت الدنيا، ولا غرو فتاريخ المسلمين هو مَعِين ومرجع كبير، نتعلم منه الأحكام الشرعية والعبادات والشعائر، والأمور السياسية والاجتماعية، وغيرها من أمور الحياة العامة والخاصة. وعلى مسار هذه الأحداث والسنين تجد أن كتب التاريخ تعتني بشكل كبير جدًّا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، سواء سيرته العطرة أو أعماله العظيمة، ودلائل نبوته، ويكون هناك إسهاب في شرح هذه السيرة، وعرض مُفصَّل لها ولأحداث حياته، وللأمور الغيبية التي تحدث عنها، ثم يتبع ذلك مرور سريع وعجيب على سيرة أبي بكر الصديق، ولا يأخذ الصديق حقَّه من عرض سيرته بالتفصيل، وتوضيح جوانب عظمته والتعلم منها، ثم يتبع ذلك تبحر في سيرة عمر بن الخطاب؛ حيث تُكتَب فيه الكتب، وتُعدُّ البحوث،... إلى غير ذلك من الشخصيات؛ كخالد بن الوليد، وصلاح الدين. فأرى أن أبا بكر هو الأقل حظًّا في هؤلاء كلهم من حيث الاهتمام بسيرته وعرضها بالتفصيل وبالبحث، لا تكثر الكتب المعرفية المناسبة لشرح جوانب عظمة الصديق، فلقد كانت سيرته ناصعة البياض، ونموذجًا لا ترى في الزمان مثله بعد الأنبياء. وبالنظر إلى التراث العلمي المتاح حاليًّا، نجد القليل مما كتب عن حياة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه. لذا أجد لزامًا أن نتبحر أكثر ونغوص في حياة الصِّدِّيق؛ لنستخرج ما فيها من درر وجواهر، ترشدنا في طريق النهضة الحديثة، فحياة الصِّدِّيق رضي الله عنه قبل الإسلام وبعده، قبل خلافته وبعدها كانت كلها مواقف عظيمة تدل على السمات التي اتصف بها، وأخلاقه الحميدة التي تماثل بشكلٍ كبير أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غرو فقد كان أشد الصحابة تمسكًا بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال في خطبته الأولى: "إنما أنا مُتَّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني"، في سياسية واضحة يرسم بها خريطة وطريقة حكم المسلمين في خلافته. ولكل ما سبق أجد أن الحديث عن حياة الصِّدِّيق المليئة بالأحداث العظيمة لَهُوَ أمر واجب في هذا الزمان، وفيما يلي عرض لبعض جوانب عظمة الصِّدِّيق رضي الله عنه، وما يُستفاد منها في عصرنا الحاضر، وسيتم استكمالها في مقالات لاحقة تليق بصاحب السيرة الطيبة وما يستفاد منها لعصرنا الحاضر: أولًا: قبل الإسلام: 1- منزلة أبي بكر العظيمة في قومه قريش قبل الإسلام؛ حيث كان صاحب الدِّيَات والمغارم، وهي وظيفة مرموقة تماثل وزير التضامن الاجتماعي حاليًّا، فكان مسؤولًا عن تجميع الديات وتسليمها لأهل الميت، وكذلك سداد الديون عن الغارمين، وهي وظيفة ولا شك ستدفعه إلى أن يتصدق من ماله لأداء هذه الوظيفة. 2- عالم الأنساب: كان أبو بكر نسَّابة قريش، فمن أراد أن يعرف نسب أي شخص يرجع إلى أبي بكر؛ فهو عنده العلم بهذا الباب، وهي ثقة كبيرة من قريش فيه ليكون هو المحدِّث بأنسابهم، وكان أبو بكر عفَّ اللسان، فإذا رأى في عِرْضِ أحدٍ شيئًا تجاوز عنه. 3- كان أبو بكر يتصف بصفات عظيمة كما وصفه ابن الدغنة، عندما أراد أبو بكر الهجرة إلى الحبشة؛ قال له ابن الدغنة: "فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم"، وكان حلو المعشر سهلًا لينًا، صدوقًا مقربًا. ثم بعد الإسلام: 1- الصاحب والصديق: هو صاحب النبي وصديقه؛ فقد كانا متقاربين في السن (النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر بعامين فقط)، وكانت الثقة والمودة بينهما عظيمة جدًّا. 2- فكره : لما جاء الإسلام وعَرَضَهُ النبي على أبي بكر لم يتوانَ أبو بكر أن يعلن إسلامه من أول لحظة، فكان أول الرجال إسلامًا. 3- إنفاق ماله : أول من حرر العبيد في الإسلام، فصرف ماله على إعتاق العديد من الصحابة المشهورين، وهو ما تكرر طوال أيام حياته في العديد من المواقف قبل الهجرة وبعدها. 4- الداعية الثاني : كان أبو بكر ثاني الدعاة إلى الإسلام، ففي ثوانٍ أتى بعدد من كبار الصحابة السابقين لاحقًا ليدخلوا هذا الدين؛ مثل أبي عبيدة بن الجراح، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف. 5- الصاحب في الهجرة : اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون صاحبه في الهجرة، فكانت منزلة عظيمة لأبي بكر أن يكون هو المصاحب للنبي في الهجرة، ونال بشرفها قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين. 6- أمير الحج الأول : في عام 9 للهجرة، وهو العام الذي أوحى الله لنبيه أن يقيم مناسك الحج على منهج إبراهيم عليه السلام، وأن يرسي معالم ومنهجية الحج في الإسلام، فأرسل النبي أبا بكر الصديق أميرًا على الحج إلى مكة؛ ليبلِّغ الناس تعاليم الدين ونظامه في الحج. 7- الإمام الثاني للمسلمين : في الفترة الأخيرة من مرض النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أبا بكر أن يصلي إمامًا بالمسلمين في المسجد النبوي، فكان أول من أمَّ الناس بالصلاة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. 8- الخليفة الأول : كما كان هو المؤمن الأول، والصاحب الأول، والداعية الثاني، كان هو الخليفة الأول الذي تولى الخلافة في وقت عصيب جدًّا، فعنده ميراث النبوة الذي يجب أن يسير على منهجه في كافة أموره، وعنده قبائل العرب التي ارتدَّ معظمها عن الإسلام، فكانت مهامُّ جِسامٌ سنأتي على ذكرها إن شاء الله. 9- ثبات وصبر: عندما بلغ المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وهنت قواهم وأصابهم الذهول، ولم يعرفوا كيف يتصرفون وفزعوا فزعًا شديدًا، إلا أبا بكر الصديق، فبالرغم من حبه الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ثابتًا صابرًا راضيًا بقضاء الله عز وجل، وجعل يُثبِّت الناس على الدين. 10- الفاتح الأول : بعد توليه الخلافة والقضاء على المرتدين، بدأ أبو بكر في تنفيذ وعود ونبوءات النبي صلى الله عليه وسلم من فتح فارس والروم، فبدأ أبو بكر في إرسال الجيوش لفتح هذه البلاد، وكان ذلك في وقت قياسي منذ توليه البعثة. 11- المحب الأول : لم أجد في التاريخ أحدًا يحب أحدًا مثل حب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان محور حياته كلها مرتبطًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان يتواجد دائمًا في الزمان والمكان الصحيحين، وكانت فرحته وسعادته مرتبطة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان حديثه كله عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول في الهجرة: "فشرِبَ النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت"؛ انظر إلى الحب، فمن شرب هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ارتوى وشبِع هو أبو بكر، فيا لها من محبة وكرامة! وهذا العظيم لا بد من إفراد الكتب والبرامج لشرح جوانب عظمته، ومكانته في صدر الإسلام،، وسأحاول أن أعرض بعضًا من جوانب عظمته في مقالاتي التالية؛ لعلها تكون بداية لغيري، ولعل الله أن ينفعني بها، وحديثي عن أبي بكر لن يكون على النمط المعروف من شرح السيرة من كتاب واحد، واعتماد مبدأ شرح سيرته من الميلاد إلى الوفاة، بل سنتبع أسلوبًا جديدًا لعرض سيرته، وربطها بالصفات المطلوب أن يتعلمها المسلمون في عصرنا الحاضر، سواء في حب النبي صلى الله عليه وسلم، والقيادة، والأخلاق الحميدة، وأساليب التعامل الراقية، وطريقة اتخاذ القرارات الهامة، والله أسأل أن يوفق ويعين. المراجع: « أبو بكر الصديق »، للشيخ علي الطنطاوي. « صحيح التوثيق في سيرة وحياة الصديق رضي الله عنه»، مجدي فتحي السيد.
البدر المنير الساري في الكلام على صحيح البخاري لقطب الدين الحلبي صدر حديثًا كتاب "البدر المنير الساريفي الكلام على صحيح البخاري"، تأليف: الإمام الحافظ "عبد الكريم بن عبد النور قطب الدين الحلبي" (٦٦٤-٧٣٥)، تحقيق: "اللجنة العلمية بدار الكمال المتحدة" إشراف ومراجعة: "عطاءات العلم"، في مجلدين، نشر: "دار عطاءات العلم للنشر والتوزيع"، و"دار المنهاج القويم للنشر والتوزيع". وهذا الإصدار السادس ضمن إصدارات موسوعة صحيح البخاري، ويطبع هذا الكتاب المفقود على ثلاث قطع خطية منه. حيث التُقطت بقايا هذا الكنز من مكتبات متفرقة في العالم وأُلِّف بينها في مجلدين خُدما بأيد متقنة ليوضع بين يدي الباحثين فاكهة غضة طرية تسر الناظرين. ونجد أن كل من ترجم للقطب الحلبي نص على أنه ألف شرحًا موسعًا على صحيح البخاري، لكنه لم يتمه، وإنما بيض قسمًا منه، على تنوع في تحديد حجم هذا القسم المبيض أو المنتهي من الشرح. ومما ذُكِرَ في ذلك: قال الذهبي: "وعمل معظم شرح البخاري في عدة مجلدات". وقال الوادي آشي: "وَله تأليفان الْآن لِلْخُرُوجِ أَحدهمَا: شرح البُخَارِيّ يكون فِي نَحْو خَمْسَة عشر سفرًا تخمينًا". وقال ابن كثير: "وصنف شرحًا لأكثر البخاري، وجمع تاريخًا لمصر ولم يكملهما". وقد ذكر ابن الملقن هذا الكتاب ضمن المصادر التي اعتمدها في "التوضيح" فقال: "ومن المتأخرين: شيخنا قطب الدين عبد الكريم في ستة عشر سفرًا". قال ابن حجر: "وَشرع فِي شرح البُخَارِيّ وَهُوَ مطوّل أَيْضًا بيض أَوَائِله إِلَى قريب النّصْف". قال ابن قطلوبغا: "شرح البخاري بلغ النصف". وقال السيوطي: "وشرع في شرح البخاري مطولا بيض منه النصف". وقال صديق حسن خان: "وَشرحُ الإِمَامِ قطب الدّين عبد الْكَرِيم بن عبد النُّور بن مُنِير الْحلَبِي الْحَنَفِيّ المتوفي سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْع مئة، وَهُوَ إِلَى نصفه فِي عشر مجلدات". وجاء في "معجم المؤلفين": "من مؤلفاته: شرح الجامع الصحيح للبخاري في عشر مجلدات". هذا الشرح جاء في مرحلة مُهمَّة في تاريخ فنِّ الشروح الحديثية ولا سيما شروح الصحيح، إذ هو في مرحلة زمانية وسطية بين الشروح الموجزة التي غلبت على المتقدِّمين ... والشروح المطولة التي سار عليها المتأخرون... ومن تقدير الله تعالى أنَّ المؤلِّف لم يتهيأْ له إكمالُ الكتاب؛ بل كتبَ نحوًا من نصفه أو أزيد من ذلك.. وأن الكتاب بقي - كما يظهر - من دون تبييض على الوجه الأخير. ومع هذا فإنَّ هذا الشرح قد تلقَّفته أيدي العلماء، واهتمَ به طلبة العلم والمحدثون، لما احتواه من فوائدَ ومسائلَ، وحسنِ ترتيبٍ وتصنيفٍ، فضلًا عن تحقيقات طيبة ذكرها في أثنائه ... وهذا الشرح يُعَدُّ من الشروح الموسعة والمهمة من شروح البخاري، وقد اعتمد عليه من بعده اعتمادًا كبيرًا، وأكثر من اعتمد على هذا الشرح هما الإمامان: ابن الملقن صاحب "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"، والإمام بدر الدين العيني في كتابه "عمدة القاري". واللافت للنظر أن كلًا من ابن الملقن والعيني يكثران جدًا من النقل عنه، وكثيرًا ما ينقلان عباراته بحرفها ولفظها، ولكن نادرًا ما يعزوان إليه. وقد ذكر ابن الملقن كتاب شيخه في آخر "التوضيح" من ضمن المصادر التي اعتمدها فقال: "ومن المتأخرين: شيخنا قطب الدين عبد الكريم في ستة عشر سفرًا" ثم ذكر شروحًا أخرى ثم قال: "وشرحنا هذا خلاصة الكل مع زيادات مهمات وتحقيقات". والذي لاحظناه أن ابن الملقن يتصرف ويختصر ويلخص، بينما العيني ينقل فقرات ومواضع بطولها من دون أدنى تصرف، والغريب أن القطب الحلبي في مواضع كثيرة يبدأ كلامه بقوله: "قلت" ويسوق رأيًا له، فنرى العيني ينقل العبارة أيضًا بقوله: "قلت" فيتوهم القارئ أن هذا من كلام العيني وإضافاته، وهو في الحقيقة ناقل لكلام القطب الحلبي. والمواضع التي ينقل فيه ابن الملقن والعيني كثيرة جدًا، بل لا نبالغ إن قلنا: إنهما يكادان يستوعبان شرحه، لذلك آثر المحققون عدم ذكر أمثلة لهذا، يعني عن وجود عبارات بألفاظها منقولة عن القطب الحلبي من دون عزو أو بيان مصدرها. ولعل مما يميِّزُ هذا الشرح أن صاحبه حنفي المذهب، جمع بين مذهبِه الفقهي وإتقانه الحديثي. وهو مصدر ثمين من مصادر شروح الحديث الشريف حوى دقائق التحريرات والتنبيهات النفيسة وعوالي النقول الجليلة عن شيوخه كابن دقيق العيد وابن ابي الحرم الصقلي فمن قبلهم. ورغم عدم إتمام الكتاب، فقد ووصلنا من الجزء الباقي وهو نصف الكتاب ثلاث قطع فقط: أحدها: قطعة في شرح الحديث الأول من صحيح البخاري حديث " إنما الأعمال بالنيات ". ثانيها: قطعة في شرح كتاب العلم. ثالثها: قطعة في شرح كتاب الطهارة. وللكتاب نسخة خطية اعتمد عليها التحقيق هي نسخة عزيت خطأ لغير مؤلفها، فقد اعتمدوا على نسخة محفوظة بمكتبة فيض الله أفندي، برقم [439]، كتب عليها في أولها: "الجزء الأول من كتاب شرح مشكل البخاري للواسطي، تغمده الله برحمته ورضوانه، آمين، آمين، آمين". وهذا ما اعتُمِدَ في "فهرس آل البيت" قسم الحديث (2/1011) حيث جاء فيه: "548 - شرح مشكل البخاري - ابن الدبيثي (محمد بن سعيد): فيض الله أفندي 21 [439] مج 1 (149و) - (سز 1/118)". وهذا وهم، فالظاهر من الشرح أنه كتاب القطب الحلبي، لا غيره. وبالتكشيف عن بقية قطع؛ ظهرت قطعتان أخريان من الكتاب من موضعين متفرقين.. وهذا غاية ما وقف عليه من الكتاب.. فعمل عليهما قسم التحقيق وجمعاها مع القطعة الأولى.. ليخرج المجموع في مجلدين. وكما تقدم فإن هذا الشرح من الشروح الموسعة لصحيح البخاري، اعتمد عليه كثير ممن أتى بعده، لكن مؤلفه لم يتمه، وإنما بيض قسمًا منه، ولا يعرف على وجه الدقة أين وصل في تبييضه. ونلحظ في النسخة التي وقعت بين يدينا أنه وقع فيها بياض في مواضع عدة تدل على تردد المؤلف أو أنه تركها للمراجعة. ومن أمثلة ذلك قوله في ترجمة أم سلمة: "وتوفيت سنة تسع وخمسين، وقيل: في خلافة يزيد بن معاوية، وولي يزيد في رجب سنة ستين، وتوفي في ربيع... سنة أربع وستين". فترك بعد كلمة "ربيع" بياضًا فكأنه لم يجزم في أي الربيعين توفي يزيد. ومن الأمثلة أيضًا قوله في ترجمة أحمد بن أبي بكر، أبي مصعب القرشي الزهري: "قال الزبير بن بكار: مات وهو فقيه أهل المدينة غير مدافع، ولاه عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس.... إذ كان واليًا على المدينة للمأمون". فوقع بياض بعد كلمة "العباس" وكأنه تردد فيما ولاه إياه عبيد الله، والحقيقة أنه ولاه القضاء كما أثبته في موضعه. ومما يلحظ على هذه النسخة أيضًا كثرة ما ألحق بها في الهوامش، من إضافات، وأحيانًا تضاف فقرة كاملة، وعند التأمل يترجح أن أكثرها من أصل الكتاب، إذ هي بأسلوب المؤلف، وجارية على منهجه. ولعل هذا يشير إلى أن الكتاب لم يبيض، وربما تكون هذه النسخة قد كتبها المؤلف أو كتبت بين يديه، مما جعل هذه الإضافات تكتب على الهوامش وليس في الصلب. وقد أشار ابن حجر في مواضع عدة إلى أنه وقف على نسخة الشرح للقطب الحلبي بخطه، فقال في أحد هذه المواضع: "وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه...". ومما يلحظ على منهج المؤلف: تحريه في النقل، ودقة عزوه إلى الأئمة والعلماء، فلا يكاد ينقل قولًا من دون أن يسمي قائله أو يعزوه، حتى في تأريخ وفاة كثير ممن ترجمهم لا ينقل التأريخ إلا منسوبًا إلى من ذكره، فيقول: قال فلان توفي سنة كذا. وهذا المنهج لم يلتزمه كثير ممن أتى بعده، ولا سيما ابن الملقن، حيث يحذف كثيرًا من أسماء من ينقل عنهم، ويكتفي بتلخيص كلامهم، وهذا يبين أهمية هذا الشرح وتميزه من بين الشروح، حيث يفيد في إثبات أقوال وآراء ربما لا نجدها في غيره، أو لا نعرف قائلها. كما يلاحظ في الكتاب بعض الاختلاف في الألفاظ التي يثبتها عن صحيح البخاري، وهذا مرجعه في الأغلب إلى اختلاف نسخ البخاري، وقد أثبت المحقق ما أثبته المؤلف، وتركَ للقارئ المقارنة. هذا عندما يثبت الحديث في أول الشرح، أما عندما ينقل فقرات من الحديث كجملة أو عبارة ليشرحها فالملاحظ أنه يتصرف فيها أحيانًا على خلاف الرواية التي أثبتها هو، وذلك لكونه يرويها بالمعنى أو يثبتها من ذهنه، وقد راعى ذلك المحققون وأثبتوا ما أثبته المؤلف، إلا ما كان فيه مخالفة أو تغيير لسياق البخاري فإنهم يشيرون إليه. وأشار المحققون إلى هذه الملاحظة حتى لا يظن أن ما يثبته المؤلف في أثناء الشرح نسخة أخرى مختلفة عما أثبت في أوله. أما المؤلف: فهو عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم بن علي بن عبد الحق بن عبد الصمد بن عبد النور. لقبه وكنيته: قطب الدين، أبو محمد. نسبته: الحلبي، فهو حلبي الأصل والمولد، ثم المصري دارًا ومقامًا. مذهبه الفقهي: حنفي، وقد ترجمه الحنفية في طبقاتهم. مولده: ولد بحلب يوم الجمعة، في السادس عشر من رجب، سنة (664هـ). وفاته: توفي بالقاهرة يوم الأحد، في رجب، سنة (735هـ)، ودفن بها. شيوخه: توسع الإمام القطب الحلبي في الأخذ عن الشيوخ، وأكثر من الرحلة والسماع، حتى زاد عن شيوخه عن الألف، ومن أشهر من أخذ عنهم علمًا وسماعًا: • الحافظ ابن دقيق العيد، وقد نقل عنه ووصفه بأنه شيخه في هذا الشرح. • ابن البخاري، وهو من أعلى أهل عصره إسنادًا، ومن أكثره شهرة بالرواية. تلاميذه: أخذ عنه تلاميذ كثيرون، منهم أئمة كبار، فقد سمع منه الحافظ الذهبي، وأخذ عنه الوادي آشي، واستجازه التاج السبكي، كما سيأتي ذلك في كلامهم. مؤلفاته: عرف القطب الحلبي بالتأليف، واشتهر بها، ويبدو أنه كان ينحو منحى التأليف الموسوعي، وقد ظهرت في مصنفاته الجمع الدقيق، والتحرير، ووصف بذلك في الحفاظ، وقد عدَّد الزركلي مؤلفاته فقال: "له "تاريخ مصر" بضعة عشر جزءًا، لم يتم تبييضه، و "شرح السيرة للحافظ عبد الغني" مجلدان، و"الاهتمام بتلخيص الإلمام - خ" في الحديث، و"شرح صحيح البخاري" لم يتمه، وكتاب "الأربعين" في الحديث، و"مشيخة " في عدة أجزاء، اشتملت على ألف شيخ". ثناء الأئمة عليه: قال عنه تلميذه الحافظ الذهبي (748هـ): "الإمام المحدث الحافظ المصنف المقرئ بقية السلف... وجمع وخرج وألف تواليفًا متقنة، مع التواضع والدين والسكينة، وملازمة العلم، والمطالعة، ومعرفة الرجال ونقد الحديث، سمعت منه بمصر، وبمكة سمعت منه جزء الغطريف، وقد أجاز لي مروياته". وقال أيضًا: "وصنف، وخرج، وأفاد، مع الصيانة، والديانة، والأمانة، والتواضع، والعلم، ولزوم الاشتغال والتأليف. حج مرات، وحدثنا بمنى. وعمل تاريخًا كبيرًا لمصر بيض بعضه، وشرح السيرة لعبد الغني في مجلدين. وعمل أربعين تساعيات، وأربعين متباينات، وأربعين بلدانيات. وعمل معظم شرح البخاري في عدة مجلدات". وقال أيضًا: "أحد من جرد العناية، ورحل وتعب وحصل وكتب، وأخذ عن أصحاب ابن طبرزذ فمن بعدهم، وصنف التصانيف، وظهرت فضائله، مع حسن السمت والتواضع والتدين وملازمة العلم". وقال الوادي آشي (749هـ) في برنامجه وهو ممن لقيه وأخذ عنه: "وَحدث بِصَحِيح مُسلم عَن الْمُؤَيد الطوسي، وَأكْثر هَذَا بِالسَّمَاعِ على القَاضِي شَيخنَا ابْن دَقِيق العَبْد، وأنشدني، قَالَ أنشدنا لنَفسِهِ: أرى النَّفس تحذر سم الردى وسم الْخَطِيئَة أوحى لَهَا تجَادل فِي طوع شيطانها إِذا هُوَ بالبغي أوحى لَهَا وَلَو عقلت أصلحت شَأْنهَا ليَوْم الْقِيَامَة أَو حَالهَا قَرَأت عَلَيْهِ وَقَرَأَ هُوَ عَليّ أَيْضًا، وانتفع كل منا بِصَاحِبِهِ جزاه الله تَعَالَى خيرًا، وأجازني إجَازَة عَامَّة بشروطها. . وَله تأليفان الْآن لِلْخُرُوجِ أَحدهمَا: شرح البُخَارِيّ يكون فِي نَحْو خَمْسَة عشر سفرًا تخمينا، وَالْآخر تَارِيخ ديار مصر قَالَ إِنَّه يخرج فِي نَحْو خَمْسَة وَثَلَاثِينَ سفرًا نحا بِهِ منحى ابْن عَسَاكِر". قال التاج السبكي (771هـ) وهو ممن استجاز منه: "وَكَتَبَ بِخَطِّهِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ، وَانْتَقَى عَلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ، وَعُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَحَصَّلَ الأُصُولَ وَالْفُرُوعَ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةَ، وَأَعَادَ وَدَرَّسَ فِي الْحَدِيثِ بِعِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَصَنَّفَ عِدَّةَ تَصَانِيفَ، وَحَجَّ سَبْعَ مِرَارٍ، وَكَانَ لَطِيفَ الْكَلامِ، حَسَنَ الْخُلُقِ، كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، بَشُوشَ الْوَجْهِ، حَسِنَ الْمُلْتَقَى، طَاهِرَ اللِّسَانِ، عَدِيمَ الأَذَى...أَجَازَ لَنَا الرِّوَايَةَ عَنْهُ". وقال ابن كثير (774هـ): "أحد مشاهير المحدثين بها [أي بمصر] والقائمين بحفظ الحديث وروايته وتدوينه وشرحه والكلام عليه... وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث، وقرأ الشاطبية والألفية، وبرع في فن الحديث، وكان حنفي المذهب، وكتب كثيرًا، وصنف شرحًا لأكثر البخاري، وجمع تاريخًا لمصر ولم يكملهما، وتكلم على السيرة التي جمعها الحافظ عبد الغني وخرج لنفسه أربعين حديثًا متباينة الإسناد، وكان حسن الأخلاق، مطرحًا للكلفة، طاهر اللسان، كثير المطالعة والاشتغال... وخلف تسعة أولاد رحمه الله". قال الحافظ ابن حجر (852هـ): "واعتنى بالرواية فَسمع من الْعِزّ الْحَرَّانِي، وغازي الحلاوي، وَابْن خطيب المزة وَغَيرهم، وبدمشق من الْفَخر وَغَيره، واستكثر من الشُّيُوخ جدًا، وَكتب العالي والنازل، فَلَعَلَّ شُيُوخه يبلغون الْألف، وَخرج لنَفسِهِ التساعيات والمتباينات والبلدانيات، وَكَانَ خيرًا متواضعًا، تَلا بالسبع على أبي الطَّاهِر المليحي وعَلى خَاله الشَّيْخ نصر، وانتفع بِصُحْبَتِهِ، وَجمع لمصر تَارِيخًا حافلًا لَو كمل لبلغ عشْرين مجلدة، بيض مِنْهُ المحمدين فِي أَرْبَعَة، وَاخْتصرَ الالمام فحرره، وَشرح سيرة عبد الْغَنِيّ، وَشرع فِي شرح البُخَارِيّ وَهُوَ مطول أَيْضًا بيض أَوَائِله إِلَى قريب النّصْف". قال ابن قطلوبغا (879هـ): "وكتب العالي والنازل، وخرَّج وألّف، شرح البخاري بلغ النصف، وعمل تاريخ مصر فبلغ مجلدات دون التمام، وله غير ذلك مع الفهم، والبصر بالرجال، والمشاركة الجيدة في الفنون، وشرح السيرة النبوية للحافظ عبد الغني". ويعد هذا الإخراج لهذه المخطوطة النادرة بما فيها من بياض وطمس من الجهود الجديرة بالإعجاب من جانب قسم التحقيق العلمي بدار الكمال المتحدة، حيث اجتهد قسم التحقيق في سد الثغرات وقراءة الطمس والبتر، وتنضيد الكتاب من النسخة المعتمدة وإظهاره للعيان مطبوعًا في صورة علمية متقنة.
العولمة والعزوف عن العمل تتردد في الأوساط الإعلامية والمجالس الخاصة مقولةُ عدمِ جِدِّيَّة المواطن الخليجي الشاب في العمل، وكأن هذا تصور نمطي، أو صورة نمطية تنسحب على المواطن الخليجي، كبيره وصغيره، بماضيه وحاضره، والواقع لا يؤيد ذلك؛ فالعالَم الخليجي "قد امتهن العملَ اليدوي والأعمال الدنيا الأخرى؛ فالغالبيةُ من قوة العمل الخليجية في قطاع النفط (90% إلى 95%) وُظِّفت في القطاعات الدنيا من العمل" [1] . عزوفُ العاملِ الخليجي عن العمل لا يُعزى لأي أنساقٍ تقليدية قديمة، سوى مرور المنطقة بحال من الطَّفْرة؛ نتيجة لعائدات النفط، ولَّدت هذا الانطباعَ القابل للزوال؛ بحكم الحاجة إلى العمل ومدخولاته، ولقد تسرَّبت هذه الانطباعة إلى بعض الكتابات التي لا يظهر أنها تتعاطف مع الحال الخليجية، والتي لا تزال تعتقد أن مواطني المنطقة لا يزالون يعيشون بروح ذلك البدوي المتنقل المُتعفِّف عن العمل المهني والفني [2] . إن الطفرة التي مرت بمنطقة الخليج العربية - بفضل من الله تعالى - ثم بفعل الوارداتِ الضخمة من تصدير النفط، لا سيما بعد الحركة التصحيحية لأسعار النفط التي قادها الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى في شهر رمضان المبارك من سنة 1393هـ أكتوبر من سنة 1973م، قد ولَّدت جيلًا من المواطنين عزف عن العمل، عندما وجد من مقومات الحياة ما يحتاج إليه وأكثر، ومن ثَمَّ استقدم هذا المواطنُ العاملَ الوافد؛ ليكون بديلًا عنه في إدارة المنشآت التِّجارية والصناعية وغيرها، وتشغيلها مباشرة، أو بما تعارفنا عليه بظاهرة التستُّر في وجه الأنظمة (القوانين)، التي تحول دون تملُّكِ الوافد لهذه المنشآت؛ مما ولَّد نتيجة لذلك جيلًا عازفًا عن العمل، حتى لو كانت حاجتُه إليه قوية، وأعطى الفرصةَ للوافدين ليستأثروا منها بالفرص والمكاسب المادية دون منافسة محلية تُذكر [3] . لا يزال يُحوَّل إلى خارج منطقة الخليج العربية منها سنويًّا ما يزيد على مائة مليار ريال سعودي (حوالي ثلاثين مليار دولار) على المستوى الخليجي عامة [4] ، هذا الوضعُ المؤقت صعَّب مشروعاتِ توطينِ سوق العمل وبرامجه كثيرًا، لا سيما مع تنامي عددِ السكان، وكثرة مخرجات التعليم والتدريب؛ إذ وُجد عددٌ كبير من طالبي العمل الباحثين عنه المؤهلين له من المواطنين، في الوقت الذي تكون الفرصُ فيه مشغولةً بالوافدين. إذا أُضيف إلى ذلك مواقفُ اجتماعية أخرى ذاتُ عَلاقة بالعادات والتقاليد المحلية، غير احتمال وجود ضعف التدريب والتأهيل لدى طالبي العمل من المواطنين - كان كلُّ هذا مدعاة إلى إثارة علامة استفهام حول تطبيق مفهوم البطالة المتفق عليه من منظمة العمل الدولية على هذه الفئة من طالبي العمل، مما سيأتي بيانه في الوقفات الآتية. مع هذا فلا بد من الاستمرار في التوكيد أن هذا الوضعَ ينبغي أن يكون مؤقتًا وطارئًا، فلم يكن متجذِّرًا في جيل ما قبل الطفرة، ناهيك عن أن يكونَ متجذرًا ثقافيًّا، ولا يمثل المُستهدف الرسمي والشعبي والإقليمي من سوق العمل، وما سيكون عليه العاملون المواطنون في المنطقة [5] . [1] انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي - مرجع سابق - ص 110. [2] انظر هذه الانطباعية لدى: سيار الجميل، العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط - مرجع سابق - ص 109 - 145. [3] انظر: خالد بن عبدالعزيز الشريدة، العولمة والسعودة: دراسة في إشكالية العلاقة بين العالمي والمحلِّي، بحث غير منشور، القصيم: المؤلف، 1423هـ/ 2002م، ص 62 - 63. [4] أوصلها نبيل جعفر عبدالرضا إلى مائة مليار (100,000,000,000) دولار بين عامي 1995 و2000م، انظر: نبيل جعفر عبدالرضا، العولمة وانعكاساتها على صناعة النفط الخليجية، ص 99 - 166، في: مركز دراسات الوحدة العربية، المجتمع والاقتصاد أمام العولمة، بيروت: المركز، 2004م، ص 184. [5] يعرِّج باقر سلمان النجار على هذا البعد في الفصل السادس من كتاب: حلم الهجرة للثروة، ويذكر إحصائيات وأرقامًا، تعود إلى سنة 1992م، تؤكد مفهوم التستر في منطقة الخليج العربية، مما يحمل المواطنين مسؤولية مباشرة إزاء هذا الوضع المؤثر على تهيئة الموارد البشرية المواطنة، انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة - مرجع سابق - ص 187 - 204.
وقفات مع كتاب "كيف تربي أولادك" للمؤلف/ أحمد بن ناصر الطيار بعد إنجابي مولودي الأولَ، أرفقتْ إحدى الزميلات الفاضلات - جزاها الله خيرًا - كتاب "كيف تربي أولادك"، للمؤلف أحمد بن ناصر الطيار مع هديتها. شدَّني عنوان الكتاب، وأنهيتُ قراءته، وأحببت كما استفدت منه أن أوجِزَ بعض الوقفات المهمة المذكورة في الكتاب عن التربية؛ لعلها تشوق القارئ المربي إلى قراءة الكتاب كاملًا والاستفادة منه. مجموع ما ذكر المؤلف -حفظه الله- في الكتاب ثلاثين قاعدة في التربية، أردف كل قاعدة بتفصيل وشرح لها، وقسم الكتاب إلى قسمين؛ القسم الأول: الوقاية، وذكر فيه ثماني وعشرين قاعدة، والقسم الآخر: العلاج، وذكر فيه قاعدتين. ولعلي أذكر منها بعض القواعد: • الجزاء من جنس العمل، فمن بَرَّ والديه، بَرَّه أبناؤه. • الرفق واللين في التعامل مع الأولاد. • أن يكون هدف المربي من التربية هو رجاء صلاح الذرية، وإنقاذهم من النار. • تعويد الأولاد على مراقبة الله عز وجل. • عدم الإكثار من الوعظ والتوجيه. • معاملة الأولاد بالحب واللين مع الشدة والحزم. • معاملة الأولاد بالاحترام والتقدير. • الجلوس مع الأولاد والحديث معهم. • أن يكون المربي قدوةً حسنة لولده. • الاستماع الجيد للأولاد. • تعويد الأولاد على حرية الاختيار والتعبير. • الصراحة والصدق في التعامل مع الأولاد. • عدم التدخل في مشاجرة الأولاد بعضهم مع بعض، إلا عند الضرورة. • العدل بين الأولاد في كل شيء. • التعامل بروِيَّة وحكمة مع أخطاء وتصرفات الأولاد السيئة. • تعويد الأولاد الاعتمادَ على أنفسهم. ولا يفوت المربي كثرةُ الدعاء للأولاد بالصلاح والهداية، فما هذه القواعد إلا أسباب، والهداية والتوفيق إليها من عند الله عز وجل، نسأل الله سبحانه أن يهدي ذرياتنا وذريات المسلمين لِما فيه الخير والصلاح. اللهم آمين.
ما نزل في صلح الحديبية من القُرْآن ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27]، رأى النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية رؤيا أسعدته، ورؤيا الأنبياء حق، بأنه وأصحابه دخلوا المسجد الحرام آمنين فأدَّوُا العمرة، وكانوا ما بين محلِّق ومقصِّر، كما بشَّرهم بالفتح، لكن لما صُدوا عن المسجد الحرام وعقدوا صلح الحديبية وأن عمرتهم قد تأجلت إلى قابل، شق عليهم، فقال المنافقون: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لم أقل هذا العام))، ثم أخبر القُرْآن الكريم عن مجريات الصلح بدءًا من البيعة، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 10]، ولكن البيعة تحت الشجرة كانت من قلوبٍ حملت الوفاء والإخلاص؛ لذلك مدحهم الله ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، وبعد البيعة استعد النبي صلى الله عليه وسلم لقتالهم: ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 22، 23]، وقد حاول القرشيون أن يختبروا قوة المسلمين، فطافت خيلهم بمعسكر المسلمين، فوقع ثمانون منهم في الأَسر، وفر الباقي، وأُخذ الأسرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وأطلق سراحهم؛ ليبرهن لهم أنه إنما أتى للعمرة لا للقتال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الفتح: 24]، ثم بيَّن أن المعتدين هم الذين يصدون الناس عن المسجد الحرام؛ حيث قدم المسلمون لأداء العمرة وكان هديهم معهم مقلدًا ومحبوسًا ينتظر أن يهدى في الحرم وينحر في مكانه المخصص، ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25]، لقد بيَّن الله تعالى أن هذا الكف كان بسبب وجود مسلمين ومسلمات في مكة وقد يتأذون من القتال ويصيبهم الأذى أو القتل وأنتم لا تعرفونهم؛ لأنهم يكتمون إسلامهم عن أهل مكة خشية الإيذاء، ولو تميزوا عن الكفار بعلامة معينة لسلطكم الله عندئذ على الكفار قتلًا وأَسرًا، ثم بين سبحانه وتعالى نفسية قريش وصلفهم في عدم السماح للمسلمين بالعمرة، وتلقي ذلك من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والسعي للصلح: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الفتح: 26]. وفي الصحيحينِ وغيرهما عن سهل بن حنيف قال: "فلقد رأيتُنا يوم الحديبية، يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: ((بلى))، قال: ففيمَ نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: ((يا بن الخطاب، إني رسول الله، ولم يضيعني الله أبدًا، فرجع متغيظًا، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا بن الخطاب، إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدًا، فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر فأقرأه إياها، قال: يا رسول الله، أفتح هو؟ قال: ((نعم))؛ ولهذا فإن قوله تعالى: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1] يعني صلح الحديبية، فهو الفتح المبين، وقد ظهرت نتائجه لاحقًا، وتبينها الصحابة جليةً بكثرة الداخلين في الإسلام، وبالخيرات التي أقبلت.
موسى عليه السلام (16) استمرَّ موسى عليه السلام في نَشْرِ النور والهدى الذي أنزله الله تعالى عليه في التوراة، يعاونُه هارون عليه السلام، إلى أن قبض الله عز وجل هارون عليه السلام في حياة أخيه موسى عليه السلام وَهُما في التِّيه مع بني إسرائيل. وقد حجَّ موسى عليه الصلاة والسلام إلى البيت العتيق في مكة المكرمة؛ فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بوادي الأزرق فقال: ((أيُّ وادٍ هذا؟)) ، قالوا: وادي الأزرق، قال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى وهو هابط من الثنية، وله جؤارٌ إلى الله عز وجل بالتلبية)) ، حتى أتى على ثنية هرشاء فقال: ((أي ثنية هذه؟)) ، قالوا: هذه ثنية هرشاء، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء، عليه جُبَّةٌ من صوف خطام ناقته خلبةٌ - يعني ليفًا - وهو يلبِّي)) . وقد ذكرت عند الحديث عن الخليل إبراهيم عليه السلام بعض صفات موسى عليه السلام، وأنه كان آدم، أي: أسمر، جعد الشعر جسيمًا طوالًا كأنه من رجال أزد شنوءة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت ليلةَ أُسْرِي بي موسى بن عمران رجلًا طوالًا جعدًا، كأنَّه من رجال شنوءة)) . كما روى البخاري في صحيحه، من طريق مجاهد أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما وذكروا له الدَّجَّال، وأنه مكتوب بين عينيه كافر أو (ك ف ر) ، فقال: لم أسمعه، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم: ((أما إبراهيمُ فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعدٌ آدم على جمل أحمر مخطوم بخلبة كأني أنظر إليه انحدر في الوادي)) . وقد حضرت الوفاة موسى عليه السلام قبل أن يدخلَ الأرض المقدسة، غيرَ أنه طلب من الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صَكَّه، فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، قال: ارجع إليه، فَقُلْ له: يضع يدَه على متنِ ثور، فله بما غطَّت يدُه بكلِّ شعرةٍ سنةٌ، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآنَ، قال: فسأل اللهَ عز وجل أن يُدْنيه من الأرض المقدَّسة رميةً بحجر، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبرَه إلى جانبِ الطريقِ عند الكثيبِ الأحمرِ)) . ثم قال البخاري رحمه الله قال: وأخبرنا معمر عن همام حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى مسلم في صحيحه من طريق همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَرَ أحاديث منها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاء ملكُ الموت إلى موسى عليه السلام، فقال له: أَجِبْ ربَّك، قال: فَلَطَمَ موسى عليه السلام عينَ ملكِ الموت فَفَقَأَهَا، قال: فرجع الملَكُ إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت وقد فَقَأَ عيني، قال: فردَّ اللهُ إليه عينَه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياةَ تريدُ؟ فإن كنت تريد الحياة فضعْ يدك على متن ثور، فما توارت يدُك من شَعْرِه فإنك تعيش بها سنةً، قال: ثمَّ مَهْ؟ قال: ثم تموت، قال: فالآن من قريب، رب أمِتني من الأرض المقدسة رمية بحجر)) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله، لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر)) . وقد استشْكَلَ بعضُ من ينتمي إلى العلم هذا الحديث، وكأنه استغرب كيف يضرب موسى عليه السلام ملكَ الموتِ، وكيف يفقأ عينَه؟ ولا غرابة في ذلك؛ لأن موسى لم يعرف أنه ملَكُ الموت كما لم يعرفْ خليلُ الرحمن أبوه إبراهيم عليه السلام الملائكةَ الذين استضافهم، وقال لهم لمَّا لم يأكلوا طعامه: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الحجر: 62]، ولا سيما أن ملك الموت جاء موسى عليه السلام على طريق لم يُقبض على مثلها الأنبياء؛ فإن اللهَ تبارك وتعالى لا يقبضُ روحَ نبيٍّ من أنبيائه إلا بعد تخييره، كما أُثِر أنه ما من نبي قبض إلا خُيِّر؛ ولذلك لمَّا خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الرفيق الأعلى، أما استغراب فقء عين الملك فهو مبني على تعريف الملائكة بأنهم لا تحكم عليهم الصورة، أي: لو تصوَّر الملك في صورة رجل أو غيره ثم أُريد قتله أو قطعُ عضو منه فإنه لا تتأثَّر صورته بذلك، ولا يتمكن منه، بخلاف الجنِّي؛ فإن الصورة تحكم عليه، فلو تصوَّر الجني في صورة حيوان وقُتل هذا الحيوانُ قُتل الجنِّي، وبالنظر إلى أن هذا التعريف لم يثبت به خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه سلم فإنه لا يحل لمسلم أن يرد به الخبر الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رأيت كثيرًا من أهل الأهواء المعادين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللبخاري ومسلم وغيرهما من أئمَّة أهل السنَّة والجماعة يدندنون حول هذا الحديث الصحيح للنَّيْلِ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيوخ أهل الحديث، وقد علمتُ أنه لا شبهة في صحَّة هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين. هذا، وقد حرَّف اليهود التوراةَ بعد موسى عليه السلام، ومن أبرز الأدلَّة على ذلك أن اليهود يدَّعون أن التوراةَ كتبَها موسى عليه السلام بيده، وهي مكوَّنة عندهم من أسفارٍ خمسة، وهي: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد، وسفر التثنية، وقد جاء في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة الخامسة منه: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب"، وفي الفقرة السادسة: ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرفْ إنسانٌ قبرَه إلى هذا اليوم، فتبيَّن بما لا مجال للشك فيه أن هذا السفرَ مكتوبٌ بعد موسى عليه السلام؛ إذ كيف يَكتب موسى بيده أنه مات ودُفن في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، ومما يؤكِّدُ تحريفهم أنه جاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية في الفقرة 24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها - 25 - أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: 26 - خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم؛ ليكون هناك شاهدًا عليكم - 27 - لأني عارف تمردكم ورقابكم الصُّلبة، هو ذا وأنا بعد حيٌّ معكم اليوم قد صرتم تقاومون الربَّ، فكم بالحرِيِّ بعد موتي - 28 - اجمعوا إليَّ كلَّ شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض - 29 - لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون من الطريق الذي أوصيتكم. هذا، وليست اليهوديَّة هي دين موسى عليه السلام، بل دينُه الإسلام، واليهودية محدثة بعد موسى؛ ولذلك لم يرد في خبر صحيح أن موسى عليه السلام سمَّاهم يهودًا، وقد تكون اليهوديَّة مأخوذةً من الهود، بمعنى: التوبة، على حد قول موسى عليه السلام ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156]. ويمكن أن تكون مأخوذةً من التَّهويد؛ وهو الترجيع بالصوت في لينٍ والتطريب، وقد كان أحبار اليهود إذا قرؤوا على العامَّة أتوا بنغماتٍ مع غُنَّةٍ شديدة ومدٍّ بالخياشيم، ويمكنُ أن تكون نسبةً إلى يَهُوذا أحد رؤوس أسباط بني إسرائيل، ويكون إطلاقه على جميع بني إسرائيل على سبيل التغليب، وهو بالدال أو الذال كما جاء في القاموس المحيط، يقال: يهوذا ويهودا، كما يقال: يهوذي ويهودي. ولم يرِدْ اسم اليهود في كتاب الله تعالى أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح قطُّ، وكلُّ ما ورد عنهم في عهد موسى عليه السلام كان باسم بني إسرائيل، كما أنَّ ما ورد في كتاب الله عنهم كان باسم أهلِ الكتاب وقوم موسى وبني إسرائيل، ولم تُذكر اليهوديَّة إلا في مقام الذمِّ، والعلم عند الله، والسلام على موسى وهارون.
الإدارة الإستراتيجية وتحديات القرن الحادي والعشرين للجنابي كثيرةٌ هي الكتب في مجال الإدارة التي دارت حول الإدارة الإستراتيجية؛ منها كتاب: (الإدارة الإستراتيجية مفاهيم وعمليات وحالات دراسية)؛ لمؤلفه أ.د زكريا مطلق الدوري‎، وكتاب: (الإدارة الإستراتيجية الحديثة: التخطيط الإستراتيجي، البناء التنظيمي، القيادة الإبداعية، الرقابة والحوكمة)؛ لمؤلفته عائشة يوسف الشميلي،‎ وكتاب: (التخطيط الإستراتيجي الناجح)؛ لمؤلفيه مايكل ج. دوريس‎، جون م. كيلي‎، جيمس ف. ترينر. وكتاب أكرم سالم الجنابي: (الإدارة الإستراتيجية وتحديات القرن الحادي والعشرين ... مفاهيم - نظريات -مداخل - عمليات - دراسة الحالة)، المنشور ( 2022م)، عمان – الأردن، دار أمجد للنشر والتوزيع؛ الذي دار حول الإدارة الإستراتيجية وتحديات القرن الحادي والعشرين، وهو الذي يعرض هذا المقال له. حيث تتناول الإدارة الإستراتيجية صياغة وتطبيق وتقويم القرارات التي تدعم المنظمة وإدارتها، وتُمكِّنها من تحقيق الأهداف الإستراتيجية؛ لذلك فهي تتضمن جميع التصرفات الإدارية التي ترسم وتؤشر معالم الأداء المنظمي على الْمَدَيَينِ الراهن والبعيد، ومن خلالها يمكن تأسيس وتصويب توجُّه المنظمة نحو المستقبل البعيد، والتطوُّر والنمو استجابة للعوامل البيئية المتسارعة، والسـعي لاغتنام الفرص واستثمارها، وتجنب المخاطر والتهديدات. مكونات الكتاب: يقع الكتاب في 527 صحيفة من القطع المتوسط، اشتمل الكتاب على ثمانية عشر فصلًا، دارت حول المفاهيم والنظريات، والعمليات والمقاربات، ودراسة الحالة، ومداخل الإدارة الإستراتيجية المنتشرة والذائعة، وأبرز توجهاتها الحديثة، من منظور تكاملي جدلي معاصر شامل الإطار؛ لتشكل نافذة تطل على آفاق الفكر الإستراتيجي، ومفتاحًا للمواصلة والاسـتمرارية، ومتابعة البحث العلمي المتقدم في هذا السياق. دار الفصل الأول حول مفهوم وتطور الفكر الإستراتيجي. وشرح الفصل الثاني التفكير الإستراتيجي. وتناول الفصل الثالث التوجه الإستراتيجي (الرؤية والرسالة). وعرض الفصل الرابع للقصد الإستراتيجي. وبيَّن الفصل الخامس: التحليل الإستراتيجي البيئي. وفصَّل الفصل السادس القولَ في الخيار الإستراتيجي، وأدوات تحليل محفظة الأعمال، وناقش الفصل السابع إستراتيجيات الأعمال. وبيَّن الفصل الثامن: التنفيذ الإستراتيجي. ودار الفصل التاسع حول الرقابة الإستراتيجية. وشرح الفصل العاشر التدقيق الإستراتيجي. وناقش الفصل الحادي عشر للكفايات الإستراتيجية. وتناول الفصل الثاني عشر إستراتيجيات الأعمال المعلوماتية والمعرفية. وعرض الفصل الثالث عشر لبطاقة التقييم المتوازن. وتحدث الفصل الرابع عشر عن السيناريو الإستراتيجي. وبيَّن الفصل الخامس عشر الإدارة العليا وحاكمية المنظمة والمسؤولية الاجتماعية. وشرح الفصل السادس عشر الإستراتيجيات الوظيفية. ودار الفصل السابع عشر حول الإدارة الإستراتيجية الدولية. وناقش الفصل الثامن عشر دراسة الحالة. وختامًا يمكن القول : إنه في ظل الإستراتيجيات الإدارية الحديثة، وفي ظل التميز والتنافسية، وحرص المنشآت على تحقيق الجودة الشاملة، وتحقيق الإنتاجية، وأداء العمل بكفاءة وفاعلية، لا بد من تدريب الإدارة العليا والمتوسطة على إدارة العمل وفق الإدارة الإستراتيجية؛ لتستطيع هذه المنشآت مجابهة تحديات القرن الحادي والعشرين. المراجع: الجنابي، أكرم سالم، (2022م)، الإدارة الإستراتيجية وتحديات القرن الحادي والعشرين (مفاهيم -نظريات - مداخل - عمليات - دراسة الحالة)، عمان – الأردن، دار أمجد للنشر والتوزيع. https://www.amazon.ae/-/ar
الأمالي الأربعين في أعمال المتقين للحافظ العلائي صدر حديثًا كتاب "الأمالي الأربعين في أعمال المتقين" للحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي دراسةً وتحقيقًا، تحقيق: أ.د "محمد إسحاق محمد آل إبراهيم"، أستاذ السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تقديم: الشيخ "عبد الله بن محمد الغنيمان"، في ثلاثة مجلدات، توزيع: "دار التدمرية". وأصل هذا التحقيق أطروحة علمية تقدم بها المحقق لنيل درجة الدكتوراه في علوم الحديث من كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك تحت إشراف: د. "عبدالصمد بن بكر بن إبراهيم آل عابد"، وذلك عام 1428 هـ - 2007 م. والكتاب حقق على جزئين، كان نصيب المحقق فيهما: كتاب الأمالي الأربعين في أعمال المتقين للحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي: من أول الكتاب إلى آخر المجلس الثامن / دراسة وتحقيق. وبقية الكتاب حققه أ.د. "صالح بن غالب العواجي"، وكان عنوان رسالته: كتاب الأمالي الأربعين في أعمال المتقين للحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي دراسة وتحقيق: من أول المجلس التاسع إلى آخر الكتاب / دراسة وتحقيق. ومَادة هذَا الكتَاب واضحة من عنوانه، فهو يتنَاول أربعين مجلسًا، تتعلق بأربعين موضوعًا اختَارهَا الحَافظ العَلائي - رحمَه الله - من المواضيع التّي لهَا علاقة بالجَانب الّذي ينبغي علَى المسلم تجَاه عقيدته وإيمَانه كَالإخلاص والتّوبة والتّقوى والمرَاقبة والاستقَامة، وكذَا مَا ينبغي للمسلم المتقي ربَّه عملُه في سلوكه وأدبه وتربيته لنفسه، كَالصّبر والحلم والصّدق والرّفق والتّواضع، أو مَا يليق به من فضَائل الأعمَال ومكَارم الأخلاق من مثل برِّ الوالدين وصلةِ الأرحَام وأدَاءِ الأمَانة ونصرِ المظلوم وحُسنِ الصّحبة والجوار، وغير ذلك من المعَاني التي أفرد المصنّف لهَا مجلسًا من مجَالس هذَا الكتَاب، فَاحتوت تلك المجالس الأربعون - بحقٍّ - مَادةً بديعةً لطيفةً، أتقن سبكهَا إمَام جِهبذ ضليع. وقد حظي كتَاب العَلائي هذَا بمكَانة علمية عَالية عرفهَا العلمَاء لهذَا الكتَاب ومؤلفه، وذَاك نَابعٌ من أمور منهَا: أولًا: المصنّف - رحمَه الله - صَاحب اجتهَاد وباع طويل في علم الحَديث، ومعرفة ودرَاية واطلاع، وظهر أثر ذلك في كتَابه هذَا، فلذَا اهتم العلمَاء به، ومن أوجه ذلك الاهتمام مَا يلي: • السّمَاعَات التّي أثبتت علَى نسخ هذَا الكتَاب، وخَاصة النّسخة العرَاقية، وهي سمَاعَات كثيرة تدل دلالة واضحة علَى حرص العلمَاء رحمهم الله علَى رواية هذَا الكتَاب، وسمَاعه وإسمَاعه لمن بعدهم، ومن أولئك ثُلّة من أعيان عصرهم. • حرصُ العلمَاء علَى رواية هذَا الكتَاب واقتنَائه، وذلك يتجلّى من خلال كتب الأثبات والمشيخَات، حيث أورده بعض من صنف في هذَا الباب كَابن حجر والكتّاني. • اهتمَامُ العلمَاء بالرّوايات الواردة في هذَا الكتَاب، وذلك من خلال الرّواية من طريقه، فقد روى عنه عصريّه التّاج السّبكي، وتلميذه أَبو المحَاسن الحُسيني. • استفَادة المصنّفين من كلام العَلائي فيه وعزوهم له، كَالزَّبيدي في إتحَاف السّادة المتقين، والزُّرقَاني في شرح الموطَأ، والمنَاوي في فيض القدير، وهو من أكثرهم، وربمَا كنّى عنه بقوله: بعض الأعَاظم. ثَانيًا: الكتَاب من كتب الأمَالي، والإملاء يعدّ عِند المحدثين من أهمِّ مَا يتَأهّل له الإمَام المحدّث الحَاذق؛ فعقد مجَالس الإملاء لا يقوم بهَا إلا من كَان أهلًا لذلك، ورسخت في العلم قدمه، وذكروا أن من آدَاب مجَالس الإملاء: أن يختَار المحدث من مروياته مَا ينَاسب الحَاضرين، وأن يهتمَ بتخريج الإملاء، وأن ينبّه علَى صحة المروي، ومَا فيه من علوٍ وفَائدة، وضبط مَا يُشكل، وقد التّزم المصنّف - رحمَه الله - بذلك، وأفَاد أبلغ الإفَادة، حيث ترَاه يحكم علَى الأحَاديث، ويعلُّ الرّوايات، ويتكلم علَى الرّواة، ويشرح الغريب، ويجمع بين المختَلف، ويوضح وجه المشكل. ثَالثًا: ومن الأمور التّي تبين أهمية هذَا الكتَاب أيضًا أنه يعدُّ من وثَائق كتب الحديث المهمّة، حيث إن المصنّف يروي فيه النّصوص بأسَانيده، وهو وإن كَان يلتقي مَع مصنفي الكتب أثنَاء الإسنَاد، إلا أن سياقه بعد ذلك لأسَانيد أصحَاب الكتب يُمكِّن الواقف علَى تلك الأسَانيد من الظّفر بفوائد كثيرة، من مثل: تصحيح التّصحيف أو التّحريف أو السّقط الواقع في تلك الكتب، وكذلك تعيين بعض الرّواة المهمَلين، وغير ذلك من الفوائد التّي تذكر في المستخرجَات، ومن تلك الكتب مَا ضمّته بطون مكتبات المخطوطَات فعسر الوقوف عَليه، أو فُقد فتعذّر، فحفظته رواية المصنّف لهَا، ونحو ذلك عناية المصنّف بنقل أحكَام الأئمة السّابقين علَى الأحَاديث، وخَاصةً الإمام التِّرْمِذِي. وكتَاب العلائي هذا وإن لم يكن من الكتب التّي جمعت أربعين حَديثًا إلا أنه يبدو أن العَلائي قصد في كتَابه لأربعين مجلسًا العدد المذكور، ولذَا ربمَا ضمّ بعض الأَبواب إلَى بعضهَا ليخرج العدد المرَاد، مثل ضمّه لمجلسي الخوف والرّجَاء، وكذَا نَصر المظلوم والأمر بالمعروف والنّهي عَن المنكر. وقد احتوت مَادة الكتَاب علَى مقدّمة في ستة أجزَاء، ثُمَّ أردفهَا بأربعين مجلسًا، وأجزَاء المقدمة هي: الجزء الأوَّل: في فضل العلم والعمل وفوائد. الجزء الثّاني: في فوائد جليلة وتشريف علم الكلام علَى غيره، وفيه فضل علم الفقه والحَديث والتّفسير وغير ذلك. الجزء الثّالث والرّابع: ... (سقط اسما هذين الجزئين من مخطوطة الكتَاب). الجزء الخَامس: في بيان الباعث علَى جمع هذَا الكتَاب وترتيبه وتقريبه وتهذيبه. الجزء السّادس: في شرطين لا بد منهمَا وهمَا: حُسن الإخلاص وتصَحيح النّية، والعمل بالعلم اللّذين لا غنى لأحد عنهمَا. وأمَا المجَالس فهي كَالتّالي: 1) المجلس الأول في توحيد الله عزَّ وجَلَّ. 2) المجلس الثاني في تنزيه الله سُبحانه وإثبات مَا يجب له ونفي مَا يستحيل عَليه. 3) المجلس الثالث في الإيمَان بالنّبي - صلى الله عليه وسلم - وتفضيله. 4) المجلس الرابع في الإسلام والإيمَان وخصَالهمَا. 5) المجلس الخامس في الاعتصَام بالكتَاب والسّنة. 6) المجلس السادس في الإخلاص. 7) المجلس السابع في التّوبة. 8) المجلس الثامن في التّقوى. 9) المجلس التاسع في المرَاقبة. 10) المجلس العاشر في الاستقَامة. 11) المجلس الحادي عشر في الرّجَاء والخوف. 12) المجلس الثاني عشر في محَاسبة النّفس. 13) المجلس الثالث عشر في الورع. 14) المجلس الرابع عشر في الزهد وقصر الأمل. 15) المجلس الخامس عشر في الصّبر. 16) المجلس السادس عشر في الشّكر. 17) المجلس السابع عشر في التّوكل. 18) المجلس الثامن عشر في اليقين. 19) المجلس التاسع عشر في القنَاعة. 20) المجلس العشرون في الرّضَا. 21) المجلس الحادي والعشرون في الصّدق. 22) المجلس الثاني والعشرون في الحياء. 23) المجلس الثالث والعشرون في الصّمت. 24) المجلس الرابع والعشرون في التّواضع. 25) المجلس الخامس والعشرون في حُسن الخلق. 26) المجلس السادس والعشرون في برّ الوالدّين. 27) المجلس السابع والعشرون في صلة الأرحَام. 28) المجلس الثامن والعشرون في حُسن الجوار. 29) المجلس التاسع والعشرون في أدَاء الأمَانة والوفَاء بالعهد. 30) المجلس الثلاثون في نصر المظلوم والأمر بالمعروف والنّهي عَن المنكر. 31) المجلس الحادي والثلاثون في السّخَاء والجود. 32) المجلس الثاني والثلاثون في الرّحمة. 33) المجلس الثالث والثلاثون في الحلم. 34) المجلس الرابع والثلاثون في المروءة. 35) المجلس الخامس والثلاثون في الرّفق. 36) المجلس السادس والثلاثون في المحبّة في الله عزَّ وجَلَّ. 37) المجلس السابع والثلاثون في النّصيحة. 38) المجلس الثامن والثلاثون في المدَارَاة. 39) المجلس التاسع والثلاثون في قضَاء الحوائج. 40) المجلس الأربعون في حُسن الصّحبة. والكتاب حقق على نسختَين فيمَا وقف عَليه المحقق: نسخة بخط المؤلف، ونسخة بخط تلميذ المصنّف. النّسخة الّتي بخط المؤلّف: هذه النسخة نسخة نفيسة فريدة، كتبت بخط المصنّف، وعَليهَا سمَاعَات لبعض العلمَاء المشَاهير، كمَا تقدم بيانه في مكَانة الكتَاب العلمية. مكَان وجودهَا: أصل النّسخة توجد بمكتبة الأوقَاف العَامة ببغدَاد، وقد وجد في (ل45/أ) ختمٌ كتب عَليه: (خزَانة عَبدالله الجبوري ببغدَاد 1329هـ / 1972م)، وتوجد مصورة منهَا في قسم المخطوطَات بالمكتبة المركزية بالجَامعة الإسلامية علَى ميكروفيلم رقم: 4565/17. وصف النّسخة: هي نسخة عتيقة مهمة بخط المؤلف - رحمه الله - كتبت بخط نسخيّ معتَاد، معجم الحروف في الغَالب، في 77 لوحة، ذَات وجهين، في كل وجه 17-18 سطرًَا. ثَانيًا: النّسخة التّي بخط تلميذ المصنّف: هذه النّسخة كتبهَا أحد تلاميذ المصنّف في حياته، يدل علَى ذلك الدّعَاء له بالبقَاء في بدَاية بعض المجَالس، وكذَا السّمَاعَات الواردة في نهَاية المجَالس، وكذَا خط المصنّف في آخر المجلس الأربعين بالإجَازة لمن سمع هذَا الكتَاب. وقد قرَأهَا النّاسخ علَى شيخه المصنّف في عدة مجَالس، آخرهَا يوم الأربعَاء الثّامن والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة سبع وخمسين وسبع مائة بالمدرسة الصّلاحية بالقدس الشّريف. وقت ومكَان كتَابتهَا: جَاء في آخر المجلس الأربعين من كلام كَاتب النّسخة: (فرغت أنَا من تعَليقه في يوم السّبت عَاشر ذي القعدة من سنة سبع وخمسين وسبعمائة في المسجد الأقصى). مكَان وجود النّسخة: النّسخة موجودة في قسم رئيس الكتّاب دَاخل المكتبة السّليمانية بإسطنبول تركيا، وقد وجد علَى الورقة الأولى الختم التّالي نصّه: (حسبي الله بسم الله الرّحمن الرّحيم وقف هذَا الكتَاب مصطفى رئيس الكتّاب السّابق لوجه الله الخَالق وسلمه للمتولي وحكم بصحته حَاكم الشّرع الشّريف وشرط الاستفَادة لأولاده فثمّ فثمّ وبعدهم يعمل به كمَا في الوقف إلَى قيام السّاعة وأخزى الله من اشترَاه أو باعه سنة 1154هـ). وصف النّسخة: النّسخة نفيسة، حيث كتبت بخط تلميذ المصنّف، ومَا زَالت محفوظة عدَا ضياع بعض أورَاقهَا. وقد كتبت بخط نسخ معتَاد، ويظهر أن النّاسخ استتخدم عِند المقابلة أكثر من قلم، حيث يكتب أحيانًا اللّحق بخط أزرق، وكذلك الضّبط بالشّكل أحيانًا بالأزرق والغَالب بالأسود. والحافظ العلائي هو الشيخ صلاح الدين العلائي، الحافظ المفيد المحدث الفقيه الأصولي الأديب، خليل بن كيكلدي بن عبد الله، الدمشقي الشافعي. وُلِد سنة أربع وتسعين وستمائة بدمشق. بدأ طلبَ العلم صغيرًا حيث ورد أنه سمع "صحيح الإمام مسلم" سنة ثلاثٍ وسبعمائة على الشيخ شرف الدين الفزاري، وسمع البخاري على ابن مشرف سنة أربع وسبعمائة، وفيها ابتدأ بقراءة العربية وغيرها على الشيخ نجم الدين القحفازي، والفقه والفرائض على الشيخ زكي الدين زكوي. ثمَّ جدَّ في طلب الحديث سنة عشر وسبعمائة، وقرأ بنفسه على القاضي سليمان الحنبلي وأبي بكر بن عبد الدائم، وعيسى المطعم ومن بعدهم حتى بلغ شيوخُه بالسماع نحو سبعمائة شيخ، ومن مسموعاته الكتب الستة وغالب دواوين الحديث. قال السبكي: كان حافظًا ثقة ثبتًا عارفًا بأسماء الرجال والعلل والمتون. وقال ابن كثير: كانت له يدٌ طولى بمعرفة العالي والنازل، وتخريج الأجزاء والفوائد، وله مشاركة قوية في الفقه واللغة، والعربية والأدب. والحافظ العلائي كان من أولئك الذين ارتحلوا للسماع والأخذ عن الشيوخ، وقد ذكر من ترجم له أنه حجَّ مرارًا، واستقر به المقام في مدينة القدس مدرسًا للحديث في التنكزية. إلى جانب الفتوى والتصنيف، حتى وافاه الأجل المحتوم في المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة، ودفن بمقبرة باب الرحمة إلى جانب سور المسجد. ومن مؤلفاته: 1) إتمام الفوائد الموصولة في الأدوات الموصولة. 2) إجمال الإصابة في أقوال الصحابة. 3) الأحكام الكبرى. 4) الأربعين في أعمال المتقين. 5) الأربعين الإلهية. 6) الأربعين المغنية بفنونها عن المعين. 7) الأشباه والنظائر. 8) برهان التيسير في عنوان التفسير. 9) بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس. 10) تحفة القادم من فوائد أبي القاسم. 11) تحقيق الكلام في نية الصيام. 12) تحقيق المراد في أنَّ النَّهي يقتضِي الفساد. 13) تفصيل الإجمال في تعارض بعض الأقوال والأفعال. 14) تلقيح الفهوم في صيغ العموم. 15) التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة. 16) تهذيب الأصول إلى مختصر جامع الأصول. 17) توفية الكيل لمن حرَّم لحوم الخيل. 18) تيسير حصول السعادة في تقرير شمول الإرادة. 19) جامع التحصيل لأحكام المراسيل. 20) الدرة السنية في مولد خير البرية. 21) رفع الاشتباه عن حكم الإكراه. 22) رفع الإشكال عن حديث صيام ستة أيام من شوال. 23) شفاء المسترشدين في حكم اختلاف المجتهدين. 24) العدة في أدعية الكرب والشدة. 25) عقيلة الطالب في أشرف الصفات والمناقب. 26) فصل القضاء في أحكام الأداء والقضاء. 27) الفصول المفيدة في الواو المزيدة. 28) الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعة. 29) حديث قطَعَ في مِجنٍ وما يتعلق به. 30) كتاب القواعد. 31) كشف النقاب عما روى الشيخان للأصحاب. 32) الكلام على حديث ذي اليدين. 33) الكلام في بيع الفضولي. 34) المائة المنتقاة من الترمذي. 35) المائة المنتقاة من صحيح مسلم. 36) المائة المنتقاة من مشيخة الفخر. 37) المباحث المختارة في تفسير آية الدم والكفارة. 38) المجالس المبتكرة. 39) المجموع المذهب في قواعد المذهب. 40) المدلسين. 41) المسلسلات. 42) مقدمة كتاب نهاية الأحكام. 43) منحة الرائض بعلوم آيات الفرائض. 44) النفحات القدسية. 45) النقد الصحيح لما اعترض عليه من أحاديث المصابيح. 46) الوشي المعلم فيمن روى عن أبيه عن جده. 47) منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة.
الاستشفاء بالعسل في السنة النبوية الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد: فيقول الله تعالى في سورة النحل: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 68، 69]. وثبت عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشفاء في ثلاث: شربةِ عسلٍ، وشَرطة مِحْجِم، وكيَّة نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي)) [1] ، وفي حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن كان في شيء من أدويتكم خيرٌ، ففي شرطة مِحْجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار يوافق الداء، وما أحبُّ أن أكتويَ)) [2] . وصحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه: "عليكم بالشَّفائين؛ القرآن، والعسل" [3] . ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استَطْلَقَ بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسْقِهِ عسلًا، فسقاه، ثم جاء فقال: إني سقيته، فلم يزِدْهُ إلا استطلاقًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقِهِ عسلًا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة، فقال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، وكذب بطن أخيك، فسقاه فَبَرَأ)) [4] . ويمكن أخذُ العسل مباشرة، ويمكن خلطه مع غيره، مثل التلبينة؛ وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن التلبينة مُجِمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن)) [5] ، والتلبينة حساء من دقيق، أو نخالة، فيه عسل أو لبن؛ سُمِّيَت تلبينة لأن لونها يميل للبياض، ولشبهها باللبن في رِقَّتِهِ [6] . ومثل السَّنُّوت؛ وقد ورد من حديث عبدالله بن حرام رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عليكم بالسَّنا والسَّنُّوت؛ فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام)) [7] ؛ يعني: الموت، واختلف في السنوت، فقيل: هو الكَمُّون، وقيل: العسل المخلوط بالسمن [8] . هذا ما تيسر جمعه، والحمد لله أولًا وآخرًا. [1] رواه البخاري (5681). [2] البخاري (5/ 2152، 2157) (5359، 5375، 5377)، مسلم (4/ 1729) (2205). [3] رواه الحاكم (4/ 200)، وابن أبي شيبة (7/ 445) بسند صحيح، وصحح وقفه البيهقي، وابن كثير، وقال ابن حجر في الفتح (10/ 170): رجاله رجال الصحيح. [4] رواه البخاري (10/ 139، 168)، ومسلم (2217). [5] أخرجه البخاري (9/ 550، 10/ 146)، مع الفتح، ومسلم (2216). [6] ينظر: (الفتح 10/ 146). [7] أخرجه ابن ماجه (3457) والحاكم (4/ 201) وصححه، وتعقبه الذهبي بأن فيه عمرو بن بكر السكسكي متروك. [8] الآداب الشرعية (2/ 398).
الآثار الاجتماعية لدولة المصدر انتقال العمال من دولة المصدر إلى دولة المستقدم له آثارٌ اجتماعية أخرى، هي موضعُ بحثٍ من علماء الاجتماع وعلماء التربية والنفس وغيرهم، بل إن الأدب قد تدخل - دون معالجة كَمِّيَّة - في معالجة المشكلات الناجمة عن الاغتراب: مع العائلة قليلًا ودون العائلة كثيرًا؛ حيث سبَّب هذا الانتقالُ "اضطرابات وتوترات اجتماعية ونفسية في الدول المصدرة للعمالة والمستوردة لها على حد سواء، مما يؤثر تأثيرًا ملموسًا في مستوى الرفاهية الإنسانية...إن العَلاقات الأسرية للعمال المهاجرين يصيبُها الاضطراب؛ إما بسبب عجز الأسرة عن توفير الموارد اللازمة لأن تسافر مع عائلها، أو عجزها عن الحصول على تصريحٍ لها بالإقامة بالدول المهاجرة إليها، أو بسبب ما تُحدِثه الزيادةُ المفاجئة في الدخل من تغيُّرٍ في المطامح وأنماط السلوك، وكثيرًا ما تجد الزوجاتِ اللاتي يتركهن أزواجُهن بسبب الهجرة، وقد أصبحن يواجِهنَ مسؤولياتٍ جديدة، ويقُمنَ بأدوار جديدة في الأسرة؛ مما يضع عليهن أعباءً لم تكن موجودة قبل الهجرة" [1] . يُضاف إلى هذا وجودُ مشكلات اجتماعية أخرى لا تغيب عن ذهن القارئ، إلا أنها مشكلاتٌ فردية لا ترقى مع وجودها إلى أن تكون ظاهرة، ولكنها تدخل في مفهوم المخالفات التي تسعى إلى الرِّبح السريع على حساب المبادئ والمُثُل التي يؤمن بها المجتمع الإنساني، ومنه المجتمع الخليجي. هذا إذا كان العامل ذَكَرًا، أما في حال كون العاملِ امرأةً، فإن النظامَ العامَّ في دول المنطقة يؤكد وجودَ مُرافقٍ لها بصفة (مَحْرَم)، وهذا مُطبَّق غالبًا بوضوح في حال المملكة العربية السعودية؛ مما يسهم في استقرار الأسرة، لا سيما مع إمكانية التعاقد من الداخل مع المُرافق، مما يزيد من هذا الاستقرار النسبي، وانتفاء كثير من المحاذير التي عرَّج عليها الدكتور جلال أمين في معالجته للآثار الاجتماعية لانتقال العمال، التي عبَّر عنها بالهجرة [2] . قد لا يكون هذا البعد متحقِّقًا في حال الخدم من النساء، مما يعيدنا إلى ما ذكرتُه أعلاه من وجود مشكلات اجتماعية في دولة المصدر من قبل بعض الأزواج، فيما لا يعود بالمصلحة الظاهرة للزوجة العاملة. من المهم هنا التوكيدُ أن العاملين في المنطقة من غير المواطنين لا يُعدُّون عمالًا مهاجرين، بل هم عمال مؤقتون مرتبطون بمدى الحاجة إليهم، كما سيأتي نقاشه في وقفة تالية (الوقفة الثلاثون). [1] انظر: جلال أمين، العولمة والتنمية العربية - مرجع سابق - ص 56. [2] انظر: جلال أمين، العولمة والتنمية العربية - المرجع السابق - ص 41 - 86.
الفلاسفة ذوو العقول البائسة الحمد لله، والصلاة والسلام والبركة على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد: فهذه نظرة خاطفة، وإلماحة سريعة عاجلة لوصف الحال المزاجي الصعب للفيلسوف، مع بعض الأمثلة الناطقة. وفي ظني أنَّ الأمثل دلاليًّا لمفهوم الفيلسوف- بغض النظر عن الحد اللفظي- هو أنَّ الفيلسوف هو الباحث عن الحقيقة، أو عن الحكمة؛ لأن محبة الحكمة لا تكفي؛ بل لا بد من بحث حثيث حتى يستحق الشخص ذلك الوصف المطابق. وهناك فيلسوف بسيط وفيلسوف مُعقَّد بحسَب الالتزام بقانون الفلسفة، فالفيلسوف البسيط: هو من أخذ بما صحَّ لديه من أهداب الفلسفة وبعض أطرافها، واقتصر من منطقها على ما يراه كافيًا لوزن أموره الذهنية، وتصفية نظره للعلاقات بين الأشياء، والغوص في ماهيَّاتها، فهذا هو حدُّه العرفي البسيط المقبول، لا الاصطلاحي الشائك المعقد. أما الفيلسوف التام: فهو من التزم أدوات الفلاسفة والمناطقة، والتزم ما اتفق عليه سوادهم فيها، حتى لو كان ذلك مفضيًا إلى زلل كبير حيال النظر لحقائق الأمور والعلاقات بين الأشياء. وسبب ضلال الفلاسفة عمومًا القدماء منهم والمحدثون: نشأتهم في أوساط مغيَّبة عن الحقيقة الغائية للوجود الإنساني، وضالَّةٍ عن هدي الأنبياء، وغثَّةٍ بالخرافات والمحالات العقلية، فألحَّت عليهم عقولهم الذكية بحرارة الرغبة في كشف المُثُلِ الحقيقية للخلق الإنساني، فصاروا إلى ما تعلم من تناقض، وحيرة، وشكٍّ، وتهوُّك، وجدل، ورَدِّ الغيب، وبناءات ذوات أسس واهية؛ فانجرفت بهم لأودية الاضطراب، وهامُوا في مسالك التيه، والصدام مع قواعد الفطرة الملحَّة، وصراخِ الأرواح الحيرى، فانتهوا إلى الانغلاق على الأوهام التي ظنُّوها حقائق ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33]. وبالجملة، فالمؤمن في غِنًى عن الفلسفة وما تفرَّع منها من المنطق، فإنَّ أكثر ما فيها من صواب يعرفه الشخص العاقل العامي؛ لأن الله تعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم جسدي وعقلي وروحي، وعلَّمَه البيان، وركَّب فيه العقل الوازن للأمور، المنتبه للحقائق، الجيِّد إجمالًا في تمييز العلاقات بين الماهيات، وهذا هو مطلوب الفلسفة؛ لأن غائية الفلسفة إظهار ما هو موجود أصلًا في النظر العقلي السليم، لكنها تُرتب، وتُقلّب وتلقّب وتطيل مسارات الأمور، فهي بحق لا يحتاج إليها الذكي، ولا يستفيد منها البليد، فالبناء العقلي والذهني والفهميُّ والتصوري غير مفتقر إلى مماحكات وجدل وتعقيد، وإنْ ظُنَّ لأول وهلة صوابيّة ذلك. فلله الحمد أن أغنانا عن كثير من هُرائهم لهُدى الوحي السليم الذي قوَّم ميزان العقل السوي وصفاء الفطرة النقية، بدون حاجة إلى ضجيج الحائرين السائرين على مراكب التحليل بمعزل عن الوحي العاصم من الزلل. هذا وإن الفيلسوف الحقيقي صادق كل الصدق في أطروحاته الفكرية، ومردُّ ذلك أنه حين يعرض تفاصيل إدراكه العقلي وحقيقة تصوُّره الذهني للماهية المقصودة، فهو يُشَرِّح عقلَه الفكري بحدود فكرته المطروحة، فإن حاد عن إظهارها كما هي فلن يستطيع انتظام فكرته التي يروم بيانها، وسيظهر تناقضه وبطلان مبناه لأول وهلة؛ لذا فضلال الفيلسوف- غالبًا- ليس راجعًا إلى سوء قصده، بل إلى جهله أو إعراضه عن الحقائق الإيمانية والعلمية التي تفرد الشرع بكمالها وسلامتها وعصمتها. وما ظنك بامرئ ولد في بيئة ملحدة، أو مشركة شركًا طوطميًّا أو سماويًّا أو أرضيًّا، فيرى أهله وأحبابه وجيرانه ومعارفه وثِقاته يعبدون حجرًا، أو بقرة، أو قبرًا، أو كوكبًا، أو بشَرًا، أو ملَكًا، أو نبيًّا، أو جِنِّيًّا، أو آلهةً مثلّثة.. ونحو ذلك الضلال المبين! فهذه البيئة الضالة عن هدي الأنبياء ونور الوحي قد طمست أنوار الفطرة الإنسانية الأولى لديه، فإذا عقل وأدرك ورام التديُّن والإيمان إذ أمامه رُكام الخرافات التي يرفضها العقل السليم، وتأباها النفس الحرة، فيقف عقله البائسُ حائرًا بين فطرة قد انطمست، وعلوم قد حُرِّفت، أو اندثرت، قد حلَّت محلَّها خرافات لا تصلح إلا بشرط قطع التفكير في سلامتها، والتسليم بها دون التصور لحقيقتها، والإيمان بها دون مجرد السؤال عن تناقضاتها ومحالاتها. وعليه فإن أراد ذلك الإنسان الانعتاق من ذلك التقليد الخرافي البائد؛ كان لزامًا عليه أن يزن أمره بمرجعية لا تقبل الخطأ قدر الإمكان بحسب مُمْكِنِه ممَّا لديه، فيلجأ إلى المورد الوحيد بين يديه؛ وهو عقله المجرد، سواء أكان عقله المفرد أو مجموعة عقول تواطأت على قبول أمور معينة، فيطلق عقله حينها في اختبار الأشياء العلمية، ووزن الأمور العقدية، واستقراء العقول السابقة، واختبار التجارب اللاحقة، كل ذلك بعقله اليتيم، وحيلته القاصرة، وعجزه الفاضح؛ فيصل بعد قطع مسافة معينة -كُلٌّ بحسَب قدرته العقلية وإمكاناته وجهده- إلى ما يشبه سكينة العقل وطمأنينة النفس، لكنها مؤقته ناقصة، لا دائمة تامة؛ لأن كثيرًا مما يراه قواطع لها لا تلبث أن تنكشف زائفة لا حقيقة تحتها، بدليل انهيارها تحت أول طارق جدلي مُلزم، أو هبوب ريح عاطفية عاتية، فهناك تهتف به حيرته للتسليم بأنه لا يشرِي ولا يشتري إلا الوهم، وأنه لا يعلم شيئًا على التحقيق! وقد يصل مع المدى للتسليم بأن العقل السليم يقود لخالقه العظيم، وأن العقل مهما أوتي من قوة وحِدّة ذكاء فهو مفتقر افتقارًا تامًّا إلى وحي غيبي يعصمه ويهديه، وهذا ما عناه فرنسيس بيكون بقوله: "القليل من الفلسفة تقنع عقل الإنسان بالإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يجلب عقول البشر للدين"، فالعقل السليم الصحيح يوافق النقل الصريح الصحيح، ولكن أين من يثق بالوحي حتى يزن به عقله، ويحفظه من الزلل والعطب؟! والله المستعان. والمقصود أنَّ المحروم من نور الوحي وأثارة الرسل يسير به عقله حثيثًا بما يراه من لوازم عقلية، وقواطع منطقية، حتى يصدم بالحقيقة القاطعة بما ورائيات الحسِّ، ومدركات العقل، فيعجز عن العلم بحقائق الغيب المخفية عن إدراك العقل في الدنيا إن كان بمعزل عن الوحي المنزل، ويرى هذا العجز المُلحَّ ماثلًا أمامه عيانًا، فتأبى كبرياؤه الخضوع للتسليم بذلك الجهل المكتوب المحتوم، ويبرح شاقًّا طريقه عبر دقّ سُجُفِ الغيب بإسفين أوهامه، محاولًا رفع ستوره بظنونه وأحلامه، حتى يخرَّ متشحِّطًا في حيرته، صريعًا في ندمه مع آخر شوطِ مسيرِه، كتب الله الخيبة والضلال على من ارتضى غير وحيه هاديًا، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123، 124]. ومن هنا ينقسم أولئك إلى قسمين: قسم اتَّجه للأمام بإصرار المضحِّي بما لديه، الذي لم يبق لديه شيء يخسره، مصطدمًا بجبل الجهل والعجز والحيرة؛ فينتهي بآخرةٍ إلى الانتحار المهني أو الذهني أو الجسدي! وقسم: آثر السلامة شيئًا، وقنع بالعافية الناقصة، فاستند إلى التسليم بالعجز عن إدراك الغيب، مع التسليم بوجود الرب الخالق العظيم، ويسند علمه في ذلك إمَّا إلى بقايا آثار مُحرَّفة للمرسلين، وإما إلى أشلاءِ عقائدَ وثنيّةٍ للغابرين، وإما إلى اعتقادٍ ربوبيٍّ مطلق، فيعتقد أن الكون مخلوق من لدن خالق عظيم عليم، بلا بحث فيما وراء ذلك، أو باعتقادٍ ربوبيٍّ على شكلٍ جديد، كما فعل فولتير لمَّا آمن بالرب على طريقته الخاصة، ونصَّ على أن ربه ليس هو رب المسيحيين، وأوصى ألَّا يحضرَ احتضاره كاهن ولا قس؛ بل إنه قد بنى معبدًا لربه الخاص الذي سلم له قياد أمور الغيب، إزاحة لقلقه المُلِحّ، وراحة لعقله من حيرة البحث عما لم يدركه عبر أحقاب الضنى والعنت والدأب الحثيث، فإن لم يكُ من ذلك شيء فإن الفيلسوف حينها يستندُ إلى مذهب الشكوكيين الذين يجدون شيئًا من العزاء والمواساة عبر عدم التكذيب الصريح بالغيب، ويقتات عزاءه وسلوانه بما يقف عليه من الهواجس الدافئة للغيب المُلحّ على نفسه ضرورة، و﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 43]. وبالجملة، فقد يصحُّ لنا أن نلقب الفلاسفة بذوي العقول البائسة، فسبب بؤس نفوسهم هي إملاءات عقولهم، فذكاؤهم يؤرقهم ويحثُّهم ويحرقهم لإيجاد حقائقَ للماهيّات وعللٍ ومعلولات وأشياء يستحيل على عقولهم وحدها الإحاطة بها. وتأمل- على سبيل المثال- حال شوبنهاور ونيتشه وسيرتهما المؤلمة المُعَذّبة، ولك أن تعلم أن الوقود الخفي المحرك للحربين العالميتين هي كتابات نيتشه، وبخاصة كتابه: "هكذا تكلَّم زرادشت". وشوبنهاور ونيتشه يقعان في أقصى العنت الفكري، أما هيغل وفولتير ففي الوسط من ذلك، وكذلك الحالم الخيالي روسو، وأهونهم الشكوكي ديورانت الذي كاد أن يسلم، وعلى بقيّتهم فقِس. وفي ظني أن عمانويل كانط بكتابه الخطير في نظرية المعرفة الإنسانية "نقد العقل الخالص" أو المجرد، هو من فتح الباب على مصراعيه للأفكار المدمرة لنبذ علوم الغيب وما ترتب عليها من مُثُلٍ وقيم وفضيلة، فقد بنى للعقل عرشًا يستقل به عن الغيب إن أراد الإحكام- بزعمه- مع التسليم باحتواء الكتاب على بعض القطعيات العقلية المفيدة للنظر، وما نظريات سارتر وفرويد ودارون وماركس المدمرة إلا ذيول خائبة على كتابه، وهو وإن كان مسبوقًا بفلسفة المذهب المادي كما عند فولتير وبيكون وسبينوزا ومن سبقهم؛ إلا أنه قد أسَّس لنظرة تشريحية جدلية جديدة للعقل، تبهر المتعمق فيها إن كان خاليًا مما سواها حتى يظن أنه لا توجد حقائق خارج صندوق الجمجمة، مما ترتب عليه الإعناق والثقة المطلقة بصوابيَّة أحكامه، حتى وإن كانت صادرة من لدن شخص واحد بعينه دون الحاجة لتعديله من خارج. لذلك أقترح على من كان ضليعًا بالعلوم العقدية الشرعية، وقد أوتي قدرًا كافيًا من دراسة الفلسفة- والأفضل أن تكون لجنة أكاديمية متكاملة، شريطة أن يتحصَّنوا بالعلم الشرعي حتى لا يزِلّوا إذ راموا الثبات، ولا يتلوَّثوا من حيث أرادوا الإنقاء، والعافيةُ لا تُعْدَل- أن ينفروا لقراءة أُمَّات الكتب الفلسفية الحديثة الكبار، وبخاصة لكانط وهيغل، وينخلونها، ويزِنُونها على ميزان الشرع المطهر، فيظهرون ما فيها من زيف وتناقض وبطلان، حتى لا يغتر بها من أحسن الظن بنفسه فأبحر فيها بلا سلاح من الوحي ولا حارس من الشرع، فيستحلي سُمَّها الناقع فيعطب أو يكاد. وما فيها شيء قد يفيد من حُرم الوحي المنزل والشرع الحنيف إلَّا أنَّ أهل الإسلام عنه في غُنية وعافية وكِفاء، ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51] بلى وعزّةِ ربنا! أما المؤمن الموفق المهتدي بالوحي المنزل، فإنَّ فطرته قد نهضت على ما استقامت عليه مُذْ فجرِ خليقتها، واستقت من الوحي ما قام به ساقها، ونمت عليه فروعها، واستطالت به أغصانها، وأينعت وطابت عليه ثمارها. فالفطرة الأصيلة له لم تلوَّث بجهلٍ بحقيقة الوجود، والبيئة الإسلامية المستقيمة قد حفظتها- بإذن الله تعالى- من عاديات الضلالات، والعلوم المستقاة من الوحي المعصوم قد أطلقت قيد عقله من عِقال الخرافات إلى تحقيق سلامه وإشباع نهمه بلا انفلات، وحرَّرته من سجن تعقيد المتناقضات إلى فضاء الحرية المُرتَّب المتوازن الحرّ النظيف، وسمائه النقية الصافية، فانطلق بكل قوته في بناء علمه المحكم المتوازن المستنير بعون إلهه رب العالمين، فحصَّل الظلَّ الوارف من هِجِّيرَى الشبهات، والسكينة الدافئة، والطمأنينة الدائمة، واليقين الراسخ، والحقيقة المطلقة المحكمة، وفاز الفوز العظيم والفلاح المبين، ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، ﴿ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ﴾ [الزمر: 37] ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.
أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو لمحمد إبراهيم البنا صدر حديثًا كتاب "أبو الحسين بن الطراوة (438- 528 هـ) وأثره في النحو"، تأليف: أ.د. "محمد إبراهيم البنّا"، نشر: "دار الذخائر للنشر والتوزيع"، و"المكتبة العمرية للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يطبع ضمن سلسلة تراث العلامة "محمد إبراهيم البنا"، الأستاذ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر وعميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر سابقًا - رحمه الله تعالى -، حيث صدرت طبعته الأولى عام 1400 هـ - 1980 م، وهذه الطبعة تمتاز بحسن تنسيقها وتبوبيها وإخراجها بصورة فنية جيدة. ويهدف هذا البحث إلى التعرف على مكانة "ابن الطراوة" في نحو العربية، ومشاركته في دعم النحو ودرسه في الأندلس، والبحث في كتبه وآرائه النحوية، وانتقاداته، حيث جمع الكاتب متفرقات كتب النحاة مما ورد فيها ذكر عن "ابن الطراوة" كانت أشتاتها قوام هذه الدراسة المستقلة عن "أبي الحسين بن الطراوة". وأبو الحسين، سليمان بن محمد بن عبد الله السبائي المالقي المعروف بابن الطراوة (438هـ - 528هـ) ، ولد بمالقة، هو أديب نحوي أندلسي، وتلميذ الأعلم الشنتمري، حيث سمع عليه كتاب سيبويه، كما أخذ عن أبي مروان عبد الملك بن سراج، وروى عن أبي الوليد ابن خلف الباجي. وهو من كتّاب الرسائل، له شعر، وله آراء في النحو تفرّد بها. تجوّل كثيرًا في بلاد الأندلس معلمًا يقبل عليه الطلاب من كل فجّ. وتتلمذ عليه العديد من النحاة منهم: أبو القاسم عبد الرحمن بنُ عبد الله الخثعمي المالقي، المشهور بالسّهيلي (ت 581 هـ) صاحب "الروض الأنف"، وأبو مروان عبد الملك بن مجير بن محمد البكري المالقي (ت 550 هـ)، وأبو القاسم عبد الرحمن بنُ محمد الرمَّاك الإشبيلي (ت 541 هـ)، وأبو محمد بنُ دُحمان المالقي (485- 575 هـ)، وأبو محمد عبد الله بنُ فائد بن عبد الرحمن العكي (ت 560 هـ)، وأبو العباس أحمد بنُ حسن بن سيد الجُراوي المالقي (ت560 هـ)، وأبو بكر سليمان بنُ سمحون النّصاري القرطبي (ت 564 هـ)، وأبو عبد الله محمّد بنُ عبيد الله الخشني المالقي (ت576 هـ)، هؤلاء وغيرهم جُل تلاميذ ابن الطّراوة، وهم على شاكلةِ شيخِهم علماء باللّغة والنّحو والأدب. من مصنّفاته في النحو كتاب "ترشيح المقتدي"، و"المقدمات على كتاب سيبويه"؛ و"مقالة في الاسم والمسمَى"، و"الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في الإيضاح"، و " شرح المشكلات على توالي الأبواب". قال عنه ابن سمحون: "ما يجوز على الصراط أعلم بالنحو منه". وقد عُرِف بانحيازه إلى آراء النحاة الكوفيين والبغداديّين ضد البصريّين. و"ابن الطراوة" من أوائل الأندلسيين الذين كتبوا في النحو كتابة متخصصة، تقوم على فقه أسراره وكشف غوامضه، كما أن له العديد من الآراء الشهيرة في قضايا نحوية وصرفية، اعتمد في مناقشته لها على القياس حينًا، والسماع حينًا آخر، بل قل إنه جمع في بعضها بين السماع والقياس، وما يمكن أن نلحظه من خلال هذه الدراسة هو كثرة مخالفاته لجمهور النحاة بشكل عام، ولسيبويه النحوي البصري بشكل خاص، هذا ويعد ابن الطراوة فيما طرحه وناقشه من آراء له في النحو والصرف أنموذجًا يحتذى به في مناقشة مسائل هذا العلم، وبالتالي الوصول إلى أحكام علمية سليمة، يهتدي بها دارسو اللغة العربية، نحوها وصرفها. وجاء البحث في تمهيد وخمسة فصول على النحو التالي في التعريف بابن الطراوة: 1- عصره وحياته وبيئته. 2- شيوخه وتلاميذه. 3- شخصيته وأدبه. 4- كتبه. 5- آراؤه في النحو. تناول الكاتب في الفصل الأول "عصر ابن الطراوة وحياته وبيئته" الحياة العلمية والأدبية في عصر ملوك الطوائف، وأبرز علماء العصر، والنشاط اللغوي في الأندلس، ونشاط حركة التأليف، ثم عرج إلى الفقيه الكبير ابن حزم الأندلسي وموقفه من الدراسة اللغوية على عصره، ثم حركة المرابطين في الأندلس، وهجرة شيوخ اللغة والنحو نتيجة الاضطرابات السياسية في تلك الفترة، واستمرار النشاط اللغوي في عصر المرابطين، وبعض الاتجاهات في مدارس اللغة. ثم بدأ في وضع تعريف بنسب ابن الطراوة، وأسرته، وبيئته، وحياته العلمية والعملية. ثم بيَّن في الفصل الثاني بعنوان "شيوخ ابن الطراوة وتلاميذه" شيوخه الذين تتلمذ عليهم وكان لهم دور محوري في ملاحظة نبوغه المبكر كالأعلم الشنتمري، وعبد الله بن سراج، وأبو الوليد الباجي. ثم ذكر تلاميذه الذين تتلمذوا على يديه ومنهم: ابن الرماك، والسهيلي، وآخرون. ثم وضع مبحثًا في موقف السهيلي من شيخه. وفي الفصل الثالث تناول "شخصيته وأدبه" فابن الطراوة عالم وشاعر، حيث بين اجتهاده وصفاته الخلقية كحدّة مزاجه، وتلقيبه بالأستاذ ومفهوم هذا اللقب، ثم بين أمثلة من أدبه الإنشائي، ومناقضاته مع الحصري أبي الحسن علي بن عبد الغني، وبين نماذج من رسائله ونثره. وفي الفصل الرابع تناول الكاتب ما وصل إلينا من كتب ابن الطراوة محللًا إياها ذاكرًا موضوعاتها ومنها: "المقدمات إلى علم الكتاب وشرح المشكلات على توالي الأبواب" معرفًا بهذا الكتاب، وإيراد نصوص منه، مع بيان موقفه من سيبويه، ذاكرًا أن "المقدمات" هي أهم كتبه. وكذلك كتاب "ترشيح المقتدي" وهو مختصر "المقدمات" السابق. وكتاب "رسالة فيما جرى بينه وبين ابن الباذش في مسألة نحوية"؛ هل هي في مسألة استثناء الكثير من القليل؟! ورسالة "مقالة في الاسم والمسمى". أما كتاب "الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في الإيضاح" فكان اعتماد الباحث على هذا الكتاب في التعريف بابن الطراوة، وبيان موقف ابن الطراوة من "الفارسي" في "إيضاحه"، والجهات التي عنى فيها ابن الطراوة بنقد "الفارسي"، إلى جانب ذكر بعض مشكلات هذه المخطوطة وحلها وتوثيقها. وفي الفصل الخامس بعنوان "آراؤه في النحو" تناول تعريف ابن الطراوة للنحو، واحتكامه إلى كلام العامة، وتحديده للمصطلحات، وبيان تقسيماته الجديدة، وإعراباته، وآرائه التجديدية في النحو، كقضية العامل والتعريف بها، والمقصد إليه عامل جديد ذهب إليه ابن الطراوة، وبعض أصوله في العمل كـ: الأسماء لا تعمل، والعامل في المصدر المؤكد، وجواز إلغاء كان وظن مع التقدم، وأن اسم المصدر لا يعمل، ورب اسم، وسحر: مبني على الفتح. وبيان بعض آرائه في التراكيب: كجواز مجئ الحال من النكرة، ووصف المعرفة بالنكرة المختصة، وتوكيد النكرة بألفاظ الإحاطة، وعطف ألفاظ التوكيد بعضها على بعض، ونصب الطريق على الظرفية، وحذف الجارّ إذا تعين، وإضافة الاسم إلى صفته ومراده، وتعريف التمييز، ونصب الجزأين بعد إن وأخواتها. وبين الكاتب أن ابن الطراوة كان يفضل وصل الضمير مع الفعل الناسخ نحو: كأنه، ويمنع إيقاع نعم موقع بلى، والإضافة إلى أنّ المفتوحة خفيفة أو ثقيلة، ونصب المفعولين متقدمين في باب ظننت، كما أنه يوجب رفع الاسم بعد الاستفهام إذا كان السؤال عن الفعل. أما في مبحث شواهده وأقيسته: فيستشهد بالحديث، وبيَّن الكاتب الجانب التاريخي لهذه القضية، كما كان ابن الطراوة كان يستشهد بشعر معاصريه، وتقديمه للمسموعات ودرجها تحت قواعد تخرجها عن الشذوذ. والمؤلف هو د. محمد إبراهيم البنا، ولد في السادس عشر من ذي الحجة سنه 1351هـ (11 إبريل 1933م) في مدينه المنزلة بمحافظة الدقهلية، وأتم حفظه للقرآن وهو لم يبلغ سن الحاديه عشر، فألحقه والده بمعهد دمياط الديني ثم حصل منه علي الشهادة الابتدائية، ثم التحق بمعهد المنصورة الديني وحصل منه علي الشهادة الثانوية بتفوق، ثم التحق بكلية اللغة العربية (كليه القمة في هذا التوقيت) وفيها درس علي أعلامها ومنهم الشيوخ والأساتذة الأجلاء: محمد محيي الدين عبدالحميد، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، وحسن جاد حسن، والشيخ محمد محمد الفحام الذي كان عميدًا للكلية وغيرهم من الأعلام.. وحصل على الإجازة العالمية من كلية اللغة العربية عام 1959، وكان ترتيبه الثاني علي الدفعة، وحصل علي إجازة التدريس عام 1960، ثم حصل علي دبلومة الدراسات العليا عام 1965 وحصل علي درجه الماجستير عام 1967، ثم علي درجة الدكتوراه عام 1971 بدرجه امتياز مع مرتبة الشرف وعنوانها تحقيق كتاب "نتائج الفكر للسهيلي". بدأ الدكتور البنا حياته العلمية مدرسًا بالمعهد الديني بأسوان عام 1961- 1962، ثم عين معيدًا في كلية اللغة العربية اعتبارًا من 15/7/1963م بقسم اللغويات العربية وبعد أن حصل علي الدكتوراه عين مدرسًا في 15/9/1971، ثم رقي إلى أستاذ مساعد في 13/11/1976، ثم عمل في جامعه قاريونس بليبيا في الفترة من عام 1973 وحتي 1977، كما عمل أستاذًا زائرًا في جامعة أم درمان بالسودان عام 1980، ثم رقي أستاذًا للغويات في كلية اللغة العربية بالقاهرة في 11/11/1981، وأستاذًا في جامعة أم القري من 1981 وحتي عام 1996، ثم عين عميدًا لكلية الدراسات العربية بسوهاج عام 1997، كما عمل أستاذًا متفرغًا بكلية اللغة العربية بالمنصورة وكليه الدراسات الإسلامية ببورسعيد وكلية القرآن الكريم بطنطا، كما حاضر في معهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية. استعانت به "مؤسسة الشعب" في تحقيق بعض الأعمال الخالدة في سلسلة "كتاب الشعب" التي بدأت في الصدور منذ خمسينيات القرن الماضي واختارت بعض كتب التراث التي تهم المسلم في التفسير والحديث والفقه والتاريخ والسيرة فقد كان التحقيق يتم بصوره علمية ويصور كل مخطوطات الكتاب المتواجدة في كافة أرجاء المكتبات في العالم ويختار أكملها ويتم مقابلتها علي عدة نسخ وقد حقق المشروع بغيته وأهدافه ورسالته ومن الكتب التي حققها في كتاب الشعب: • "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير الجزري. • و"تفسير القرآن العظيم"، للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، الذي طبعه طبعة أخرى عن دار القبلة. كما حقق أعمالًا أخرى مثل: "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"الرد علي النحاة" لابن مضاء، و"كتاب الخراج" لأبي يوسف، و"أخبار النحويين" للفراء أبي طاهر عبدالواحد بن عمر، و"معلقة عمرو بن كلثوم"، و"المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية" قام بتحقيق الأجزاء الثاني والرابع والسابع والثامن والتاسع. كما أن له مؤلفات أخرى منها: "ابن كيسان- حياته وآثاره وآراؤه"، و"أبو الحسين ابن الطراوة وأثره في النحو"، و"تخريج النص"، و"تحليل الجملة الفعلية"، و"فهرسة التراكيب". كما ارتبط بالإمام السهيلي وهو من رواد الأندلس في القرن السادس الهجري وأحد الذين برعوا في غير علم من العلوم الإسلامية وبرز في العربية برزوًا جعله محط الأنظار فشدت إليه الرحال، فاختاره موضوعًا لرسالة الدكتوراه بتحقيق كتابه "نتائج الفكر" التي تم طبعها علي نفقة الجامعة وحقق له أيضًا "الفرائض وشرح آيات الوصية"، و"أمالي السهيلي"، وكان قد بدأ بتحقيق أشهر كتبه علي الإطلاق في السيرة النبوية "الروض الأنف" ولم ينته من مراجعته لظروف مرضه ووفاته كما ألف عنه " أبو القاسم السهيلي ومذهبه النحوي" وقد نبعت هذه الدراسة أساسًا من تراث السهيلي فقامت علي كتبه وأماليه. كما كان للدكتور البنا جهود أخرى منها مساهمته ضمن نخبة من أساتذة جامعة أم القرى في "التفسير الميسر للقرآن الكريم" والذي قام بطباعته مجمع الملك فهد للمصحف الشريف وترجماته إلى معظم اللغات الحية ومنها الألبانية واللاهورية والإسبانية والأردية والإنجليزية والأوزبكية والإيطالية والفرنسية والبوسنية والسويدية وغيرها من اللغات... كما كتب في الدوريات والصحف والمجلات مقالات عدة، وقدم سلسلة حلقات في إذاعة القرآن الكريم بعنوان (من بلاغة القرآن) في مكة المكرمة تحدث فيها عن استخدام الألفاظ والمترادفات في القرآن الكريم.
الآثار الاجتماعية للعمال من المهم في ظل البحث في تأثير العمال الوافدين الثقافي والاجتماعي على مجتمعات الخليج العربية - التفريقُ الثقافي بين العمال العرب والمسلمين وبين العمال من غير المسلمين؛ "فإن هناك من ينظر من زاوية معينة، ويُغفِل غيرَها من الزوايا، والقضية برُمَّتها في زواياها الكثير من التناقض أو التعارض أو التداخل؛ فهناك مَن يركِّز على أن العمالة لها محيطها، وهي لا تنغمس كثيرًا في المجتمع الخليجي، وأنها في كثير من الأحيان تجتمع في أُطُرِها وفي جُزُرِها التي قد تكون معزولة، وهناك من يركز على أن احتكاكَ العمالة بالمواطنين أكثرُ كثيرًا من احتكاك المواطنين بعضهم ببعض، وخصوصًا في إطار العمل الخدمي المنزلي" [1] . مع هذا، فتأثيرُ مجتمعات الخليج العربية الثقافي والاجتماعي على العمالة الوافدة غير العربية وغير المسلمة تأثيرٌ لا يُذكر، رغم أن العَلاقة في المنظور الاجتماعي علاقةُ تأثير متبادَل [2] ، ورغم قيام جهود شعبية - من خلال العمل الخيري - للتعريف بالثقافة القائمة على الإسلام التي تتبناها دول الخليج العربية، وذلك من خلال قيام مكاتب دعوة الجاليات المنتشرة في معظم دول المنطقة وإن تعددت أسماؤها، ومع ما لهذه المكاتبِ من أهمية في التعريف بثقافة البلاد، وسعيًا إلى تأقلم العامل غير المسلم مع عادات المنطقة وتقاليدها - فإن تأثيرَها يظلُّ من حيث الكَمِّ محدودًا؛ إذ إن طبيعة الوظيفة التي تقوم بها هذه المكاتب تعالج جوانبَ ثقافية فكرية، تقوم على الاقتناع. بينما تأثير مجتمعات الخليج العربية وتأثُّرها الثقافي والاجتماعي على العمال الوافدين من العرب والمسلمين، مع تقليصِ فرصِ التأثير بحكم الاشتراك في الثقافة والفكر والأنماط الاجتماعية - تأثيرٌ وتأثُّرٌ واضح في السلوكيات الاجتماعية بصورة أوضح، وهو من جانب آخرَ مطروح في أنه تأثيرٌ غيرُ مرغوب فيه في دول المصدر من المجتمعات العربية والإسلامية؛ بحكم تصنيف المجتمع الخليجي على أنه مجتمع محافظ ذو خصوصية حاصرة، سعى إلى "تصدير" أُسلوبِه في المحافظة والخصوصية الحاصرة، أو ما يُوصف المجتمعُ الخليجي به بنبرة سلبية من النُّزوع إلى الرَّجعية أو السلفية أو الوهابية بمفهومها السياسي الحركي، وذلك من خلال عودة العاملين الوافدين من منطقة الخليج العربية إلى ديارهم متأثرين بهذا المفهوم في فَهم الدين والحياة [3] . مِن الآثار التي لا بد من التعريج عليها في هذا المقام: استخدام القوى العاملة الوافدة - من منطلق سياسي - ورقةَ مساومةٍ بين دولتي المصدر والمستقدم؛ بحيث تُستخدم عندما تكون هناك أي بوادرَ للخلاف السياسي بين الدول، الذي تعارفنا عليه أنه أقربُ الخلافات وأكثرُها حدوثًا، وأسرعها زوالًا. يتمثل هذا الاستخدام المُجحِف في سحب العاملين من دولة الاستقدام في أوقاتٍ يتعذَّر استبدالُ غيرهم بهم، سواء جاء السحبُ بمبادرة من دولة المصدر، أم جاء بمبادرة من المستقدم. حصل هذا الموقفُ في المملكة العربية السعودية في مطلع الثمانينيات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري، الستينيات الميلادية من القرن العشرين، حينما سحبت دولةُ المصدر العربية - على إثر خلاف سياسي - عمَّالَها على مختلف تخصصاتهم، مما اضطر دولةَ الاستقدام مع هذا الإجراء إلى الالتفاتِ وإلى التكثيف من الاستقدام من جنسيات عربية أخرى. حصلت هذه الحالةُ بوضوح مرةً أخرى مع مطلع العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري (11 محرم 1411هـ)، مطلع العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي (2 أغسطس/ آب 1990م)، عندما غزا النظام البعثي في العراق دولةَ الكويت، وأحدث شرخًا في الصَّفِّ العربي، الذي انقسم في موقفه من هذا الغزو؛ بين معارض أو مؤيد أو متوقف، من منطلق القول المأثور: (لم أردها ولم تَسُؤْنِ)، كان لهذا الغزو أثرُه على سوق العمل العربي، ليس في العراق والكويت فحسب، بل على مستوى دول المنطقة من دول المصدر ودول الاستقدام [4] . كما حصل مرة ثالثة في دولة قطر في نهاية العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري (1417هـ)، نهاية العقد العاشر من القرن العشرين (1997م)، حينما قررت دولةُ المستقدم ترحيلَ عمال البلد العربي المصدر، الذي حصلت بينه وبين دولة المستقدم خلافات سياسية [5] . تُستخدم القوى العاملة كذلك داخليًّا من قِبل بعضِ الأحزاب السياسية في دول المصدر على أنها ورقةُ مساوماتٍ انتخابية، وذلك عندما تظهر أصواتٌ لأحزاب المعارضة تدعو إلى إيقاف إرسال العمال خارج البلاد، أو إيقافها عن بلد مستقدم بعينه؛ بحُجَجِ تهيئةِ بيئةِ عملٍ أفضل، وما أن تزول الحملةُ الانتخابية حتى يخفتَ هذا الصوت، بل ربما أصبح طرفًا في الدعوة إلى تكثيفِ إرسال العمال إلى البلاد التي كان يدعو إلى وقف الإرسال لها أثناء الحملة! تهيئةُ بيئة عمل أفضلَ مطلبٌ مُلحٌّ، وتُعالَج فنيًّا من خلال القنوات المؤثرة بين دول المصدر ودول المستقدم، بحيث تعالج بمِهنيَّة فنية؛ فلا تؤثر هذه المواقف السياسية على البعد الاجتماعي والاقتصادي لاستقدام العمال، لا سيما إذا كان العمالُ لا يتفقون أن يكونوا ورقةَ مزايدات سياسية؛ لإحراج الحزب الحاكم. على أي حال، فإن هذا يوحي بقدر من قلة الوعي السياسي، واختلاط الممارسة الديموقراطية من خلال الأحزاب بتصفية الحسابات الحزبية، كل ذلك على حساب العامل الذي ينطلق إلى دول الاستقدام؛ ليعملَ وليكسب بالحلال، فيعيش ويعيش من ورائه أهلُه وذووه ومجتمعه بعد ذلك في دولة المصدر. هذه التجرِبة السياسية تؤدي إلى ضعف الاطمئنان من دولة المصدر والمستقدم على حدٍّ سواء، فتتأثر حركةُ العمال، مما يتعارض مع تطلُّعات منظمة العمل العربية في فتح قنوات للعمال العرب داخل البلاد العربية، ومن ثم الحد من هجرة العمال العرب إلى البلاد الغربية، وقد حاولت منظمةُ العمل العربية إصدارَ إستراتيجية في دورتها السنوية سنة 1424هـ/ 2003م تحكم هذا النمطَ من التبادل الحيوي بين الدول العربية، الأمر الذي يرتضيه المواطنُ العربي لو سارت الأمور من منطلقها الفني البحت، بعيدًا عن المؤثرات السياسية التي طالما عصفت بالأمة، وأنستها ما هو مشترك بينها. [1] انظر: أسامة عبدالرحمن، النفط والقبيلة والعولمة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000م، ص 92. [2] انظر: أسامة عبدالرحمن، النفط والقبيلة والعولمة - المرجع السابق - ص 94. [3] انظر: أسامة عبدالرحمن، النفط والقبيلة والعولمة - المرجع السابق - ص 94، ويتردد مفهوم الوهابية، ويطلق ابتداءً على مسلمي منطقة الخليج العربية، دون تحقيق لهذا المفهوم، ويُراد به النزوع إلى التشديد في الدين، الذي لن يُشادَّه أحدٌ إلا غلبه. [4] انظر: علي بن إبراهيم النملة، الصراع العربي في الكويت: فرض الأفكار قسرًا، الرياض: مكتبة العبيكان، 1415هـ/ 1994م، ص 150. [5] انظر: باقر سلمان النجار، حلم الهجرة للثروة: الهجرة والعمالة المهاجرة في الخليج العربي - مرجع سابق - ص 116.
من قيل في ترجمته كان أكولًا أو كثير الأكل أو نحوها إبراهيم بن عبد الله الحلبي الصوفي الملقّن (799 هـ): "كثير الأكل"؛ [إنباء الغمر (1 / 530)، وشذرات الذهب (8 / 607)]. إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، أبو إسحاق الهروي (244 هـ، وقيل: غير ذلك): "قال إبراهيم الحربي: وكان أكولًا يأكل جملًا وحده "؛ [تاريخ بغداد (6 / 118)، والمنتظم (11 / 323)، وتهذيب الكمال (2 / 122)، وميزان الاعتدال (1 / 44)، وتهذيب التهذيب (1 / 133)]. أبو بكر بن أيوب بن محمد بن شاذي بن مروان بن يعقوب الرويني، ثم التكريتي ثم الدمشقي السلطان الملك العادل أخو صلاح الدين الأيوبي (615 هـ): قال الذهبي -رحمه الله-: "وكان أكولًا نهمًا، يحب الطعام واختلاف ألوانه، وكان أكثر أكله في الليل؛ كالخيل، وله عندما ينام آخر الأكل رضيع، ويأكل رِطلًا بالدمشقي خبيص السكر يجعل هذا كالجواشن"، وقيل: "وكان أكولًا نهمًا، يأكل خروفًا مشويًّا بمفرده"، وقيل: "كان أكولًا، نهمًا، يأكل من الحلواء السكرية رطلًا بالدمشقي"؛ [تاريخ الإسلام (13 / 453)، وسير أعلام النبلاء (16 / 121)، وفيات الأعيان (5 / 78)، وسمط النجوم العوالي (4 / 15) المقريزي، النجوم الزاهرة (6 / 166)، والدارس في تاريخ المدارس (2 / 203)، والبداية والنهاية (13 / 79)، والسلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 312)]. أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر، أبو عبد الرحمن النسائي، القاضي، مصنف السنن، وغيرها من التصانيف وبقية الأعلام (303 هـ): قال الذهبي -رحمه الله-: "وكان يكثر أكل الديوك الكبار تُشترى له وتُسمَّن ثم تذبح فيأكلها"؛ [تهذيب الكمال (1 / 337)، وتاريخ الإسلام (7 / 59)، وتذكرة الحفاظ (2 / 194)، وسير أعلام النبلاء (11 / 80)، الوافي بالوفيات (6 / 257)، وبنحوه في البداية والنهاية]. أسد الدين شيركوه (564 ه): "ذكر القاضي بهاء الدين بن شداد - رحمه الله - في تاريخه: أن أسد الدين كان كثير الأكل، شديد المواظبة على اللحوم الغليظة، تتواتر عليه التخم والخوانيق، وينجو منها بعد معاناة شديدة عظيمة، فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق عظيم، فقتله رحمه الله"؛ [مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (1 / 167)، والروضتين في أخبار النورية والصلاحية (2 / 68) لأبي شامة، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (5 / 389)، وشذرات الذهب (6 / 350)، والنوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (ص:80)، ووفيات الأعيان (2 / 480)]. أسندمر بن عبد الله الكرجي، الأمير سيف الدين نَائِب طرابلس (711 هـ): قال الصفدي: "وَكَانَ أكولًا منهومًا فِي ذَلِك، يُقَال إِنَّه بعد الْعشَاء يعْمل لَهُ خروف رَضِيع مطجن ويأكله ويشد هُوَ وَسطه ويعقد لَهُ صحن حلاوة"، وقيل: "وكان منهومًا في الأكل الذريع، وكأنَّ ما يأكله نوع من الضريع، قيل: إنه كان يُعمل له بعد العشاء خروف مطجن، سمين موجن، فيأكله جميعه، ولا يؤثر به ضجيعه، ثم إنه بعد ذلك يعمل له بيده من الحلاوة السكب صحنًا، ويأكله سخنًا"؛ [الوافي بالوفيات (9 / 147)، وأعيان العصر وأعوان النصر (1 / 535) للصفدي، وعنه المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (2 / 445) لابن تغري بردي، والدرر الكامنة (1 / 461)]. آقوش بن عبد الله النجيبي الصالحي، الأمير الكبير جمال الدين (677 هـ): "كان كثير الأكل"، "كان... ممتعًا بكثرة الأكل"؛ [تاريخ الإسلام (15 / 336)، والوافي بالوفيات (9 / 189)، والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (1 / 206)، طبقات الشافعيين لابن كثير (ص:903)]. ألياس بن أحمد بن محمود أبو نصر البامنجي الصوفي (541 هـ أو 542 هـ): "وكان كثير الأكل والتناول، وكان إذا فرغ من الأكل وقام من السفرة ترك عدة من الحصى في فيه، وكان يحركها، فسئل عن ذلك، فقال: أنا لا أشبع من الطعام، فإذا أكلت القدر الذي تيسر تركت الحصى في فيَّ؛ لأشتغل بتحريكها كأني أمضغ شيئًا"؛ [التحبير في المعجم الكبير (1 / 125)، والمنتخب من معجم شيوخ السمعاني (ص: 455)]. حسن بدر الدين بن نصر الله بن حسن بن محمد الأدكوي الأصل ثم الفوي (846 هـ): "وكان أكولًا "، " واسع النفس على الطعام "؛ [النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (15 / 494)، إنباء الغمر (4 / 201)]. الحسن بن رحال بن أحمد بن علي التدلاوي ثم المعداني -كذا قرأته فيما كتبه بخطه منه نقلت- الإمام الكبير ويدعى بصاعقة العلوم أبو علي المغربي المالكي (1140 هـ): "وكان أكولًا، قال بعضهم: بات عنده ضيف فأتى بطعام كثير في إناء كبير يشبع جماعة من الناس فأكل الضيف مثل عادته، وأكل المترجم جميع الطعام الَّذي بقي، وشرب ما يناسبه من اللبن العقيد، وبقي الضيف متعجبًا "؛ [إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس (3 / 16) للسجلماسي]. زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي أبو جعفر خال السفاح صاحب شرطة المدينة: قال الزبير: "حدثني عمر ومحمد بن الضحاك والمؤملي قالوا: كان زياد نهمًا على الطعام، وكان له جدي في رمضان يوضع بين يديه فلا يمسه أحد.."؛ [تاريخ الإسلام (4 / 25-ترجمة أشعب)]. زيد بن معروف العث: "والعث: جمع عثة، وهي السوسة، وإنما سمي بذلك؛ لأنه كان أكولًا. والعث يأكل الصوف والخشب وغيره" ؛ [المذاكرة في ألقاب الشعراء (ص: 4) للنشابي ]. سرحان بن عبد الله الفقيه المالكي (792 هـ): "كان أكولًا مشهورًا بذلك "؛ [إنباء الغمر بأبناء العمر (1 / 404)، وشذرات الذهب (8 / 552)]. شُعْبة بن المخشن الضَّبِّي: "وكان أكولًا"، "أكولًا جزوعًا"؛ [المؤتَلِف والمختَلِف (3 / 1381)، جمل من أنساب الأشراف (5 / 218) وفي الأنساب: سعد، وفي غيره: سعنة، وهو تصحيف، ويأتي معنا: المحسن بن شعبة، ولعله هو، والله أعلم]. السلطان لاجين الملقب لاجين شقير؛ لأنه كان أشقر أزرق العينين (698 هـ): "وكان يحب مجالسة الفقهاء والعامة ويأكل طعامهم، وكان أكولًا"؛ [السلوك لمعرفة دول الملوك (2 / 302) للمقريزي]. سليمان بن عبد الملك بن مروان أبو أيوب القرشي الأموي (99هـ، وقيل: 100 هـ): "وكان أكولًا شرهًا نكَّاحًا، يأكل كل يوم نحو من مائة رطل وأكثر"، وقيل: "لا يكاد يشبع"، وقال حسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري: "وكان كثير الأكل حج مرَّة فنزل بالطائف فأكل سبعين رمانة ثم جاؤوه بخروف مشوي وست دجاجات فأكلها ثم جاؤوه بزبيب فأكل منه شيئًا كثيرًا، ثم نعس فانتبه في الحال فأتاه الطباخ فأخبره بأن الطعام قد استوى، فقال: اعرضه عليَّ قدرًا قدرًا، فصار سليمان يأكل من كل قدر اللقمة واللقمتين واللحمة واللحمتين وكانت ثمانين قدرًا، ثم مدَّ السماط فأكل على عادته كأنه لم يأكل شيئًا، قيل: أفاد بعض الحكماء أنَّ الرجل لا يأكل أكثر من ستين لقمة من جوعه إلى شبعه، فما يكون شأن هذا الرجل وأمثاله من الأكلة"، وقيل: "يأكل القنطار أكلة واحدة"، قال المدائني: أكل سليمان اثنين وثمانين ناهضًا وفخارة فيها هريسة. قال: وأتاه وهو بدابق رجل من النصارى كان منقطعًا إليه من قبل الولاية، فقال له: هل أهديت لي شيئًا؟ قال: نعم أهديتُ تينًا وبيضًا، فأتاه بزبيل مملوء بيضًا مطبوخًا، وبزبيل مملوء تينًا، فجعل يقشر البيض، ويأكل بيضةً بتينة حتى أتى على الزبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخًّا مخلوطًا بسكر، فأكل ذلك فأتخم ومرض فمات"؛ [كنز الدرر وجامع الغرر (4 / 323)، وتاريخ اليعقوبي (2 / 299)، والذهب في تاريخ حلب (1 / 122)، والمختصر في أخبار البشر (1 / 200)، وتاريخ الإسلام (2 / 1108)، وتاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2 / 314)، ونزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار (1 / 201)، وأنساب الأشراف (8 / 111)، والمختصر في أخبار البشر (1 / 200)، وتاريخ ابن الوردي (1 / 172)، وكنوز الذهب في تاريخ حلب (1 / 121)، والتنبيه والإشراف (ص: 275)، وغيرها، قلت -بكر-: وفي غيرها ما هو أشد، وأقل ما يقال فيه: إنها مبالغة ومجازفة، وليس هذا مكان بيان ذلك، والله أعلم]. عبد الله البهنسي التركماني كاشف الشرقية (64 هـ): "كان أكولًا جدًّا"؛ [الضوء اللامع (2 / 464)]. عبد الله بن حُسَيْن بن عَاصِم الثَّقَفِيّ الْقُرْطُبِيّ: "كَانَ أكولًا حَتَّى لقب بالزير"؛ [المغرب في حلى المغرب (1 / 101) لأبي الحسن المغربي]. عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم القرشي الأموي (130 هـ): قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: "قال وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أكولًا، كان يأكل في اليوم تسع مرات، وينتبه في السحر فيدعو بالطعام فيأكل أكل من لم يأكل طعامًا منذ أيام"، وقال المدائني: كان أكولًا يأكل في اليوم تسع مرات، وينتبه في السحر فيدعو بالطعام"؛ [تاريخ دمشق (31 / 221)، وتاريخ الإسلام (3 / 444)]. عبد الله الواثق أبو فارس بن أحمد المنصور بِاللَّه بْن السُّلْطَان أبي عبد الله: "وكان أكولًا عظيم البطن"؛ [الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (6 / 5) للسلاوي]. أبو حفص عبيد الله بن زياد بن عبيد المعروف أبوه بزياد بن أبيه عند الناس، وعند بني أمية بزياد بن أبي سفيان ويقال: ابن سمية (70 هـ): "كان عبيد اللَّه أكولًا يأكل فِي اليوم خمس أكلات آخرها جبنة بعسل توضع بين يديه بعد فراغه من الطعام، وكان يأكل جديًا أو عناقًا يتخير له فِي كل يوم فيأتي عليه، ومر بالطف فَقَالَ له رجل من بني أسد: أتتغدَّى أصلح اللَّه الأمير؟ فأكل عنده عشر بطات وزبيلًا من عنب ثم عاد وأكل عشر بطَّات أُخَر وزبيلًا من عنب وجديًا. قَالَ الحسن: قدم علينا عبيد اللَّه بْن زياد فقدم شابًّا مترفًا فاسقًا يأكل فِي اليوم خمس أكلات، وإن فاتته أكلة ظل لها صريعًا يتكئ على شماله ويأكل بيمينه، حتى إذا غلبت عليه الكظة قَالَ: أبغوني حاطومًا، ثكلتك أمك إنما تحطم دينك"؛ [أنساب الأشراف (5 / 384-385)]. عبد الملك بن قطن بن عبد الملك بن قطن بن عصمة بن أنيس المهريّ القيرواني النحوي (256 هـ): "وكان نهمًا لا يقصد في مطاعمه فلا يمسك درهمًا ولا دينارًا على كثرة ما يوصل ويجبي، واستمر على حاله هذه حتى مات"؛ [معجم الأدباء (6 / 2859)، إنباه الرواة على أنباه النحاة (2 / 209) لجمال الدين القفطي]. عثمان بن يوسف بن أيوب بن شاذي أبو الفتح الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب (595 هـ): "وكان أكولًا يأكل الخروف وحده"؛ [سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (4 / 11)]. علم الدين سنجر الحلبي الأمير (691 هـ): "ثم ينزل ويأخذ عمودًا حديدًا زنته قنطار فيلف به يمينًا ويسارًا، ثم يجلس على سماطه فيأكل خروفًا"؛ [عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (ص: 245) لبدر الدين العيني]. علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم أبو الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني (356 هـ): "وكان أكولًا نهمًا، يتناول خمسة دراهم فلفلًا مدقوقًا، فلا تؤذيه ولا تدمعه..."؛ [معجم الأدباء (4 / 1712)، الوافي بالوفيات (21 / 18)]. علي بن علي إسكندر الحنفي السيواسي الضرير (1146 هـ): "وكان كثير الأكل ضخم البدن طويل القامة لا يلبس زيَّ الفقهاء بل يعتم عمامه لطيفة بعذبة مرخية، وكان يقول عن نفسه: أنا آكُلُ كثيرًا وأحفظ كثيرًا" ؛ [عجائب الآثار (1 / 233) الجبرتي]. عمران بن إدريس بن معمَّر-بالتشديد- الجلجولي ثم الدمشقي قاضي الركب الشامي الشافعي (803 هـ) : "وكان كثير الأكل جدًّا"، "أكولًا جدًّا"؛ [إنباء الغمر (2 / 177)، الضوء اللامع (6 / 63)، شذرات الذهب (9 / 55)]. المحسن بن شعبة الضبي : "وكان أكولًا مهذارًا"؛ [تاريخ دمشق (19 / 189)، لم أجده لغيره، ولعله شُعْبة بن المخشن المتقدم، والله أعلم]. محمد بن تمام بن عبد الله بن تمام: من أهل طليطلة يكنى: أبا عبد الله (400 هـ، وقيل: 401 هـ): "وكان نهمًا في الأكل، كان يدخل الطعام على الطعام حتى صار في بطنه دودٌ يسمى حب القرع، فكان في بعض الأيام يشتد عليه، فكان يشرب السمن والعسل فيلقيهما"؛ [الصلة في تاريخ أئمة الأندلس (ص: 464) لابن بشكوال]. محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي البغدادي الأمين أمير المؤمنين، أبو عبد الله (200 هـ) : "وكان كثير الأكل"؛ [تاريخ الإسلام (4 / 1048)]. محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة الثقفيّ، مولاهم، القاضي أبو زرعة، قاضي دمشق بعد قضاء مصر (302 هـ، وقيل غير ذلك): "وكان أبو زرعة من الأكلة، يأكل سل مشمش، ويأكل سل تين"؛ [تاريخ الإسلام (7 / 55)، وسير أعلام النبلاء (14 / 234)، وشذرات الذهب (4 / 13)، وطبقات الشافعيين (ص: 232) لابن كثير، وطبقات الشافعية (1 / 102) لابن قاضي شهبة، ورفع الإصر (ص: 391)]. محمد بن عمر بن وهب بن مطيع الفزاري الشهير بابن الدقيق -تصغير الدقيق-(850 هـ): "وكان أكولًا، موصوفًا بذلك مهما حضر بين يديه أكله، وأتى على آخره"؛ [كنوز الذهب في تاريخ حلب (2 / 199) لسبط ابن العجمي]. محمد بن موسى بن عيسى بن علي الكمال أبو البقاء الدميري القاهري الشافعي (808 هـ): " كان في صباه أكولًا نهمًا"؛ [الضوء اللامع (5 / 17)]. منكلي بغا السلاحدار سيف الدين الأمير (731 هـ): "كان أكولًا نهمًا"، وقيل: "وكان منكلي بغا المذكور كثير الأكل، كثير النكاح، وله فيهما حكايات عجيبة مضحكة"؛ [الدرر الكامنة (6 / 130)، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (9 / 268)، والسلوك لمعرفة دول الملوك (3 / 147)]. هارون الواثق بالله أبو جعفر، وقيل: أبو القاسم أمير المؤمنين، بن محمد المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد بن المنصور الهاشمي العباسي (232 هـ): "قال يزيد المهلبي: كان الواثق كثير الأكل جدًّا"، وقيل: "كان الواثق كثير الأكل والشرب"، وقيل: "وَكَانَ كثير الْأكل وَاسع، الطَّعَام"؛ [تاريخ الخلفاء (ص: 296)، ومروج الذهب (2 / 66-175)، والسلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 119)]. هلال بن الأشعر: "كَانَ أكولًا، زعموا أَنَّهُ أكل بكرًا، إلا ما حمل منه على ظهره"؛ [أنساب الأشراف (13 / 54)]. يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن بسطام الشيباني، أبو زكريا، ابن الخطيب التبريزي (502 هـ): "كان أكولًا نهمًا"؛ [طبقات المفسرين (2 / 373) للداوودي، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة (2 / 338)]. يحيى بن معين بن عون بن زياد الحافظ البغدادي أبو زكريا (233 هـ): "قال محمد بن جرير الطبري: "كان أكولًا "؛ [تاريخ الإسلام (5 / 935)، وسير أعلام النبلاء (9 / 134)، والكامل في ضعفاء الرجال (1 / 219)، وتاريخ الإسلام (5 / 965)]. يزيد بن عُمَر بن هبيرة الأمير أَبُو خالد الفزاري (140 هـ): "كان جسيمًا، كثير الأكل"؛ [تاريخ الإسلام (3 / 756)، سير أعلام النبلاء (6 / 209)]. أبو رياش أحمد بن إبراهيم أبو هاشم القيسي البصري (339 هـ): "كان مع ذلك نهمًا شرهًا على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتيَّ الالتقام، ثعبانيَّ الالتهام، سيِّئ الأدب في المؤاكلة"؛ [معجم الأدباء (1 / 182)، يتيمة الدهر (2 / 412)، إنباه الرواة على أنباه النحاة (4 / 125) لجمال الدين القفطي].
التكوين العلمي للإمام محمد بن جرير الطبري ( أُلقيتْ هذه الكلمة في الندوة العلمية في مفتتح "أسبوع الإمام الطبري" الذي أقامته دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي يوم الاثنين (6) من جُمادى الأولى (1445) = (20 / 11 / 2023م) ). بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.. وبعد: الإمام أبو جعفر محمد بنُ جرير الطبري إمامٌ معروف طبق صيته الآفاق، وما زال علمًا منشورًا، واسمًا مذكورًا منذ أنْ عُرف في حياته في منتصف القرن الثالث الهجري حتى اليوم. ولد في مدينة آمل في طبرستان، وهي مدينة على نحو (180) كم شمال شرق طهران، سنة (224)، وتوفي في بغداد يوم السبت سادس عشر من شوال سنة عشر وثلاث مئة، عن ست وثمانين سنة. وُلد كما يولد الآلاف، ومات كما يموت الأفراد، بعد حياةٍ مميزةٍ ملأها العلم والعمل والتقوى والصلاح. وهو رجلٌ خُلق للعلم، فلم يعرف الدنيا ولا عرفته، ولم يتخذ زوجةً فلم يكن له ولد، ولكنه خلف مِن بعده آثارًا علمية لا تخلو منها مكتبةُ عالمٍ أو طالب علم على وجه الأرض. كان طلّابة للعلم، ولم ينفك عنه في حينٍ من أحايينه، وحَكى رجل من بني الفرات أنه كان عنده قبل موته بساعة أو أقل، فذكر له دعاء رواه نصر بن كثير عن جعفر بن محمد الصادق، فاستدعى محبرةً وصحيفةً، فكتبه، فقيل له: أفي هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان أن لا يدع اقتباس العلم حتى يموت [1] . فرجل مثل هذا كيف يكون تكوينه؟ لا شك أنه كان تكوينًا متينًا لا يقنعُ إلا ببلوغ الغايات. ولهذا اتسعتْ مصادر ترجمته، فإذا أردنا أن نبحث عن حياته وتفاصيلها فلا بد أن نقرأ كتب تاريخ العلوم، وتواريخ بغداد، وطبقات الفقهاء، وطبقات الظاهرية، وطبقات الشافعية، وتاريخ اللغويين والنحاة والعروضيين، وطبقات الحفاظ، وطبقات القرّاء، وطبقات المفسِّرين، وتراجم المؤرِّخين، وطبقات المجتهدين، وطبقات المصنِّفين، وتواريخ الكتب، والتاريخ العام! وهي مصادر واسعة ممتدة. وإنْ نعجب فإنما العجبُ مِن رجلٍ تكوِّن الكتبُ التي كُتبت عنه في الشرق والغرب مكتبة بحالها، وقد اعتنى به العلماء والباحثون والمستشرقون. وفي العالم الإسلامي أحصي مما كُتب عنه من بداية القرن العشرين إلى سنة (2023م): مئة وثلاثة كتب، وثلاث وسبعون رسالة ماجستير، وأربع وستون رسالة دكتوراه، ومئة وستة وأربعون بحثًا! [2] طلب ابنُ جرير العلم في مدينته آمل، ورحل إلى الري (طهران)، ثم إلى العراق: بغداد وواسط والبصرة والكوفة، ثم إلى الشام والسواحل والثغور، ثم إلى مصر، ودخلها مرتين سنة (253) وسنة (256)، ثم عاد إلى العراق، ثم إلى طبرستان، ثم عاد إلى بغداد، وذلك في سنة (260)، ولم يزر بلاده بعدها إلا مرة واحدة بعد ثلاثين سنة، ولكنه ما لبث أن عاد إلى بغداد ليموت فيها بعد عشرين سنة. وفي منطقة الأعظمية في بغداد قبرٌ رمزيٌّ نُسِبَ إليه (!)، في بقعةٍ يصدقُ عليها قول المؤرخين أنه عاشَ ودُفنَ فيها. أخذ العلم عن (475) شيخًا، وكُتب عن شيوخه كتب خاصة، وتوسع في العلوم حتى وصف بأنه: الإمام المجتهد الحجة المفسر المحدث الفقيه الأصولي النظار المقرئ المؤرخ اللغوي النحوي العروضي الأديب الراوية الشاعر المحقق المدقق جامع العلوم والمفاخر، وذو التصانيف والمآثر، المجتهد المطلق، وأحد أئمة الدنيا علمًا وحفظًا وكثرة تآليف جياد [3] . وهذه الأوصافُ تدلنا على تكوينهِ بصورةٍ عامةٍ، أمّا التفاصيل فلا بدَّ لها مِن مؤلفات وأوقات. ومِنْ برِّ تلاميذهِ به أنَّ اثنين منهما كتبا عن حياته ومصنَّفاته وآثاره ومآثره، وهما عبدالعزيز بن محمد الطبري، وأبو بكر ابن كامل، وقد وصل هذان الكتابان إلى المؤرِّخ الأديب ياقوت الحموي في القرن السابع، فنقل منهما في ترجمة الطبري نقولًا غالية عالية. وهما اليوم في عداد المفقودات. ومن الكتب الممتعة المهمة المفقودة كذلك: " التحرير في أخبار محمد بن جرير " للعلامة القفطي [4] . وقد علمنا ممّا كتبه تلميذاه، ومما كتبه المؤرِّخون الآخرون أشياء مهمة عن نشأته وطلبه العلم ورحلاته فيه وعكوفه عليه وانصرافه له بحيث لا يشغله عنه شاغل ولا يقطعه عنه قاطع. قال الخطيبُ مؤرخ بغداد: «استوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته، وكان أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله. وكان قد ‌جمعَ ‌من ‌العلوم ما لم يشاركه فيه أحدٌ من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في " تاريخ الأمم والملوك "، وكتاب في " التفسير " لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء. وتفرَّد بمسائل حُفظتْ عنه» [5] . وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: "كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ‌ما ‌لا ‌يجهله ‌أحدٌ عرَفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنِّفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحًا في علوم القرآن والقراءات، وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك، واختلاف الفقهاء، مع الرواية كذلك على ما في كتابه « البسيط » و« التهذيب » و« أحكام القراءات » من غير تعويل على المناولات والإجازات، ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبرًا عن حاله فيه، وقد كان له قدمٌ في علم الجدل، يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به. وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دلّ عليه كتابُه «في آداب النفوس»، وكان يحفظ من الشعر للجاهلية والإسلام ما لا يجهله إلا جاهلٌ به" [6] . وأقولُ مرة أخرى: هذه بعضُ الأوصاف التي وُصف بها، وهي تدلُّ على تكوينه العلمي أيضًا. ويمكننا أنْ نستدلَّ على ذلك أيضًا بما قيل في وصف مؤلّفاته: قال أبو بكر بن بالويه: قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق -يعني ابن خزيمة-: بلغني أنك كتبتَ التفسير عن محمد بن جرير. قلت: بلى، كتبتُ التفسير عنه إملاء. قال: كله؟ قلت: نعم. قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. قال: فاستعارَه مني أبو بكر فردَّه بعد سنين، ثم قال: قد نظرتُ فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على ‌أديم ‌الأرض أعلم من محمد بن جرير» [7] . وقال أبو بكر ابن كامل: أملى علينا كتاب التفسير مئة وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن، فقرأه علينا، وذلك في سنة تسعين [8] ومئتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضًا في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي، وأبي الحسن ابن كيسان، والمفضل بن سلمة، والجعد، وأبو إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحُمل هذا الكتاب مشرقًا ومغربًا وقرأه كلُّ مَن كان في وقته من العلماء وكلٌّ فضّله وقدَّمه" [9] . وقال عن كتابه «‌تهذيب ‌الآثار وتفضيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار»: "هو كتابٌ يتعذر على العلماء عملُ مثله، ويصعبُ عليهم تتمته". وقال أيضًا: "لم أر بعد أبي جعفر أجمعَ للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه، لأني أروضُ نفسي في عمل مسند عبدالله بن مسعود في حديثٍ منه نظيرَ ما عمله أبو جعفر فما أحسنُ عمله ولا يستوي لي" [10] . ولو ألقينا نظرةً على البداية أدركنا كيف ستكونُ النهاية: يقول هو رحمه الله: «حفظتُ ‌القرآن ولي سبع سنين، وصليتُ بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبتُ الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه، فقال له المعبِّرُ: إنه إن كبر نصح في دينه، وذبّ عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبيٌّ صغيرٌ» [11] . ولم يتوقفْ عن طلب العلم حتى إنه حين رجع إلى بغداد وهو في الثانية والثلاثين من عمره كتبَ عن العلماء [12] . وقد تفرَّدَ بمواهب: يقول أحدُ القضاة إنه سمعه يقول: أنا أقدرُ أن أعلِّم النحو في كلمتين. فقال له: ما الكلمتان؟ قال: هيهات، لا أعلمهما إلا خليفة أو ولي عهد [13] . ولم يقتصرْ ابن جرير على العلوم الشرعية، بل نظر في المنطق، والحساب، والجبر والمقابلة، وكثير من فنون أبواب الحساب، وفي الطب، وأخذ منه قسطًا وافرًا يدلُّ عليه كلامه في الوصايا [14] . ويدلُّ عليه أنه كان به ذات الجنب تعتاده وتنتقضُ عليه فوجّه إليه [الوزير] علي بن عيسى طبيبًا، فسأل الطبيبُ أبا جعفر ‌عن ‌حاله، فعرّفه حاله وما استعمل وأخذَ لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، وما كان رسمه أن يعالج به، وما عزم على أخذه من العلاج، فقال له الطبيبُ: ما عندي فوق ما وصفتَه لنفسك شيء، والله لو كنتَ في ملتنا لعُددتَّ من الحواريين، ‌وفقك الله. ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرَّفه ذلك فأعجبه» [15] . ولقد كان ابنُ جرير صاحبَ مشروع، وقد استعدَّ له استعدادًا كبيرًا: قال عن كتابه " التفسير " الذي أصبح به شيخ المفسِّرين: " حدثتني به نفسي وأنا صبيٌّ " [16] . وحين عزمَ عليه استخار الله تعالى وسأله العون عليه ثلاث سنين، فأعانه [17] ، وأملاه في سبع سنوات، وزار بعده بلاده، وكأنما شعر أنه حقق أمنيته القديمة التي كان يفكر بها وهو هناك في صباه. وقد علم الله منه الصدقَ في حياته وسعيهِ لنيل العلم فأكرَمه ومنَّ عليه: قال أبو العباس البكري: "جمعتْ الرحلةُ بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، بمصر فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونُهم وأضرّ بهم الحالُ، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أنْ يستهموا فمَن خرجتْ عليه القرعة سأل الناسَ لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصيّ مِن قبل والي مصر يدقّ عليهم، فأجابوه وفتحوا له الباب، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا، وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون دينارًا ودفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين دينارًا، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرَّة فيها خمسون دينارًا ثم قال: إن الأمير كان قائلًا فرأى في النوم خيالًا أو طيفًا يقول له: إنَّ المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفدتْ أن تبعثوا إليه ليزيدكم" [18] . وسرُّ هذا التميز والإمامة أنه كان "يحبُّ الجدَّ في جميع أحواله" [19] . وما كان يلتفتُ إلا إلى الأمور النافعة، وقد سأله يومًا سائلٌ عن نسبه فقال: محمد بن جرير، فقال السائل: زدنا في النسب فقال: قد رفعَ العجّاجُ ذكري فادعني باسمي إذا الأنسابُ طالتْ يكفني [20] أما وصفُه لمن شاء أنْ يتخيله فقد « كان ‌أسمر ‌إلى الأدمة، أعين، نحيف الجسم، مديد القامة، فصيح اللسان » [21] رحم اللهُ ابنَ جرير فلقد كان مِنْ محاسن الزمان، وكان فيه للإسلام وأهله عزٌّ وفخرٌ ونصرٌ. وقد جمعَ إلى تكوينه العلمي تكوينًا أخلاقيًّا رفيع المستوى، ويدلُّ على هذا -فما يدلُّ- كتابُه في "أدب النفوس " الذي "عملَه على ما ينوبُ الإنسانَ من الفرائض في جميع أعضاء جسده، فبدأ بما ينوبُ القلبَ، واللسانَ، والبصرَ، والسمعَ، على أنْ يأتي بجميع الأعضاء، وما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وعن الصحابة والتابعين، ويحتجُّ فيه، ويذكرُ فيه كلام المتصوفة والمتعبِّدين وما حُكي من أفعالهم، وإيضاح الصواب في جميع ذلك. ولم يتم" [22] . وبعدُ: فإننا نستفيدُ من النظر في تكوين الطبري: ضرورة الرحلة، وتوسيع قاعدة الأساتذة، والتفنُّن في العلوم، والتعمق في الطلب، والإخلاص في الأخذ والعطاء. ونختمُ القول مُردِّدين شعرًا له: ‌إذا ‌أعسرتُ لم يعلمْ رفيقي وأستغني فيَستغني صديقي حيائي حافظٌ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتي رفيقي ولو أني سمحتُ ببذل وجهي لكنتُ إلى الغنى سهلَ الطريقِ وقوله: خُلُقان لا أرضى طريقَهما بطرُ الغنى ومذلةُ الفقرِ فإذا غنيتَ فلا تكنْ بطِرًا وإذا افتقرتَ فتهْ على الدهرِ [23] [1] تحفة الأديب للسيوطي (2/ 574). [2] انظر: محمد بن جرير الطبري في المراجع والدراسات العربية الحديثة للدكتور محمد كريم الشمري في مجلة المورد العدد الأول من المجلد الخمسين لسنة 2023-1444 (ص: 519 - 554). وانظر كذلك: "كشاف عن الدراسات المعاصرة حول منهج الإمام الطبري الحديثي أو النقدي" للباحث الشيخ عادل العوضي. [3] العلماء العزاب (ص: 56). [4] قال في ترجمته في كتابه "إنباه الرواة على أنباه النحاة" (3/ 90): "وما منعنى مِن استيفاء خبرهِ إلّا ما صنَّفتُه في ذلك مفرَدًا، وسمّيتُه: كتاب ‌التحرير في أخبار محمد بن جرير، وهو كتاب ممتع". [5] تاريخ مدينة السلام (2/ 548). [6] معجم الأدباء (6/ 2451). [7] تاريخ مدينة السلام (2/ 548): [8] في المطبوع: سبعين. وهو خطأ. [9] معجم الأدباء (6/ 2452). [10] معجم الأدباء (6/ 2459). [11] معجم الأدباء (6/ 2446). [12] معجم الأدباء (6/ 2449). [13] تحفة الأديب (2/ 574). [14] معجم الأدباء (6/ 2452). [15] معجم الأدباء (6/ 2468). [16] معجم الأدباء (6/ 2453). [17] معجم الأدباء (6/ 2453). [18] معجم الأدباء (6/ 2445). وانظر لزامًا: "أنس المحاضرة بما يُستحسن في المذاكرة" لعز الدين ابن جماعة (ص: 435- 438). [19] معجم الأدباء (6/ 2461). [20] معجم الأدباء (6/ 2445). [21] تاريخ مدينة السلام (2/ 548). [22] تحفة الأديب (2/ 571 - 572). [23] تاريخ مدينة السلام (2/ 548). تنبيه: يُزاد في الكلام على تكوينه قراءة الشعر وحفظه. معجم الأدباء ص 2448 و2451. معرفته بالعروض. ص 2449. إحاطته بالمروي كما في زيارته مدينة الدينور. وإتقانه علم الشروط ص 2458. وينظر بحث: "الطبري: تحصيله الثقافي" بقلم الأستاذ كلود جيليو، ترجمة الأستاذ محمد خير البقاعي، نُشر في مجلة المورد، المجلد (19)، العدد الثاني، (1410 - 1990). وفيه وقفاتٌ وتحقيقاتٌ مهمة عن أخذه العلم في البلدان.
صدى صلح الحديبية عند المسلمين • أخبَر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه رأى رؤيا أنه اعتمر، فما شكوا بأنه معتمر هذا العام، ولما سمعوا بهذه الشروط اضطربوا وتكلموا، وكادوا أن يشككوا بما حصل. • قبل التوقيع وبعد الاتفاق جاء أبو جندل مسلمًا، فقام سهيل بن عمرو وأمسك به وقال: لقد تم الاتفاق بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهو ابن سهيل بن عمرو، فقال عليه الصلاة والسلام: ((صدقت)) ، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرَجًا ومخرجًا، إنا قد أعطينا القوم عهودنا على ذلك، فلا نغدر بهم)) . • طلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن ينحروا هديهم ويحلقوا، فتقاعسوا، ليس عصيانًا، وإنما على أمل أن يحدث أمر ما فيؤدوا عمرتهم، فدخل على أم سلمة فشكا لها تقاعسهم، فأشارت بأن ينحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه ويحلق؛ ليقطع الشك باليقين، ففعل، فقام الصحابة ونحروا هديهم. • وفاء الصحابة لنبيهم، فبايعوه على الموت تحت الشجرة، كما أن عثمان أبى أن يطوف بالبيت رغم شوقه إلى ذلك إلا بعد أن يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. • بعد عودة المسلمين إلى المدينة أتى أبو بصير مسلمًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد علمت أنا قد أعطينا هؤلاء القوم عهدًا، ولا يصلح الغدر في ديننا)) ، وسلَّمه إلى مبعوثي قريش، لكنه في الطريق قتل أحدهما وهرب الآخر إلى المدينة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعله أبو بصير، وعاد أبو بصير وقال: يا رسول الله، قد وفت ذمتك، وأنجاني الله منهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويل أمه! مسعر حرب لو كان له رجال)) ، وعرف من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيرده، فخرج فنزل بناحية ذي المروة على ساحل البحر على طريق قريش إلى الشام، وكوَّن فيما بعد عصابة تزايد عددها، فقطعت طريق التجارة على قريش، فهم ليسوا تحت رعاية المسلمين حتى يكفوهم؛ لذلك لم يكن لقريش بد من أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمهم إليه ليسلموا من شرهم، وهكذا تنازلوا عن هذا الشرط، وهو ردُّ مَن أتى من قريش مسلمًا. • هاجر في فترة الصلح نساء مسلمات، فلم يردهن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرأة لم يشملها نص الرد، فهو خاص بالرجال، ونزل في ذلك قُرْآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الممتحنة: 10]، كما فارق عدد من المسلمين نساءً لهم بقِينَ على الشرك في مكة. • ظن بعض المسلمين أن هذا الصلح ليس في مصلحة المسلمين، فتبين عكس ذلك، حتى سمي الصلحُ فتحَ الفتوح؛ وذلك للأمور التالية: • بث النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من السرايا، منها: سرية عكاشة بن محصن إلى العمق، وسرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة، وسرية أبي عبيدة إلى ذي القصة، وسرية زيد بن حارثة إلى الجموم، ثم إلى العيص، وإلى الطرف، وإلى حسمى، وإلى وادي القرى، وسرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، وسرية علي بن أبي طالب إلى فدك، وسرية أبي بكر ومعه سلمة بن الأكوع، وقد نفله أبو بكر امرأة من أجمل العرب، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فقال له: ((لله أبوك يا سلمة هب لي المرأة)) ، فقال سلمة: والله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبًا، ثم وهبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلها إلى مكة، وفادى بها أسارى مِن المسلمين. • تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة خيبر؛ ليجتث تآمر اليهود الذين تجمعوا فيها ممن خرج من المدينة. • تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لإرسال الرسل والكتب لدعوة الفرس والروم ومتنصِّرة العرب إلى الإسلام. • تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لحرب الروم وإرسال المقاتلين إلى مؤتة. • دخل في الإسلام أعداد كبيرة من العرب، فزاد عدد المسلمين.
إدريس وإلياس عليهما السلام نتحدَّثُ في هذا الفصل عن نبيَّين كريمين من أنبياء الله تعالى؛ وهما إدريس وإلياس عليهما الصلاة والسلام، وقد أشار البخاريُّ في صحيحه إلى أن إدريسَ هو إلياسُ؛ حيث قال: يذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، كما أشار البخاري رحمه الله إلى اختلافِ الناس في نسَب إدريس عليه السلام؛ حيث قال في صحيحه: باب ذكر إدريس عليه السلام، وهو جدُّ أبي نوح، ويقال: جد نوح عليه السلام، ولم يجزِم البخاري بشيء من نسَب إدريس عليه السلام، ولم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ ثابتٌ يؤكِّد أن إدريس قبل نوح عليه السلام، وقد ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله إلى أن إدريس عليه السلام لم يكن جدًّا لنوح عليه السلام، وإنما هو من بني إسرائيل؛ بناء على أن إدريس هو إلياس، وأنَّ إلياس من أنبياء بني إسرائيل، ومما يرجِّح ذلك الذي ذهب إليه ابن العربي ما رواه البخاري في صحيحه في حديث الإسراء والمعراج بلفظ: فلما مرَّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فقلت: مَن هذا؟ قال: هذا إدريس، وفي لفظ للبخاري من طريق قتادة: ثمَّ صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوَقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، ولنِعم المجيء جاء، قال: ففتح لنا، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام، قال: هذا إدريس، قال: فسلمت عليه، فَرَدَّ السلامَ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فقوله: بالأخ الصالح، يشعر بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من ذرِّيته، ولو كان إدريس جدًّا لنوح لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته قطعًا، ولَقَالَ له كما قال له آدم وإبراهيم عليهما السلام في ليلة الإسراء والمعراج في هذا الحديث الصحيح: "مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح". وكونُ إدريسَ عليه السلام قبلَ نوحٍ أو بعده لا يتعلَّق به عظيم قصد؛ ولذلك لم يرد تحديد تاريخ وجوده وزمان بعثته في خبرٍ ثابت صريح، وإنما المهم هو أنَّه من أنبياء الله تعالى، وأن الله رفعه مكانًا عليًّا، وأنه كان صدِّيقًا نبيًّا. وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 56، 57]، وكما قال تبارك وتعالى: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 85، 86]. وقد ذكر كثيرٌ من المفسِّرين والإخباريين كثيرًا من الأساطير عن إدريس عليه السلام؛ فزعموا أنه طلب مِن أحد الملائكة أن يتوسَّط له عند ملكِ الموتِ أن يؤجِّل قبضَ روحه ليزداد عملًا، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقَّاه ملك الموت منحدرًا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال له ملك الموت: وأين إدريس؟ قال: هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: يا للعجب، بُعثت، وقيل لي: اقبضْ روحَ إدريس في السماء الرابعة، فجعلتُ أقول: كيف أقبض روحه في السماءِ الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحَه هناك. كما زعموا له أَوَّليَّاتٍ كثيرةً، فقالوا: إنه أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وأول من خاطَ الثياب، وأول من خط بالرمل. وقد قال ابن كثير في قصص الأنبياء: ويزعم كثيرٌ من علماء التفسير والأحكام أنه أول من تكلَّم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة، كمَّا كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء؛ اهـ. أما إلياسُ عليه السلام فظاهر القرآن الكريم يشير إلى أنَّه من ذرية نوح عليه السلام؛ حيث يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: ﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 84، 85]، فهذا يدلُّ على أنَّ إلياس من ذرية نوح، سواء قلنا: إن الضمير في قوله: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ يعود على نوح أم على إبراهيم؛ لأن إبراهيم من ذرية نوح، فمَن كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح لا محالة. وقد ذَكَرَ اللهُ تبارك وتعالى إلياسَ في سورة الأنعام كما ذكرْتُ قريبًا، كما ذَكَرَ قصته في سورة الصافات، وقد تضمَّنَتْ هذه القصة صورةً مشرقةً من صور دعوته إلى الله عز وجل، ووجوب إخلاص العبادة لله وحده، وحض قومه على تقوى الله تبارك وتعالى وتحذيرهم من أسباب سخطه، وأنه لا ينجيهم مِن عذاب الله إلا الفرار إلى الله وحده واتباع أوامره واجتناب نواهيه وسلوك صراط الله المستقيم، ونفَّرهم من عبادة صنمهم "بَعْل"، وأشعرهم بأن هذا الصنم لا يستحق تقديسًا ولا تكريمًا، وأن الله تبارك تعالى قد أيَّدَ إلياس بالحق ونصره على قومه المكذبين، وأن الله تعالى قد جعل العاقبةَ الحميدة لإلياس عليه السلام ومَن آمَن به، وأنه ترك له ذكرًا حسنًا وثَناء جميلًا وسلامًا في الآخرين من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة. وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 123 - 132]. وفي هذه القصَّة تثبيتٌ لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبرةٌ لأولي الألباب، وأن العاقبة الحسنة لعباد الله الصالحين، وأن عاقبة السوء للمكذبين المنحرفين، وإلياس اسم عبراني، وقد تزاد في آخره ياء ونون، فيقال فيه: إلياسين كما قالوا في إدريس: إدريسين، وقد قرأ أكثرُ القرَّاء السبعة: سلام على إلياسين، وهذا يحتمل أن المراد إلياس وحده بزيادة الياء والنون على اللغة التي ذكرتُها، ويحتمل أن المراد به: سلام على إلياس ومَن معه من المؤمنين، فجُمِعوا معه تغليبًا كقولهم للمهلب وقومه: المهلبون، وللأشعري وقومه: أشعرون بحذف ياء النَّسَب، وقد قرأ نافع وعبدالله بن عامر: (سلام على آل ياسين)؛ وهذا يحتمل أن يكون اسم والد إلياس ياسين، فكأنه قيل: سلام على إلياس ولد ياسين، ويحتمل أن يكون ياسين اسمًا ثانيًا لإلياس عليه السلام، والمراد بآله: رهطه وقومه المؤمنون معه عليه السلام، فكأنه قيل: سلام على إلياس ومن معه من المؤمنين، والعلم عند الله عز وجل. هذا، وقد قال ابن كثير في قصص الأنبياء: "وقد قدَّمْنَا قول من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كلِّ عام في شهر رمضانَ ببيت المقدس، وأنهما يحجَّان كلَّ سنةٍ، ويشربان من زمزم شربةً تكفيهما إلى مثلها من العام المقبل، وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كلَّ سنةٍ، وبيَّنا أنَّه لمْ يَصِحَّ شيءٌ من ذلك، وأن الذي يقوم عليه الدليل أن الخضرَ مات، وكذلك إلياس عليه السلام"؛ اهـ كلام ابن كثير.
قتل كعب بن الأشرف في ربيع الأول بعد سنتين من الهجرة، وكان كعب بن الأشرف ممن يحرض على قتال المسلمين، ويؤذيهم بأشعاره؛ شتمًا وهجاءً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتشبيبًا بالنساء، فاستفحل شره، وكان يظن أنه آمن في حصنه لا يطوله أحد، قال الواقدي: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة الإسلام، فيهم أهل الحلقة والحصون، ومنهم حلفاء للحيين جميعًا الأوس والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم استصلاحهم كلهم وموادعتهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشركًا، فكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذًى شديدًا، فأمر الله عز وجل نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186]، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]، وتمادى كعبٌ في غيِّه، ولم يردعه وازع من خُلق أو عهد، وزاد ذلك عندما رأى أسرى المشركين مقرنين بالقيود، فبدأ يُظهر عداوته للمسلمين، وينعَى قتلى بدر من المشركين، ثم إنه خرج إلى مكة يواسي المشركين بشعره، ويحضهم على قتال المسلمين ليكون معهم، ونزل بمكة عند أبي وداعة السهمي، فلما هجا المسلمين وبكى قتلى بدر، تصدى له حسان بن ثابت وهجاه وهجا مَن آواه من قريش، فقالت زوجة وداعة: ما لنا ولهذا اليهودي؛ أخرجه من بيننا؛ ألا ترى شعر حسان؟ فأُخرج ونُبذ من مكة خوفًا من هجاء حسان لمن يؤويه، وعاد إلى المدينة، ولما علم بعودته رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر، وقوله الأشعار)) ، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن لي بابن الأشرف؛ فقد آذاني؟)) ، فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله، أنا أقتله، قال: ((فافعل)) ، ثم مكث أيامًا لا يأكل، فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ((تركتَ الطعام والشراب؟)) ، فقال ابن مسلمة: يا رسول الله، قلت لك قولًا لا أدري هل أفي لك به أم لا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليك الجهد)) ، شاور سعد بن معاذ في أمره، فاجتمع محمد بن مسلمة ونفر من الأوس منهم عباد بن بشر وأبو نائلة سلكان بن سلامة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر، فقالوا: يا رسول الله، نحن نقتله، فأْذَنْ لنا فلنقل - في ذم المسلمين ونبيهم - فإنه لا بد لنا منه، قال: ((قولوا)) ، فخرج أبو نائلة إليه، فلما رآه كعب أنكر شأنه وكاد يذعر، وخاف أن يكون وراءه كمين، فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك، قال وهو في نادي قومه وجماعتهم: ادن إلي خبِّرْني بحاجتك، وهو متغير اللون مرعوب - فكان محمد بن مسلمة وأبو نائلة أخويه من الرضاعة - فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار، وانبسط كعب وهو يقول بين ذلك: حاجتك! وأبو نائلة يناشده الشعر، فقال كعب: حاجتك، لعلك أن تحب أن يقوم مَن عندنا؟ فلما سمع القوم قاموا، قال أبو نائلة: إني كرهت أن يسمع القوم ذرو - طرفه - كلامنا فيظنون، كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء، وحاربتنا العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل، فقال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذا يا بن سلامة، أن الأمر سيصير إليه، فقال أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعامًا أو تمرًا وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة، قال كعب: أما إن رفافي تقصف تمرًا من عجوة تغيب فيها الضرس، أما والله ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخَصاصة بك، وإن كنت مِن أكرم الناس عليَّ، أنت أخي، نازعتك الثدي، قال أبو نائلة: اكتم عنا ما حدثتك من ذكر محمد، قال كعب: لا أذكر منه حرفًا، ثم قال: يا أبا نائلة، اصدقني ذات نفسك، ما الذي تريدونه في أمره؟ قال: خِذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة، فماذا ترهنوني؛ أبناءكم ونساءكم؟ فقال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، ولكنا نرهنك من الحلقة ما ترضى به، قال كعب: إن في الحلقة لوفاءً - وقد أراد رهن السلاح؛ لكيلا يشك في أمرهم إذا دخلوا ومعهم السلاح - فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأتى أصحابه فأجمعوا أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه وقال لهم: ((امضوا على بركة الله وعونه)) ، وصلَّوُا العِشاء معه، ثم مشى معهم حتى البقيع، وكانت ليلة مقمرة منتصف ربيع الأول، فأتوه، فناداه أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعُرس، فقالت عروسه: إلى أين؟ قال: ميعاد، إنما أخي أبو نائلة، ثم نزل فاستقبلهم، وتكلموا قليلًا، ثم تمشوا حتى حانت فرصة منه فضربوه بأسيافهم، ثم أجهز عليه محمد بن مسلمة بخَنجر كان معه، فسقط مضرجًا بدمه، وكان قد صاح صيحة أيقظت يهود، فأشعلوا نيران حصونهم، وخلص المسلمون من بينهم حتى انتهوا إلى البقيع، وبشَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وفي صباح تلك الليلة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ظفِرْتم به من رجال اليهود فاقتلوه)) ، فخاف كبارهم أن يُبَيَّتوا كما بُيِّتَ ابنُ الأشرف، فلم يتكلم أحد منهم فيه. وفي رواية: أن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا، قتل غيلة بلا جرم ولا حدث علمناه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نال منا الأذى، وهجانا بالشعر، ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف)) ، ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينه وبينهم كتابًا تحت العذق في دار رملة بنت الحارث. ملاحظات: • مِن خلال سرد الحدث نجد أن ابن الاشرف كان لا يزال مصرًّا على العداء للإسلام ونبي المسلمين، وأنه سُرَّ لكلام أبي نائلة عندما قال له: ما الذي تريدونه في أمره؟ قال أبو نائلة: خِذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة، ولم يصدر عنه خلال الحديث ندم، وكان في ظنه تكوين مجموعة من المنافقين؛ لذلك واعدهم أن يجتمعوا ليلًا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة اليهود - الذين أتوا يشتكون لمقتله - أن فيكم من هو على شاكلته من العداوة للإسلام، ولكنه مضمرها وغير مظهِرها، ولا هو يحشد ضد المسلمين أو يُذْكي علنًا نار العداء، أو يهجو بالشعر حرائرنا، فإنا لم نتعرض له، لكن مَن فعل فعله وعادانا جِهارًا فسيلقى المصير نفسه. • تبدو مِن هذه الواقعة أخلاق اليهود وخصالهم الدنيئة بشكل جلي، فبالرغم من أنهم سيتعاونون معه ضد النبي صلى الله عليه وسلم فقد طلب منهم ثمن الطعام، وأن يرهنوا لقاء الثمن أبناءهم ونساءهم. • الحذر والحيطة والمبيت في أطم - حصن - للإحساس بالذنب لنقضه العهد، ولو لم ينقض العهد لعاش آمنًا، ولمَا تعرض له أحد. • رغم أن الصحابة قد ترخصوا من النبي صلى الله عليه وسلم بالقول فيه، فإنهم استعملوا التعريض، كان قدوم هذا الرجل علينا، فهو فهمها أنه يعنون محمدًا، لكن تصلح أن تقال لأي رجل قدم عليهم. • أطلَع المنفذون للمهمة القيادةَ على آخر المستجدات، وطلبوا التوجيه والتسديد. • التصفية لأحد رموز الكفر الخطر تحتاج إلى قرار من القيادة التي تدرك أبعاد هذا العمل ونتائجه وتعد له، وبقتله هكذا جنبت الطرفين حربًا تزهق فيها كثير الأرواح. • كتابة وثيقة تفاهم فيها التزام بحدود معينة - هي بلغة اليوم - فيها خط أحمر لا ينبغي تجاوزه، ينظم العلاقة بين سكان المدينة من المسلمين واليهود.
لب الأصول لابن نجيم تحقيق محمد فال الشنقيطي صدر حديثًا كتاب "لب الأصول" لزين الدين ابن نجيم (ت 970هـ)، تحقيق: "محمد فال السيد الشنقيطي" ، نشر: "مركز البحوث الإسلامية" - إستانبول. وهذا الكتاب مختصر كتاب "التحرير" لابن الهمام في أصول الفقه، وقد أولى العلماء أهمية كبرى لأصول الفقه تدريسًا وتصنيفًا، وتأليفًا وشرحًا واختصارًا. وكان من العلماء الأكابر الذين اعتنوا بعلم الأصول وألفوا في فنونه العلامة زين الدين ابن نجيم الحنفي (ت. ٩٧٠ هـ/ ١٥٦٣ م) رحمه الله، فقد شرح المنار في أصول الفقه للعلامة النسفي شرحًا وافيًا سماه: "فتح الغفار بشرح المنار" . وقد اختصر ابن نجيم كذلك كتاب التحرير الجامع لأصلي الحنفية والشافعية للإمام كمال الدين ابن الهمام (ت. ٨٦١ هـ/ ١٤٥٧ م) اختصارًا بديعًا وسماه "لب الأصول" . وهو سفر نفيس، جم الفائدة، فصيح العبارة، حسن الترتيب والاختصار، هذَّبَ فيه ابنُ نجيم "التحرير" فحذف منه أصول الشافعية واختصره على أصول الحنفية غالبًا . ورتبه على طريقة الحنفية وأضاف إليه زيادات مهمة، ونجد أن كتاب "التحرير" لابن الهمام (861هـ) متن جامع بين طريقتي الحنفية والشافعية في أصول الفقه. وقد قام المحقق بتحقيق الكتاب تحقيقًا علميًا رصينًا على نسخه المخطوطة، ودراسته دراسة علمية بالتعريف بالكتاب وأصله، وترجمة العلمين صاحبي الكتاب والشرح: "ابن الهمام، وابن نجيم" . والتعليق بما يلزم في التعليقات لبيان ما غمض من عبارات الشارح، مع التعريف بأعلام المذهب والكتب الواردة فيه، وكان هذا الكتاب رسالته العلمية لنيل درجة الماجستير في الفقه وأصوله بتوجيه وإشراف من الدكتور "عبد الله طرابزون" . والماتن هو ابن الهمام (790 - 861 هـ = 1388 - 1457 م) محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد ابن مسعود، السيواسي ثم الإسكندري، كمال الدين، المعروف بابن الهمام: إمام، من علماء الحنفية. عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب واللغة والموسيقى والمنطق. أصله من سيواس. ولد بالإسكندرية، ونبغ في القاهرة. وأقام بحلب مدة، وجاور بالحرمين. ثم كان شيخ الشيوخ بالخانقاه الشيخونية بمصر. وكان معظمًا عند الملوك وأرباب الدولة. توفي بالقاهرة. من كتبه: • (فتح القدير) في شرح الهداية، ثماني مجلدات في فقه الحنفية. • (التحرير) في أصول الفقه. • (المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة). • (زاد الفقير) مختصر في فروع الحنفية. والشارح هو ابن نجيم الحنفي، وُلِد العلّامة، والإمام، والفقيه زين الدين بن إبراهيم بن محمد، والذي يُكنَّى بابن نجيم الحنفيّ في مدينة القاهرة في عام 926 هجريّة، وتعلَّم الفقه، وأصول الدين إلى أن أصبح قُدوة الفُقَهاء الأجلّاء، وإمامًا عالِمًا بأمور الدين، وعامِلًا بها، ولم يتوقَّف عن طلب العِلم، وتدريسه إلى أن تُوفِّي، وقد قال ابنه إنّه تُوفِّي سنة 970هـ، بينما أورد الكثيرون إنّه تُوفِّي في يوم الأربعاء الموافق الثامن من شهر رجب من عام 969 هجريّة. تتلمذَ على يد كبار شيوخه، وعُلمائه، أمثال: الشيخ قاسم بن قطلوبغا، والشيخ أمين الدين الحنفيّ، والشيخ شهاب الدين الشلبيّ، والشيخ شرف الدين البلقينيّ، وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ ابن نجيم تمكَّن من إتقان مسائل المذهب الحنفيّ، وأصوله؛ فأخذ الإجازة من شيوخه في الإفتاء، والتدريس، وبدأ بإعطاء الدروس للتلاميذ، وطُلّاب العِلم، ومنهم: أخوه سراج الدين، وسبط ابن أبي شريف المقدسيّ (محمد العلميّ)، ومحمد الغزى على الرغم من قلّة تلاميذه؛ نظرًا لأنّه كان مُنشغِلًا بالتأليف، كما أنّ وفاته في سِنٍّ مُبكِّرة تسبَّبت في قلّة تلاميذه. وضع الإمام، والعلّامة ابن نجيم قبل وفاته عددًا كبيرًا من المُؤلَّفات، وفيما يلي ذِكر لأهمّها: • "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" : شرح فيه كتاب "كنز الدقائق" للإمام حافظ الدين النسفي في الفقه الحنفي ووصل في شرحه إلى آخر كتاب الإجارة ثم توفي قبل أن يتمه فأتمه الشيخ عبد القادر بن عثمان القاهري الشهير بالطوري (ت: 1030 هـ) والذي كان مفتي الحنفية بمصر، وقد اعتنى العلماء بشرحه عناية كبيرة وهو من المراجع الهامة عند متأخري الحنفية، وقد كتب عليه الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين حواش أسماها "منحة الخالق على البحر الرائق" ، وقد طبع الكتاب مع حواش ابن عابدين بالمطبعة العلمية بالقاهرة سنة 1311هـ في ثمان مجلدات، ثم طبع بعدها بالمطبعة الميمنية سنة 1323هـ في ثمان مجلدات أيضًا. • "الرسائل الزينبيّة في فِقه الحنفيّة" . • "فتح الغفّار في شرح المنار" . • "لبّ الأصول في تحرير الأصول" . • "التحفة المرضية في الأراضي المصريّة" . • "الفوائد الزينبيّة الملتقط من فرائد الحسينيّة" . • "الفتاوى الزينيّة" . • "الخير الباقي في جواز الوضوء من الفساقي" . • "القول النقيّ في الردّ على المفتري الشقيّ" . • "تعليق الأنوار على أصول المنار" . • "المسألة الخاصّة في الوكالة العامّة" . • "تحرير المقال في مسألة الاستبدال" .
العدل في النقد مع هذه الحال فإنه لا مسوغ لنقد الاستشراق من هذا المنطلق أو ذاك، دون توخي العدل في الحكم على هذه الظاهرة، ومِن ثمَّ جعل الاستشراق مجالًا للكتابة العاجلة، التي قد ترضي متوسطي الثقافة، كما يقول السيد محمد الشاهد، وهو أحد المعنيين مباشرةً بالدراسات الاستشراقية من منطلق تخصصي: "كثر الحديث في العقدين الأخيرين من هذا القرن العشرين عما يُسمى في بلادنا ظاهرة الاستشراق، شارك فيه المتخصص وغير المتخصِّص، من يعرف لغات الاستشراق ومَن لا يعرفها، فجاء معظم الحديث نقولًا عن نقول، أخذت عن ترجمات فيها الصواب والخطأ، وأصبح ميدان الاستشراق - أو كاد - حلًّا لمن أراد التأليف السريع، لا يتطلب من طالبه سوى جمع بعض ما سبق، وتوليفه وتزيينه بعناوين جذابة ترضي ذوق متوسطي الثقافة" [1] ، وقريب من هذه العبارة التشخيصية القول بأن نقد الاستشراق قد تحوَّل إلى "موضة" "لا يتخلَّف أحد عن المشاركة فيها"، كما يقول فرانسوا دي بلوا [2] . من متابعة نقد الاستشراق يمكن الحكم بأنه كلما تعمق الباحثون في نقد الاستشراق زادت نظرة الإنصاف لديهم، والعكس قد يكون صحيحًا في حالات ذات قابلية للمتابعة بالدراسة والبحث [3] ، وهناك نماذج من علماء المسلمين ومفكريهم يؤيدون هذه النتيجة، من خلال إنتاجهم الفكري في نقد الاستشراق، وإن اختلفوا في أسلوب الطرح فيما بينهم؛ من حيث الموقف العام من الاستشراق، هذا الأسلوب في نقد الاستشراق قد وصل به إلى أن يُعاني مِن أزمة، ووصل ببعض المستشرقين إلى التنصل من المصطلح، هروبًا مما لحق به في الأوساط العلمية والثقافية الإسلامية والعربية [4] . كما أن هناك عددًا من العلماء والمفكرين ممَّن يصدق عليهم التسرع في الحكم السلبي على الاستشراق والمستشرقين، دون الغوص بما أسهم به فريق من المستشرقين في هذه النهضة الفكرية التي يعيشها الوسط العلمي والفكري العربي والإسلامي، وإن لم يكن هذا التأثير مباشرًا فقد كان هناك تأثير محفِّز إلى الالتفات إلى الذات، من خلال الالتفات إلى التراث، من منطلق أن إثارة الجدل حول موضوع ما سلبًا أو إيجابًا تلفت الانتباه إليه، وهذا مجال خصب للدراسة العلمية المتعمقة التي تأخذ نماذج من "الطرفين" من خلال إنتاجهم العلمي. [1] انظر: السيد مُحمَّد الشاهد، الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين، الاجتهاد، ع 22 (شتاء العام 1414هـ / 1994م)، ص 191 – 211. [2] انظر: فرانسوا دي بلوا، في نقد المستشرقين / ترجمة رضوان السيد، الفكر العربي، مج 5 ع 32 (4 - 6 / 1983م)، ص 145 - 151. [3] انظر: محمد خليفة حسن، أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، الرياض: جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية، 1421هـ / 2000م، 470 ص. [4] انظر: علي بن إبراهيم النملة، الالتفاف على الاستشراق: محاولات التنصُّل من المصطلح؛ مرجع سابق، 182 ص.
الدولة الأموية نقطة مضيئة في تاريخنا الإسلامي البعض يتغافل بجهل أو بغرض متعمد ما قامت به الدولة الأموية من خير للإسلام عظيم، والشيعة الرافضة وراء كل تشويه للخلافة الأموية، ويردد كلامهم الليبراليون والمغفَّلون، ونتوقف للإنصاف مع الأمويين ومفاخرهم، نعم، يوجد أخطاء ككل البشر، وكل نظم الحكم، ولكن أمامها حسنات كالجبال. في بني أمية نماذج عالية ومنارات للخير لا تُقارَن؛ منهم: • الصحابي الجليل عثمان بن عفان الأموي، هو ذو النورين، المبشَّر بالجنة الذي جهَّز جيشًا كاملًا للجهاد، وخليفة رسول الله، وهو الذي جمع القرآن. • أم المؤمنين الأموية زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنه، ويكفيها اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لها لتكون زوجة له، وما نقلت لنا من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم. • معاوية بن أبي سفيان الأموي الصحابي رضي الله عنه، كاتب الوحي من صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. • عبدالله بن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أحد شهداء بدر الثلاثة عشر. • وكيف ننسى أن بني أمية منهم عمر بن عبدالعزيز، الذي وُصِف مدحًا لسيرته أنه خامس الخلفاء الراشدين، وتحدثتِ الركبان والمؤرخون والعلماء عن عدله. • قبة الصخرة بناها عبدالملك بن مروان الأموي. • بدأ جمع الحديث النبوي في حكم بني أمية. • بنو أمية هم الذين عرَّبوا الدواوين. • وهم الذين صكُّوا العملة الإسلامية. • وهم أول من بنى أسطولًا إسلاميًّا في التاريخ. • أما الجهاد، فحدِّث ولا حرج. • يقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله ورضوانه وجزاه الله عن المسلمين كل خير: "كانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا ذلك، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبًا، ولا يتوجه المسلمون إلى قطر من الأقطار إلا أخذوه". • وقد وصلت الفتوحات في عهد الأمويين إلى أرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، حتى وصلت جيوش الإسلام المجاهدِة بالفتوحات إلى أفغانستان، وباكستان، والهند، وأوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان ... كلها دخلت في الإسلام على ظهور خيول المجاهدين تحت قيادة أموية. • الأندلس فتحها الأمويون، وحمل بنو أمية لواء الإسلام إلى أوروبا حتى جنوب فرنسا، وأصبحت أرضًا إسلامية فقط في زمن مجاهدي بني أمية، وأنقذ عبدالرحمن الداخل الأموي الأندلسَ من الدمار، وكان عبدالرحمن الناصر الأموي من أعظم ملوك الأرض وقتها. • نشر بنو أمية رُسُلهم في أصقاع الأرض، يدعون الناس إلى دين الله سبحانه وتعالى، فوصلت رسل الأمويين إلى الصينيين الذين أسمَوهم بـ"أصحاب الملابس البيضاء"، ووصلت الخلافة الإسلامية في عهد الوليد بن عبدالملك الأموي إلى أكبر اتساع لها في تاريخ الإسلام، فهل ينتبه المسلمون إلى تاريخهم، ويعتزون به، ويقفون أمام التشويه المتعمَّد لإسقاط صفحات المجد من التاريخ الإسلامي العظيم؟
مراحل النقد (مرحلة الالتفات والإحيائية ) مرحلة الالتفات: ثم انطلقت، في مرحلة تالية من نقد الاستشراق، حركة يُمكن تسميتها بمرحلة الالتفات المؤصلة إلى الثقافة الإسلامية والفكر والعلم المنبثقين عنها؛ حيث برزت الانتقادات السلبية حول المستشرقين ببيان مفهوم الاستشراق ومنطلقاته وأهدافه وأغراضه؛ وذلك عندما تبين لبعض الناقدين أن لدى بعض المستشرقين شيئًا من الانحياز للثقافة الغربية في حقبة الاستعمار، لا سيما في مجال الاستشراق السياسي [1] ، فظهر من يقول: إن ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم [2] ، فرد عليه من يقول: إن نفعهم أكثر من ضررهم [3] . وهذا اعتراف بتحقق النفع والضرر، وهو الحق، ولكنه اختلاف في مدى ذلك النفع أو الضرر، ويمكن القول: إن هذه السجالات تكون انطلاقة نقد الاستشراق، إيجابا وسلبًا. مرحلة الإحيائية: ثم ظهر في مرحلة يمكن تسميتها بالإحيائية أو الصحوة الثانية مَن بالغ في النقد السلبي، وعمم النظرة التآمرية على الاستشراق بشموليته، واتهم المستشرقين جميعهم بأنهم عملاء للحكومات المستعمرة، وأنهم منصِّرون انطلقوا من الأديرة والكنائس، وربط المستشرقين تعميمًا بالمنصرين "المبشرين"، وإن وجد مُستشرقون منصرون [4] ، وأن المستشرقين قد آزروا اليهودية، المستشرقون اليهود منهم أو المتصهينون، لا سيما بعد قيام وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلة في 1367هـ / 1948م، وأنهم جميعهم مغرضون. وأنهم يمثلون أحد "أجنحة المكر الثلاثة: التنصير، الاستشراق، الاستعمار" [5] ، وأن ما جاؤوا به سموم وغزو، وأنهم ضرر وبلاء، لا نفع منهم ولا دفع؛ كما يقول أحمد فارس الشدياق في ذيل الفارياق [6] ، وما إلى ذلك من النعوت الحادة التي لا تُنبئ عن الترحيب بإسهامات المستشرقين في دراسة الإسلام والعربية، لا سيما أنهم لا يتمثَّلون الثقافة الإسلامية ولا يجيد أكثرهم اللغة العربية "إلا مثل تحلَّة القسم" [7] . جاء في هذه المرحلة المتأخرة أحد المُسهمين في نقد الاستشراق ليذهب إلى "تحريم" التعاون مع المستشرقين، على اعتبار أن التعاون معهم من خلال مؤسسات الاستشراق ومراكزه وكراسيه هو "نوع من موالاة اليهود والنصارى" [8] ، وهذا حكم شرعي يحتاج إلى مزيد من التأمل، لا سيما أن المؤلف يفرِّق بينه وبين التسامح في معاملة أهل الكتاب بالحسنى والقسط والبر، وإعطائهم حقوقهم المنصوص عليها في القرآن الكريم والسنة المطهَّرة [9] ، وتتفق معه بعض الطروحات التي اكتفت بالترديد والتناقل عن هذا الفريق، دون الغوص في هذه الظاهرة واستقراء الإنتاج العلمي للمستشرقين من منابعه وبلغاته. [1] انظر: حسين الهراوي. نحن والمستشرقون: ردٌّ على الدكتور مبارك، المعرفة، مج 3 ع 15 (7 / 1932م - 2 / 1351هـ)، ص 302 - 304. [2] انظر: حسين الهراوي. ضررهم أكثر من نفعهم، الهلال، مج 42 ع 2 (1 / 12 / 1933م - 13 / 8 / 1352هـ)، ص 324. [3] انظر: زكي مبارك. نفعهم أكثر من ضررهم، الهلال، مج 42ع 2 (1 / 12 / 1933م - 13 / 8 / 1352هـ)، ص 325 - 328 [4] انظر: رضوان السيد. ما وراء التبشير والاستعمار: ملاحظات حول النقد العربي للاستشراق، المنطلق ع 112 (1416هـ / 1995م)، ص 102 - 112. [5] انظر: عبدالرحمن حسن حبنَّكة الميداني: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستشراق - الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه، ط4، دمشق: دار القلم، 1405هـ / 1985م، 698 ص. ([6] نقلًا عن: نجيب العقيقي: المستشرقون: موسوعة في تراث العرب، مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه، منذ ألف عام إلى اليوم، ط 5، 3 مج، القاهرة: دار المعارف، 2006م، 3: 606. [7] انظر: محمود محمد شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، 1997م، ص79، (سلسلة مكتبة الأسرة). [8] انظر: عبدالحميد غراب. رؤية إسلامية للاستشراق، ط2، لندن: المنتدى الإسلامي، 1411هـ - ص 175. [9] انظر: عبدالحميد غراب: رؤية إسلامية للاستشراق، المرجع السابق، ص 175. (الهامش).
بيمارستانات دمشق في العصر الوسيط وجَّه المسلمون كثيرًا من همِّتهم للبيمارستانات، أو المستشفيات، فشيَّدوها في بغداد، ودمشق، والقاهرة، وغيرها، وكانت أهم الأماكن التي يُدَّرس فيها الطب. وحُبست عليها الأوقاف الدَّارة، ورُتِّب فيها الأطباء الْمَهَرة، والصيادلة، والفراشون، وغيرهم، كما جُهِّزت بالأدوية والأشربة، وبوسائل الرفاهية والراحة والتسلية؛ لتخفف عن المرضى والمقعدين آلام أسقامهم. وكانت البيمارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين؛ أحدهما للذكور، والآخر للإناث، وكل قسم مجهز بما يحتاجه من أطباء، وكحَّالين، وجرَّاحين، وقوام، وصيادلة، وخدم، وفراشين، وعدة ونحو ذلك، وفي كل قسم قاعات فسيحة لمختلف الأمراض؛ قاعة للأمراض الباطنية، وأخرى للجراحة، وثالثة للكحالة، وقاعة للتجبير، كما أن كل قاعة من تلك القاعات منقسمة إلى قاعات فرعية، وهكذا. في سنة 643 للهجرة بنى الأمير الكبير سيف الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكندي بيمارستان الصالحية بدمشق، وبذل فيه أموالًا طائلة، وأوقف له أملاكًا كثيرة من قرى وبساتين وطواحين، وكان مشهورًا بجمال موقعه، وحسن إدارته؛ وممن خدم فيه من الأطباء: إبراهيم بن إسماعيل بن القاسم بن هبة الله بن المقداد القيسي. أما البيمارستان الذي أنشأه السلطان العادل نور الدين محمود أبو الثنا بن زنكي آق سنقر سنة 549 للهجرة بدمشق، فكان صرحًا صحيًّا متكاملًا. وقد وصفه ابن جبير الرحالة الأندلسي المعروف، فقال: "وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارًا، وله قومة بأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك. والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية، حسبما يليق بكل إنسان منهم. وللمجانين المعتقلين أيضًا ضرب من العلاج، وهم في سلاسل مُوثَقون".
نعمة التفكير وضرورة توظيفها الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فنعمة العقل من أجلِّ نعم الله على الإنسان بعد الهداية للإسلام، ومن أعظم مميزات تلك النعمة التفكر والتدبر في ملكوت الله وخلقه؛ ليستدل الإنسان بهذه النعمة على عظمة الخالق سبحانه؛ فينقاد طوعًا، وحبًّا لهذا الخالق العظيم. وقد وردت عدة آيات في القرآن الكريم تبين هذه النعمة، وامتنان الله بها على الإنسان؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]. وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22]، والآيات كثيرة في هذا الباب. وكذلك وردت أحاديث في السنة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأتم تسليم، تدعو إلى التفكر والتدبر؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرةٍ تشبه - أو: كالرجل المسلم - لا يتحاتُّ ورقها، ولا، ولا، ولا، تؤتي أكلها كل حينٍ، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، فلما قمنا، قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أرَكُمْ تكلمون، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئًا، قال عمر: لأن تكون قلتها، أحب إليَّ من كذا وكذا))؛ [رواه البخاري]. وكذلك وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته رضي الله عنهم إلى التفكر والاستدلال العقلي فيما يستجد من الأمور التي لم يَرِدْ فيها حكمًا من القرآن أو السنة، ويوصيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد بالرأي، وهو إعمال التفكير، بل ويرغِّبهم في ذلك بالثواب في الآخرة؛ فعن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ، فله أجر))؛ [رواه البخاري]. وعندما أخذ المسلمون بهذا النهج الذي حثَّ عليه القرآن الكريم والسنة النبوية كتطبيق عملي، سادوا العالم أحقابًا متتالية في شتى المجالات والفنون، وفُتحت الجامعات، وأقبلت الوفود من الغرب والشرق تنهل من رياض حضارة المسلمين العلمية والمادية والتجريبية، وما كانت تلك القيادة للحضارة الإنسانية حقبة طويلة من القرون، إلا من خلال توظيفهم لنعمة التدبر والتفكر السليم، وتوظيفها التوظيف الراشد؛ ومن ثَمَّ فإن من أسباب تخلف المسلمين عن ركْبِ الأمم اليوم، هو ضعف مجال التدبر والتأمل والتفكر لِما يحيط بهم من أمور دينهم ودنياهم؛ فأصبح الواحد منهم لا يبحث في الغالب إلا عما هو جاهز ومباشر في كثير من أمور حياتهم الدنيوية، فكيف بأمور حياتهم الأخروية؟! مما جعل الكثير من أفراد المجتمع المسلم يعيش خمولًا وكسلًا فكريًّا، بعيدًا عن البحث والاكتشاف، من خلال تعرضهم لتربية مقصودة أو غير مقصودة. لذا رأيت أن أطرح هذا الموضوع؛ لنساهم معًا في توظيف نعمة التفكر والتواصي بتدريب هذه الملكة لدى كل واحد منا؛ فالقرآن الكريم والسنة النبوية تولَّت الاهتمام بهذا المجال، وحث القرآن ودَعَتِ السنة لتوظيف ملكة التفكر والتدبر لدى المسلم، وقد ذكرتُ بعض الآيات في هذا المجال المهم، وكذلك أكدت السنة النبوية عمليًّا على هذا المجال من خلال تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضي الله عنهم. والآن هيا بنا لنعيش معًا في رحاب التفكير من خلال تمرين بسيط منشِّط للعقل؛ ليحدد كل منا تقريبًا مدى استخدامه لمجال التفكير، وهذا التمرين بعنوان: هل تستخدم عقلك جيدًا؟ هل أنت من النوع الخامل أم المفكِّر؟ بشرط الصدق مع نفسك في الإجابة من خلال اختيار الإجابة المناسبة لك، دون الرجوع والاطلاع على نموذج الإجابة المرفق مع هذا المقال؛ فالصدق مع النفس شرط ضروري إذا أردنا أن نصل إلى تقييم صادق، يمكن من خلاله تنمية ذواتنا. وهذا الاختبار المقدَّم في هذا التمرين حفظًا للحقوق استفدتُه من مجلة (حياة)، العدد:42، شوال 1424هـ، السنة الرابعة، مع تعديل في بعض الألفاظ، والصيغ؛ لتناسب المقام. فهيا بنا أيها القرَّاء الكرام إلى هذا التمرين؛ فلعله أن يساهم إلى حد ما في تحقيق الهدف من طرح هذا المقال. • هل تستخدم عقلك جيدًا؟ هل أنت من النوع الخامل أم المفكر؟ عِشْ معي بعض الوقت مع هذا الاختبار الذي يساعدك على تحديد شخصك، إن صدقت مع نفسك أثناء الاختيار. السؤال الأول: كيف كانت - ولا تزال - علاقتك مع الرياضيات؟ أ– لا تذكرني بها... لا أحبها أبدًا. ب- لا بأس عادية... لا أكرهها. ج- جيدة ولله الحمد... فأنا أحب الرياضيات. السؤال الثاني: هل تحب القراءة؟ أ- نعم... أحبها كثيرًا. ب- يعني... أحيانًا. ج- كلا... لا أطيق القراءة أبدًا. السؤال الثالث: ذكر أمامك صديقك لغزًا... هل تفكر فيه وتطلب منه الانتظار حتى تكتشفه، أم أنك تسأل بسرعة عن الإجابة؟ أ- أحاول أن أفكِّرَ فيه قليلًا... ثم أطلب منه الإجابة إذا لم أعرفه. ب- ألح في طلب الإجابة بسرعة، فأنا لا أتحمل التفكير. ج- آخذ الأمر على محمل التحدي وأطلب منه الانتظار حتى أفكر فيه، وأحاول عدة مرات... أما إذا يئست فأطلب منه الحل. السؤال الرابع: رأيتَ قلمًا عجيبًا يستطيع أن يقف رأسيًّا، وبتوازن على الطاولة... هل تتساءل في نفسك عن سر ذلك، وكيفية عمله، وتفكر في ذلك؟ أ– أقلِّب فيه، وأقلب، وأفكر في سر عمله حتى أعرف. ب- بصراحة... لن أسأل عن ذلك. ج- أتساءل في سري عن سر عمله، لكن لا أتعب نفسي كثيرًا في التفكير في ذلك. السؤال الخامس: هل تحب حل مسائل الذكاء التي تحتاج إلى تفكير وحلٍّ على الورقة؟ أ– كلا لا أطيقها. ب- نعم أشعر باللذة والحماس لحل مثل تلك المسائل. ج – أحيانًا فقط أتحمس لها. السؤال السادس: إذا روى لك أحد زملائك قصة مثيرة، هل تخمن عادة في سرك أو تتوقع نهايتها؟ أ- أحيانًا. ب- كلا... لا أحاول أتوقع النهاية. ج- نعم... في أحيان كثيرة أخمن حصول أحداث قريبة مما سيقوله. السؤال السابع: إذا اشتريت قطعة أثاث صغيرة (كرسيًّا أو درجًا) هل يمكن أن تقوم بتركيبها بنفسك حسب النشرة المرفقة؟ أ– نعم أحب ذلك، وأشعر بالمتعة في تركيبها. ب- أحيانًا... إذا كان كل شيء واضحًا. ج- كلا... لا أحب أن أتعب نفسي في التركيب أبدًا. السؤال الثامن: إذا اشتريت جهازًا إلكترونيًّا جديدًا (جهازَ مترجم – جوالًا جديدًا – ميكروويف – فاكس...؛ إلخ)، هل تجد صعوبة في استخدامه، ومعرفة كيفية تشغيله؟ أ– نعم أجد صعوبة... وأبحث عن شخص يشرح لي طريقة عمله بالتفصيل. ب- كلا... فغالبًا أقرأ النشرة المرفقة أو أحاول، وأجرب حتى أتأكد من معرفتي لكيفية استخدامه تمامًا بإذن الله. ج- في بعض الأجهزة أحاول حتى أتمكن منها، والبعض لا أعرف وأخاف أن أجرب فأسأل من يمكنه مساعدتي. السؤال التاسع: اقْتَنى أخوك حيوانًا أليفًا (سلحفاة أو أسماكًا)، هل تحب أن تتأمل حركة هذا الحيوان، وكيفية أسلوب حياته، وكيفية تصرفه في مختلف الحالات؟ أ- في بعض المرات... أستمتع بمراقبة حركاته فقط. ب- أحب ذلك كثيرًا... فأراقب كيفية تصرفه لو قدمت له طعامًا، أو لو وضعت له لعبة معينة وهكذا. ج- لا أهتم، ولا أستمتع به كثيرًا. السؤال العاشر: هل تحب جو المسابقات (الأسئلة الثقافية)؟ أ- كلا لا أحبها كثيرًا... أشعر أنها تحرجني وتشعرني بالغباء. ب- أحيانًا حسب جو المسابقة. ج- يا سلام أحبها جدًّا؛ لأنها تشعرني بالحماس. نموذج جدول إجابات الأسئلة: • من (20 – 30) عقلك مصباح مضيء، وتحب التفكير وتشغل عقلك، ولديك حماس للبحث والاستكشاف ومعرفة المجهول، فلا تهمل هذه الميزة فيك، فهي من صفات المبدعين، لا تترك الغبار يتراكم يومًا على عقلك النظيف، لَمِّعه باستمرار ونوِّره بالعلوم والمعارف من خلال القراءة المنوعة المفيدة، وحل المسائل، والاطلاع على كل مفيد ونافع؛ لتطوير ذاتك بإذن الله. • من (11 – 19) عقلك يعمل لكنه بحاجة للمزيد من الوقود، فأنت لديك اهتمام بالمعرفة والتفكير، لكنك كسول، ولا تمتلك الحماس للاستمرار في تطوير ذاتك، لديك عقل نظيف، ويمكن أن يعمل بشكل أفضل بكثير، لكنك تهمله وتترك الغبار يتراكم عليه أحيانًا بإهمالك؛ لتطوير ذاتك بالقراءة والاطلاع، والسؤال، والتجربة المفيدة، فمعدن عقلك جيد ويستحق المحافظة عليه، أنت لديك رغبة في تعلم المزيد والاكتشاف وتقديم المفيد، لكن هناك أشياء تحبطك وتمنعك من تطوير ذاتك ونفسك، واستخدام مهارة التفكير لديك. • أقل من (11): يا ألله! منذ متى وعقلك مُطفَأ هكذا؟ للأسف لا تهتم بعقلك، لقد أهملته وتركت استخدامه لفترة طويلة حتى علاه الصدأ... لماذا؟ لماذا تعتقد أن التفكير والثقافة هي من صفات العلماء والمعقدين فقط؟ لماذا لا تحاول الاطلاع على ما يجرى حولك وتفكر فيه؟ لماذا لا تطور ذاتك بالقراءة والاطلاع ومعرفة كل جديد ومفيد؟ انتبه، إن بُغْضَك لأي شيء يحتاج إلى التفكير سيجعل عقلك يتوقف عن العمل؛ لذا حاول أن تقوم بإشغاله من جديد من خلال القراءة والاطلاع، وحل الألغاز والمسائل، والتفكير فيما يجري حولك باستمرار، ستجد صعوبة في البداية، لكن بعد فترة ستعوِّد عضلات مخك على هذه التمارين، وتنشط؛ فتشعر بالفخر والسرور والسعادة. ركز مرة أخرى على القراءة والاطلاع، ومصاحبة الصحبة الصالحة المثقفة التي تساعدك على التفكير فيما يدور حولك.
لامية العرب: قراءة نقدية أنثروبولوجية لضياء الجنابي صدر حديثًا كتاب " لامية العرب: قراءة نقدية أنثروبولوجية "، تأليف: "ضياء الجنابي "، نشر " دائرة الثقافة "- الشارقة. وهذا الكتاب يهدف للتعريف بقصيدة من عيون الشعر العربي الجاهلي، وهي قصيدة "لامية العر ب" للشنفرى، ودراستها دراسة نقدية تحليلية لمكوناتها التناصية والشعرية. ولامية العرب، قصيدة طويلة من عيون الشعر العربي، ومن أشهر قصائده قديمًا وحديثًا، للشاعر الشنفرى، أحد الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، ومطلعها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميلُ فقد حُمّتِ الحاجاتُ والليلُ مقمرٌ وشُدّتْ لِطِيّاتٍ مطايا وأرحل وتقع في ثمانية وستين بيتًا، وتأتي شهرة هذه القصيدة من المعاني التي تضمنتها، فكثير منها مما يفخر به العربي، لأنها حملت معظم القيم والأخلاق الحميدة التي يحبّ العربي أن يتجمّل بها، وأن تُذكر على أنها من صفاته، كما أنها "تصور تصويرًا حيًا حياة الصعلوك الجاهلي وروحه البدوية الوحشية"، وتُعَدّ أحد المتون اللغوية المهمة. وقد لقيت "لامية العرب" اهتمامًا بالغًا من طرف الشارحين والمحققين، "وتعتبر من أشهر قصائد الشنفرى، بل هي من أشهر ما أبدع الشعراء العرب قديمًا وحديثًا، وشهرتها الأدبية واللغوية بلغت الآفاق، كما لقيت اهتمامًا بالغًا من طرف المستشرقين، فأكبوا عليها يدرسونها ويترجمونها إلى لغات أوروبية مختلفة؛ لأنهم وجدوا فيها صورة متقنة لحياة الأعراب في الجزيرة العربية، فكان اهتمامهم بها لغرض اجتماعي، كما كان اهتمام العرب بها لغرض لغوي، بالإضافة لما تحويه من فنية الصور وجمالية الوصف ودقة التعبير وصدق العواطف وغيرها من جماليات الإبداع الأدبي" والشنفرى هو عمرو بن مالك الأزدي، من بني الحارث بن ربيعة، شاعر جاهليّ من الشعراء الصعاليك وهو من أفتك الشعراء الصعاليك وأكثرهم عدائية، ويرجع إلى قبيلة الأزد وهي قبيلة من قبائل اليمن القديمة، واسمه يعني في العربية "صاحب الشفاه الغليظة". وقد نشأ في قبيلة "فهم" بعد أن تحولت إليها أمه بعد أن قتلت الأزد والده، ويرجح أنه خص بغزواته بني سلامان الأزديين ثأرًا لوالده وانتقامًا منهم، وكان الشنفرى سريع العدو لا تدركه الخيل حتى قيل: "أعدى من الشنفرى"، وكان يغير على أعدائه من بني سلامان برفقة صعلوك فتّاك هو "تأبط شرًا" وهو الذي علمه الصعلكة، وقد عاش الشنفرى في البراري والجبال وحيدًا حتى ظفر به أعداؤه فقتلوه قبل 70 عامًا من الهجرة النبوية. وتتخذ هذه الدراسة من "لامية العرب" للشنفرى نموذجًا للكشف عن الظواهر اللغوية والاجتماعية والنفسية والفنية في شعر الصعاليك، هذه الظواهر التي تنتظم شعر صعاليك العرب الجاهليين أمثال عروة بن الورد والسليك بن السلكة. وتنقسم الدراسة إلى سبعة فصول، على النحو التالي: الفَصْلُ الأَوّل: أَهَّمُ الكتبِ والمَخطُوطاتِ التي تناولتْ "لاميّة العرب". الفصلُ الثّاني: ظَاهرةُ الصَّعاليك، أَضواءٌ على نشأتهم وحركتِهم الاجتماعيّة والسياسيّةِ. الفَصْلُ الثَّالِث: القَصائدُ المسمّاةُ الّلامِيّاتُ الشَّائِعَةُ فِي الشِّعرِ العَرَبِي. الفَصْلُ الرَّابِع: الشَّنْفَرَى شَاعِرِ لَامِيَّةِ العَرَب. الفَصْلُ الخَامِس: بَعْضُ سِمَاتِ شِعْرِ الصَّعَالِيك. الفَصْلُ السادس: في مدار قصيدة "لاميّة العرب". الفَصْلُ السابع: نصُّ "لاميّة العرب" مع شرح موجز. ونجد أن الباحث توقف عند كل واحد من فصول الكتاب بالشرح والنقاش، مبينًا سمات شعر "الصعاليك" والأسباب التي أدت لنشأة ظاهرة "الصعلكة" مناقشًا أثرها على "لامية الشنفرى" موضوع الدراسة ومحورها الرئيسي.
مقاصد النقد لا بد مِن تفهُّم المقاصد التي انطلق منها نقد الاستشراق من الناحيتين الإيجابية والسلبية، وإن ظهرت بعض المبالَغات في المدح أو القدح، إلا أنه يُمكن القول: إنَّ الغيرة على الدين في كل زمان، والعروبة في زمان الضخ القومي، كانتا هما القاسم المشترك بين الذين قلَّلوا من شأن الاستشراق، حتى أضحى نقد الاستشراق جزءًا من محاولات حماية الدين والعربية من الغزو الثقافي / الفكري، والدعوة إلى التغريب، أو "التغربن" كما يُسميه عبدالإله بلقزيز ويخطِّئ من يُسميه بالتغريب [1] ، الذي تعرَّض له هذا الدين منذ قرون ماضية؛ بحيث تحوَّل النقد الإحيائي للاستشراق "إلى نقْد للتغريب والمتغربين في المجتمعات العربية، وبخاصة بعد تفاقم الصراع بين الإسلاميين والسلطات في السبعينيات والثمانينيات من القرن (الميلادي) الماضي"، كما يقول رضوان السيد [2] . لا ينفي هذا صفة الغيرة عند أولئك الذين رحبوا بالاستشراق منقذًا للفكر الإسلامي من النظرة التقليدية بزعمهم، كما رحَّب مَن قبلَهم بالاستعمار بزعمهم أنه منقذ للشعوب من التخلف والرجعية، وإنما المحك هنا عند هؤلاء وأولئك مع هذا الإخلاص المتوخَّى منهم هو في توخي الصواب في التعبير عن هذه الغيرة، وإن تحقَّق الإخلاص في غالب هذه الطروحات الفكرية، هذا مع عدم إغفال وقفات برزت في بعضها الانهزامية أمام المستشرقين، وظهرت على أخرى أزمة الثقة بالإسهامات الاستشراقية غير المنتمية، لا سيما فيما له علاقة مباشرة بالعلوم الإسلامية. فريق ثالث سعى إلى التوسط وابتعد عن التعميم إيجابًا أو سلبًا، وأكَّد على أن المستشرقين ليسوا سواء [3] ، فمنهم من أجحف في حق الفكر الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، ومنهم من أسدى للعروبة والإسلام أجلَّ الخدمات [4] . بهذا تكون هناك ثلاثة مواقف في نقد الاستشراق: الموقف المنبهِر، القابل لما جاء به المستشرقون على إطلاقه، والموقف الرافض لكل إسهامات المستشرقين على إطلاقها، والموقف الثالث الذي راعى النظرة الوسطية، فأخذ وترك، من منطلق أن كلًا يؤخذ من كلامه ويردُّ إلا من عصم الله من الأنبياء والرسل [5] ، ويستمر السجال في نقد الاستشراق، بين أطراف تبحث في الأصل عن الحكمة في التعاطي مع واقع فكري، لم يكن بالضرورة جديدًا في تاريخ الفكر الإسلامي. [1] انظر: عبدالإله بلقزيز، العرب والحداثة: دراسة في مقالات الحداثيين، بيروت: مركز دراسة الوحدة العربية، 2007م، ص 31 – 32. [2] انظر: رضوان السيد. نقد الاستشراق، الاجتهاد، ع 51 - 50 (صيف العام 1422هـ / 2001م). – ص 5 - 7. [3] انظر: أحمد مُحمَّد جمال، المستشرقون ليسوا سواء، المنهل، مج 55 ع 471 (9 - 10 / 1409هـ، 4 - 5 / 1989م) - ص 218 - 221. [4] انظر: عبدالوارث كبير، المستشرقون ليسوا كلهم أعداء للعروبة والإسلام فمنهم من أدَّى للعروبة والإسلام أجلَّ الخدمات، العربي، ع 102 (5 / 1967م.)، ص 144 - 145. [5] انظر: علي بن إبراهيم النملة، مصادر المعلومات عن الاستشراق والمستشرقين: استقراء للمواقف، الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1414هـ / 1993م، 55 ص.
غزوة السويق وغزوة ذي أمر غزوة السويق: بعد هزيمة قريش في بدر نذَر أبو سفيان ألا يمس النساء حتى يغزو محمدًا، فأعد حملة خفيفة من مائتي رجل ليبَرَّ بقسمه، وانطلق سرًّا إلى المدينة، وترك رجاله عند جبل ثيب، وانطلق هو ليلًا حتى أتى حيي بن أخطب اليهودي وطرق بابه فلم يفتح له، ثم أتى دار سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير، فاستأذن عليه فأذن له وقراه - ضيَّفه - وأخبره خبر الناس في المدينة، ثم عاد أبو سفيان فأحضر عددًا من رجاله وهاجموا طرفًا من المدينة وأحرقوا نخلًا وقتلوا رجلين، ثم انصرفوا، ووصل الصريخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعد حملة مطاردة، وخرج في طلب أبي سفيان حتى بلغ قرقرة الكدر، وفاتهم أبو سفيان هربًا، وكان قد تخفَّف من أحماله، ورمى ما معه من السويق - دقيق القمح أو الشعير المحمص - وقد غنِمه المسلمون، ولهذا سُميت بغزوة السويق، وكانت في ذي الحجة من السنة الثانية. غزوة ذي أمر: غزا فيها منطقة نجد يريد غطفان، كان ذلك بعد عودته من غزوة السويق، كان ذلك في بداية السنة الثالثة من الهجرة، فقد سمع بجموع لغطفان، فبادرهم قبل تمام الاستعداد، فهربوا نحو رؤوس الجبال، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم بذي أمر حتى ربيع الأول، ثم رجع إلى المدينة، ولم يكن في هذه الغزوة قتال، لكن الواقدي زاد في هذه الغزوة: أن ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر ليغيروا على أطراف المدينة، يقودهم دعثور بن الحارث بن المحارب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين مقاتلًا، ومعهم بعض الأفراس، ولما اقترب منهم رأوا رجلًا يقال له جبار بن ثعلبة، فقالوا: أين تريد؟ قال: أريد يثرب، قالوا: وما حاجتك؟ قال: أردت أن أرتاد لنفسي وأنظر، قالوا: هل مررت بجمع أو بلغك خبر لقومك؟ قال: لا، إلا أنه قد بلغني أن دعثور بن الحارث في أناس من قومه عزل، فأدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام، فأسلم، ثم سار معهم يدلهم على مكان دعثور، وكان قد ارتقى بقومه رؤوس الجبال، وغيبوا فيها أنعامهم ونساءهم وأطفالهم، فعسكر المسلمون في ذي أمر مقابل القوم، وهطلت أمطار غزيرة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ابتعد عن أصحابه وخلع ملابسه التي أصابها المطر يجفِّفها وهو مضطجع تحت شجرة وقد علق عليها سيفه، ودعثور يراقب من الأعلى، فرأى أن هذه فرصته لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل حتى وقف فوق رأسه شاهرًا سيفه، فقال: مَن يمنعك مني يا محمد؟ قال: ((الله))، ولكزه جبريل عليه السلام في صدره فسقط سيفه، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((مَن يمنعك مني اليوم؟))، قال: لا أحد، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثِّر عليك جمعًا أبدًا، فرد إليه النبي صلى الله عليه وسلم سيفه، وعاد إلى قومه وكانوا ينظرون، فقالوا: ما منَعك من قتله؟ قال: نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت، فعرفت أنه ملك، فأسلمتُ، ودعا قومه إلى الإسلام، ونزلت فيه هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المائدة: 11]، وذكر غير هذا في سبب نزول هذه الآية، كما ذكر اسم الأعرابي بأنه غورث بن الحارث لا دعثور.
أيُّوب عليه السلام نتحدَّثُ في هذا الفصل عن نبيِّ الله ورسوله قدوة الصابرين المضروب به المثل في الصبر على البلاء أيوب عليه السلام، وأكثر أهل العلم على أنه من ذرِّية إبراهيم عليه السلام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 83، 84]، بناء على أن الضمير في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ عائدٌ على إبراهيم عليه السلام؛ لأن الكلام سيق من أجله، وقال بعض أهل العلم: إنه ليس من ذرية إبراهيم، وجعل الضمير في قوله: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ راجعًا إلى نوح؛ لأنه أقرب مذكور، على أن الله تبارك وتعالى قد حَصَرَ النبوَّة بعد إبراهيم في ذريته؛ حيث قال في سورة العنكبوت: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ﴾ [العنكبوت: 27]. وقد اشتملت قصَّة أيوب عليه في السلام في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نقاط، منها: ابتلاؤه، وأنه مسَّه الضرُّ، وأن هذا الضرَّ أصابه في نفسه وأهله، فأحسَّ بنُصْبٍ وعذابٍ؛ أي: بتعب وألم ومشقَّة، ومنها أنه ابتُلي فحلف على فعل شيء يؤلمه تنفيذُه ويشقُّ عليه، كما أنه ابتُلي بالغنى الواسع والمال الوفير، ولم يثبت عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم تحديدُ نوع البلاء الذي أصيب به أيوب عليه السلام في جسمه؛ إلا أن القرآن العظيم يشير إلى أنه أُصيب بنوع من الحمَّى الشديدة؛ إذ جعل الله تبارك وتعالى علاجَه من مرضه أن يغتسل بماء بارد، وأن يشرب منه، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُصيب بنوع من الحمى أن يغتسل بالماء البارد؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحمَّى من فيحِ جهنَّمَ، فأطفِئُوها بالماء)) ، وفي لفظ للبخاري من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحمَّى من فيحِ جهنَّم فأبردُوها بالماء)) ، كما روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري من طريق فاطمة بنت المنذر أنَّ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما كانت إذا أتيت بالمرأة قد حُمَّتْ تدعو لها، أخذتِ الماء فصبَّتْهُ بينها وبين جيبها، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُنا أن نبرِّدَها بالماء. وليس كلُّ مرضٍ أو كلُّ حُمى يعالجها التبريد بالماء، إنما هو نوع خاص من الحمى؛ إذ إنَّ بعض أمراض الحمى قد يقتل المريض أن يغتسل بالماء. والظاهر أن نوع المرض الذي أصاب أيوب عليه السلام كان غايةً في الشدَّةِ والوجع والألم، وليس ذلك بغريب؛ فإن أشدَّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل، إني أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلان منكم)) ، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجل)) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِنْ مسلمٍ يُصيبه أذًى من مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إلا حَطَّ اللهُ له سيئاتِه، كما تحط الشجرة ورقها)) . وقد أخرج الدارميُّ والنسائي في الكبرى وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلُّهم من طريق عصام بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)) ، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء من البداية والنهاية: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)) . أما ما يُذكر من أن أيُّوبَ مرِضَ وطالَ مرضُه حتى عافَه الجليس، وأُخرج من بلده، وأُلقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبقَ أحدٌ يحنو عليه سوى زوجته، وأن الدودَ صار يسرح ويمرح في جسده، وأنه تساقَطَ لحمُه حتى لم يبقَ إلا العظم والعصب، وأنه مَرَّ عليه في هذا المرض ثلاثُ سنوات أو سبعُ سنوات أو ثلاث عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، وأنه كان له أخوان صديقان فجاءا يومًا فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب جزعًا شديدًا... إلخ، وأنه لمَّا شفاه الله جاءته امرأته إلى المزبلة فلم تعرفْه، فقالت له: أين ذهب هذا المبتلى الذي كان هاهنا لعلَّ الكلابَ ذهبت به أو الذئاب؟ هذا القصص المختلق لم يثبت شيءٌ منه بخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامَّة أهل العلم على أن الله تبارك وتعالى يَحمي أنبياءه من الأمراض المُنَفِّرَة، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الله تبارك وتعالى أعطى أيُّوب غنًى واسعًا؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا أيوبُ يغتسلُ عريانًا خرَّ عليه رجل جرادٍ من ذهبٍ فجعل يَحْثِي في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيوب، ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك)) . وقد ساق الله تبارك وتعالى قصَّته في موضعين من كتابه الكريم، فقال في سورة الأنبياء: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 83، 84]، وقد عقَّب ذلك في هذا المقام ببيانِ أن الصبر من شِيم المرسلين، فقال: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 85]، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في هذا المقامِ أنَّه تفضَّل على أيوب فاستجاب له، وكَشَفَ الضرَّ عنه، وأعطاه أهلَه ومثلَهم معهم رحمةً من الله وذكرى للعابدين. وقال في سورة ص: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 41 - 44]. وفي هذا المقامِ الكريمِ يسندُ أيوبُ الضرَّ الذي أصابه إلى الشيطانِ تأدبًا مع الله عز وجل في إسناد الشرِّ إلى الشيطان؛ لأنه سببُ كلِّ بلاء يصيب ابن آدم في الدنيا؛ حيث إنه هو المتسبب في إخراج آدم من الجنة وإهباطه إلى هذه الأرض للامتحان والابتلاء، وقد أشار الله تبارك وتعالى بقوله: ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ﴾ الآية، والضِّغْثُ: قَبْضَةُ الحشيش المختلطةِ الرطب باليابس، وهو يشعر أنه حلف في حالة غضب أن يضرب حبيبًا له عددًا معينًا، وقد أمره الله عز وجل أن يبرَّ بيمينه، فيضرب من حلف على ضربه بهذه القبضة، مكافأةً له على صبره وإحسانه؛ لأنه لو ضربه بسوط أو نحوه لآلَم ذلك الضارب والمضروب؛ ففرَّج الله كربته، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
العقل المظلوم لكون أحكام العقل ظنيةً في معظمها، فيدَّعي البعض أن العقل لا يُركَن عليه في إنتاج المعرفة، وإصدار الأحكام؛ فهل هذا الادعاء صحيح؟ والجواب على ذلك: إن هذا الكلام غير صحيح ومضلل لأكثر من سبب. فنعم إن معظم أحكام العقل ظنية، وهذا ما يجعل من فرصة الانحراف أو الخطأ في أحكام العقل قائمة، وليست معدومة، أو على الأقل ما يجعل الاختلاف بين الناس قائمًا بسبب ذلك، لكن هذا لا يعني أن العقل لا يُركَن عليه في إنتاج المعرفة، وإصدار الأحكام، فهذا الكلام غير صحيح ومضلل؛ لستة أسباب: السبب الأول: إن العقل هذه هي طبيعته - ماهيته - فلا يمكن للإنسان الخروج عليها، وهي طبيعة يشترك بها جميع البشر دون استثناء؛ فليس هناك بديل آخر عن طبيعة العقل هذه، حتى نكون في موضع نختار فيه بين استعمال عقولنا في إصدار الأحكام، أو استعمال غيرها. وبمعنى آخر، فأنت تعيش في الحياة بالعقل الذي تملكه، وبأدوات الإحساس لديك بقدراتها المحدودة التي تملكها، وليس بالعقل المطلق الذي تتمنى وجوده، ولا بأدوات الإحساس الفائقة التي تتمنى وجودها؛ فالعقل واقع ثابت لا يمكن للإنسان تغييره. وطبيعة العقل هذه التي يشكك بها البعض هي نفسها التي مكَّنت البشر من الوصول لهذه الاختراعات المذهلة في زماننا هذا، وهي نفسها التي نسير بها جميع أمورنا الحياتية؛ فـ99 % من قرارات كل إنسان ناتجة عن أحكام ظنية، وليست قطعية؛ ومع ذلك فالحياة تسير بسلاسة، فالظن يرتفع وينخفض، وقد يرتفع الظن عاليًا حتى يكاد يلامس اليقين، وإلا فما الفرق بين العاقل والمجنون، وبين العالم والجاهل، وبين المؤمن والكافر؟! السبب الثاني: إن العقل آلة مسخرة لخدمة النفس كما قلنا - راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف - وإن الانفعالات من نصيب النفس فقط، وهي تكره الالتزام بطبعها، لكن العقل لا يظن ولا يشك ولا يوقن، ولا يشعر ولا يتذمر. وهذا يعني أنه قبل أن يتذمر الإنسان ويتهم عقله بأنه لا يُركن عليه في إنتاج المعرفة وإصدار الأحكام، وأنه هو الذي ربما قد ضلَّله في مسألة ما - عليه أن يتهم نفسه التي تتسلط على العقل، فتفسد عليه معالجة القضايا معالجة سليمة، من أجل الخروج بأحكام ظنية عالية القيمة من حيث الصواب، فآفة العقل هوى النفس؛ فالهوى يحرف العقل عن الحكم الصحيح. السبب الثالث: إن من يقولون ذلك يقعون في مغالطتين؛ الأولى: هم لا يـتخيلون أحكام العقل إلا واقعة بين جهتين متضادتين، إما صواب وإما باطل؛ وهذا غير صحيح، والمغالطة الثانية: أنهم قد لا ينتبهون للفرق بين الخطأ والباطل، فالخطأ فيه بعض الصواب، أما الباطل، فلا صواب فيه. بل إن المطلوب من العقل، حتى وهو بهذه الطبيعة - ماهيته التي بيناها - هو محاولة إدراك الصواب، وليس بالضرورة إصابة الصواب، وإدراك الصواب ليس معناه الوصول بالفكرة لدرجة اليقين أو لدرجة الجازم، إنما يكفي فيها الوصول إلى درجة الثاقب على الأقل (73 - 77 %)، فيما لو تعلق ذلك بالحكم على وجود الواقع، أما لو تعلق الأمر بالحكم على ماهيته بعد إثبات وجوده طبعًا، وعلى ما هو على شاكلة الماهية، فهذه يكفي فيها الوصول إلى درجة الناقب على الأقل (65 – 69 %). فمثلًا: نظرية نيوتن صائبة، لكن النظرية النسبية لأينشتاين أصوب منها؛ فهي قد فسرت أمورًا كثيرة لم تقدر عليها نظرية نيوتن، وعلم عروض قضاعة بالمجمل أصوب من علم عروض الخليل، وليس عروض الخليل باطلًا، والأحكام الفقهية التي يجتهد فيها العالم الشرعي، التي هي أحكام ظنية في أصلها، فلذلك هي عرضة للخطأ، ولكن الخطأ الحاصل مع الاجتهاد المنضبط هو الخطأ القريب من الصواب، وليس الخطأ المنافي للصواب، وإلا فلن يشمله حديث نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)). السبب الرابع: إن العقل يلزمه وجودُ ركائزَ غيرِ الركيزة الأم الممثَّلة باللغة، وغير الركائز الأولية التي يكتسبها بمجرد وجوده على الأرض، وذلك ليستطيع الحكم على وجود بعض الوقائع أو على ماهيتها، حكمـًا صحيحًا أو قريبًا من الصواب، خاصة إذا كانت الوقائع من صنف المحسوس بأثرها، أو من صنف الوقائع المعنوية أو المعدومة، وهي أكثر الوقائع جدلًا. ولذلك، فلا بد من سعي الإنسان لتحصيل أكبر قدر ممكن من الركائز الموثوقة ليستخدمها في الربط؛ إما ركائز تخصصية من معلم، وإما باستخلاصها بنفسه بالبحث الجاد والتفكر ( ركائز علائقية أو ركائز واقعية )، وهكذا، فإن من لا يملك ركائز موثوقة كافية عن موضوع ما، فلا يحق له أن يتهم العقل بأنه لا يُركَن عليه في إصدار الأحكام؛ [راجع: مختصر خريطة العقل]. السبب الخامس: إن المحاولة الجادة لإدراك الصواب، ليست فقط تتحقق بالتزام فحوى الأسباب الثلاثة السابقة، بل يلزمها أيضًا صدق النية في الوصول للصواب، مع بذل جهد جاد للوصول إليه، فليس التفكير كله على مستوى واحد؛ فهناك تفكير سطحي، وتفكير عميق، وتفكير مستنير، فإذا غلب على الشخص التفكير السطحي، أو لم يعقد النية للوصول للصواب، ولم يبذل جهدًا جادًّا في سبيل تحقيق ذلك، فلا يحق له أن يتهم العقل بالعجز؛ لأنه هو نفسه سبب التقصير، وسبب هذه التهمة. السبب السادس: وهو سبب جِدُّ مهم: وهو أن القضايا الخلافية الناتجة عن أن حكم العقل عليها حكم ظني، ليست جميعها بنفس ذات الأهمية والخطورة على الإنسان، بل قلة منها هي التي تشكل خطورة على مسار حياته دنيا وآخرة، وعلى المجتمع الذي هو عضو فيه؛ ولذلك فلا ضرر إطلاقًا لتلك القليلة الأهمية بالنسبة للإنسان عليه، فيما لو كان الظن معها ضعيفًا، أو خاطئًا، أو حتى باطلًا. فإدراك وجود خالق لهذا الكون، مع نفي التصورات الخاطئة والباطلة عنه هو أخطر أمر يواجه الإنسان؛ وذلك لخطر هذا الأمر على استقرار نفس الإنسان في هذه الدنيا، وعلى مآله في الآخرة أيضًا. والخلاصة: أنه قبل أن يتَّهِمَ الإنسان عقله بأنه لا يُركَن عليه في إصدار الأحكام، والعقل بهذه الطبيعة التي خُلِـق عليها - عليه أن يستخدم عقله استخدامًا صحيحًا وجادًّا، فإذا لم يفعل ذلك، فالوزر يرجع عليه وليس على عقله؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10، 11]. لمزيد من التعمق في هذا الأمر: راجع ( مختصر خريطة العقل للمؤلف، وهو بحث من 40 صفحة فقط ).
غزوة بني قينقاع بنو قينقاع قبيلة يهودية سكنت المدينة وعملت في مجال الصناعة اليدوية وصياغة الذهب والفضة، ولهم سوق يقصدهم الناس لتأمين حاجتهم من الأدوات أو المصاغ، وحدَث أن جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في سوقهم وقال لهم: ((يا معشر يهودَ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا؛ فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسَل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم)) ، قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس، وهذا التحدي استوجب ردًّا من الله عليهم، فيه تبكيت لهم وخزي لهم، وهزيمة إن حاربهم المسلمون: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 12، 13]، وكان يجب عليكم أيها اليهود أن تعتبروا بما حل بالمشركين في بدر رغم كثرة عددهم، فإنهم هُزموا شر هزيمة، وورد أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن امرأة من البادية مسلِمة قدمت بجلب لها - من إنتاج البادية من سمن وأقط - فباعته في السوق، ثم جلست إلى صائغ تريد أن تشتري شيئًا من المصاغ، فجعل اليهود يراودونها على كشف وجهها، فأبت، فعمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت عورتها، فضحكوا لذلك، فصاحت مستنجدة لما حصل لها من الإهانة والسخرية بها، فوثَب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فاجتمع اليهود على المسلم فقتلوه، وهكذا وقعت الفتنة، وتجهز المسلمون لعقاب اليهود على جريمتهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حُكمه وقد قذَف الله في قلوبهم الرعب، فشدوا وَثاق المقاتلين، فأتى رأسُ المنافقين عبدُالله بنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولَ، فقال: يا محمد، أحسن في مواليَّ - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل ابن سَلُول يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمها ذات الفضول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسِلْني)) ، وبدا الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((ويحك أرسلني)) ، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني يوم الحدائق ويوم بعاث من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم لك)) ، وفي رواية: ((خلُّوا سبيلهم؛ لعنه الله ولعنهم)) . قال ابن إسحاق: استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم بشير بن عبدالمنذر في حصار بني قينقاع الذي دام خمسة عشر يومًا، فأجلاهم عن المدينة، واستلم ما في حصونهم من ذخائر ومتاع، وترك لهم الذرية والنساء وإبلًا تحملهم، وأعطاهم مهلة ثلاثة أيام ليستعدوا للرحيل، وجلوا إلى أذرعات بالشام، وقد خرج عبادة بن الصامت في إثرهم ليتأكد من جلائهم. هذا وقد ظهرت مواقف إيمانية من عبادة بن الصامت سجلت له، فكان له حلف مع بني قينقاع مثل الذي كان لابن سلولَ، لكنه لم يقف موقفه، بل تبرأ منهم ومن فعالهم، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى اللهَ ورسوله وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، وقد ذكر الله الموقفين في كتابه العزيز: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 51 - 57]، تأكيد وتشديد على وحدة الجماعة بأن يكون المسلم معهم فلا ينحرف أو يميل إلى غيرهم، وأن حزب الله هو الغالب والمنتصر، وأن العدو الكافر هو المنهزم، كما أن هذه الآيات تحمل النكير على مَن يتولى غير المسلمين، ويعتقد في هذه الموالاة الفوز والنصرة والحماية من صروف الدهر - كما قال رأس المنافقين: إني امرؤ أخشى الدوائر - وعدَّ القُرْآن الكريم هذه الموالاة ردَّةً.
مزاحمة المستشرقين لا يتصوَّر باحث موضوعي / أكاديمي أن ينتقد الاستشراق دون الإلمام بلغاته، أو بإحدى لغاته الرئيسية؛ كاللغة الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والإسبانية، والإيطالية، على تفاوت بين هذه اللغات في درجات الإسهام في الدراسات الإسلامية، الذين يجيدون بعض هذه اللغات ينتقدون الاستشراق بثقة، ولذا نراهم مع نقدهم للاستشراق يتوجهون إلى مراكزه في مزاحَمة علمية للمستشرقين أنفسهم. لقد بدا على هؤلاء شيء من التأثُّر بالطروحات الاستشراقية عن الإسلام؛ فهم ليسوا جميعًا منها براء، إلا أن ما يقومون به يمكن أن يعدَّ نقطة تحول في مسيرة الدراسات الاستشراقية، بل ربما يعد تحولًا مضادًّا في استقبال المشتغلين بالاستشراق، فبعد أن كان المستشرقون يُستقبلون في الشرق في المجامع والجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث، أضحى العلماء العرب والمسلمون هم الذين يُستقبلون في الغرب في مراكز الدراسات والبحوث والجامعات والمعاهد العليا؛ يقول ناصر عبدالرزاق الملا جاسم: "وإذا كان ثمة مؤشر إيجابي جدير بالتنويه فهو تعاظم مساهمة الباحثين العرب، ممن استوطنوا الأقطار الأوروبية في تطور الدراسات العربية والإسلامية فيها، وتوجيهها توجيهًا أكثر موضوعيةً" [1] . ومع هذا لا يُغفل إسهام أولئك العلماء المسلمين الغربيين الذين كان لهم أثر وتأثير على بعض المراكز الاستشراقية، وغالبيتهم ممَّن أنصفوا الإسلام وأخلصوا له قبل اعتناقه؛ "من أمثال: بوركهارت، وكرنكوف، وزونستين، وشنيتسر، ودينه، وفلوري، وميشو - بيللر، ومارمادوك، وفلبي، وليوبولد فايس، وجرمانوس" [2] ، والقائمة تطول لتشمل محمد هوبهوم ومراد هوفمان. هذا التحول الملحوظ في الموقف من الإسلام جعل مشيخة الأزهر تستعين بهؤلاء، في مطلع الثمانينيات الهجرية، الستينيات الميلادية من القرن الماضي، "بإلقاء سلسلة من دراساتهم الإسلامية على طلاب الفرقة النهائية في معهد الإعداد والتوجيه، قبل إيفادهم إلى الشعوب الإسلامية" [3] ؛ للدعوة إلى الله وقيادة المراكز الإسلامية. [1] انظر: ناصر عبدالرزَّاق الـمُلَّا جاسم: الإسلام والغرب: دراسات في نقد الاستشراق، عمَّان: دار المناهج، 1423هـ / 2003م، ص 24. [2] انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون؛ مرجع سابق، 3: 621. [3] انظر: نجيب العقيقي، المستشرقون، المرجع السابق، 3: 624.
مبادئ علم مصطلح الحديث المستوى الثاني لمحمد صالح موفق المرابع صدر حديثًا كتاب "مبادئ علم مصطلح الحديث، المستوى الثاني"، جمع وترتيب: "محمد صالح محمد موفق المرابع"، قدم له: "محمد موفق المرابع"، و"بسام الحسيني الحمزاوي"، نشر "مؤسسة حرف للبحث والتطوير العلمي". يقدم هذا الكتاب مادة (علم الحديث - دراية) في أنسب الطرق المناسبة للتدريس بلغة سهلة وتقسيم مترابط باستخدام مشجرات مرتبة وتطبيقات عملية مع أسئلة تقويمية في نهاية كل بحث تعين على التفاعل مع هذه المادة عمليًا. والكتاب موجه للمبتدئين من طلاب المعاهد والمدارس بلغة سهلة وتقسيم مترابط. وفيه تبسيط للمباحث والأبواب، مع تدريبات تطبيقية على الأحاديث النبوية، وقد روعي فيه أساليب التعليم الناشط، فقد وضح بأمثلة عملية سهلة المنال تقحم الطالب في المكتبة من بداياته بطريقة شائقة لا تعقيد فيها. وقد وضع الباحث أسفل كل بحث أبيات من ألفية العراقي أو ألفية السيوطي أو البيقونية تلخص البحث ليحفظ الطالب أهم أفكار البحث بعبارات منظومة موزونة. وقد افتتح الكتاب بمقدمات غاية في الأهمية ليتدرج الطالب في هذا العلم خطوة خطوة، وأهمها: آداب طالب علم الحديث الشريف. ويُحَدُّ علم الحديث درايةً - وهو المعروف بعلم مُصطلح الحديث - بأنَّه: علم يعرف به أحوال السند والمتن، وكيفية التحمُّل والأداء، وصفات الرجال، وغير ذلك. وموضوعه: السند والمتن من حيث الصِّحَّة والحسن ونحو ذلك. وثَمرته: معرفة الحديث الصحيح من غيره. وأول من صنَّف فيه: القاضي أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن الرَّامَهُرْمُزِي - رحمه الله - وسُمِّي كتابه: "المُحَدِّث الفاصِل بين الراوي والواعِي". واسمه: "علم الحديث دراية"، ويُسمى "مصطلح الحديث". واستمداده: مِن تتبُّع أحوال رُواة الحديث. وحكمه: أنه فرض عيْن على مَنِ انفرد به، وفرض كفاية عند التعدُّد. ونسبته: إلى غيره من العُلُوم التباين. وفضله: أنه مِن أشرف العلوم؛ إذ به يعرف المقبول والمرْدود. ومسائله : قضاياه كقولنا: كل حديث صحيح يستدل به.
شعيب عليه السلام (2) أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أنَّ الله تبارك وتعالى ذكر قصة شعيب مع قومه في مواضع من كتابه الكريم؛ فذكرها في سورة الأعراف حيث يقول: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ * وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 85 - 93]. وقال تعالى في سورة هود: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [هود: 84 - 95]. وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 176 - 191]. وقال في سورة العنكبوت: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 36، 37]. وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 78، 79]. كما قَرَنَ ذِكْرَ مدينَ بِمجموعةٍ من الأمم التي كذَّبَتْ رسلَها وأنزلَ اللهُ بهم بأسَه الشديدَ وعقابه المبيد؛ حيث يقول في سورة التوبة: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [التوبة: 70]، وكما قال في سورة ق: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ق: 12 - 14]. وفي قوله تعالى في قوم لوط وقوم شعيب: ﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 79]؛ أي: إن قرى قوم لوط وأهل مَدْين على طريق مشهورٍ مسلوكٍ يعرفُه المسافرون إلى تلك الجهات، ويتوارث العلمَ به جيلٌ بعد جيل، فلا يزالُ الناس إلى اليوم يعرفون قرى قوم لوطٍ وأرض مدين. وقد وَهِمَ كثيرٌ من المنتسبين للعلم، فزعموا أن شعيبًا هو الشيخ الكبير الذي زوَّج موسى عليه السلام ابنته لما توجَّه موسى إلى أرض مَدْين هاربًا من فرعون والقوم الظالمين قبل أن يبعثه الله عز وجل نبيًّا رسولًا، ويفسرون بذلك قوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 20 - 29]. فإن شعيبًا عليه السلام متقدِّمٌ على موسى صلى الله عليه وسلم بقرون كثيرة وأزمان متباعدة، ولا يلزم من ورود موسى أرض مَدْين ووجود شيخ كبير صالح فيها يزوِّج موسى إحدى ابنتيه أن يكون هذا الشيخ الكبير هو شعيبًا عليه السلام، ولم يَرِدْ خبرٌ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن الرجلَ الذي صَاهَرَ موسى بمدين هو شعيب عليه السلام، بل القرآن يشير إلى أن الله تعالى بعث موسى بعد قرون متطاولة من إهلاك قوم شعيب؛ حيث يقول عز وجل في سورة الأعراف بعدما ذكر قصَّةَ شعيب مع قومه وهلاكهم: ﴿ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 101 - 103]. وقال في سورة القصص: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43]. وقال شعيب لقومه: ﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]. وقوم لوط أُهلكوا في حياة إبراهيم خليل الرحمن، وبينهم وبين موسى أممٌ متطاولةٌ وأجيالٌ متباعدةٌ، أمَّا الذي زوَّج موسى عليه السلام ابنته فهو رجل مؤمن، من ذرِّيَّة أحدِ المؤمنين الذين نجَّاهم اللهُ من قوم شعيب، والله أعلم. هذا، وظاهر سياق القرآن لقصة قوم شعيب عليه السلام يُشْعِرُ أن أكبرَ جرائمهم بعد الشِّرْكِ بالله كان التطفيف في الكيلِ والميزانِ؛ مما ينبِّهُ الناس إلى الاحتراز من هذه الجريمة؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 1 - 6]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كناشة البحوث: بحوث حديثية محكمة لمحمد زايد العتيبي صدر حديثًا كتاب "كناشة البحوث: بحوث حديثية محكمة"، تأليف: د. "محمد زايد العتيبي"، نشر: "دار الفتح للدراسات والنشر". ويتناول هذا الكتاب مناقشة خمسة بحوث حديثية محكَّمة، تمثِّل نموذجًا للبحث الحديثي المتخصِّص، في معرفة الرواة، والجرح والتعديل، وأحوال الأسانيد. وقد اجتهد المؤلف في جمع مادته العلمية، وتوثيقها من المصادر المعتبرة في هذا العلم، حيث أن كتابة البحوث في مسائل جزئية من العلم هي من خير وسائل الارتياض في فهم دقائق ذلك العلم والتمرُّس فيه، وهذه نماذج تطبيقية في علوم الحديث يتناولها الكاتب بالبحث والتحقيق. ويحتوي هذا الكتاب على هذه البحوث: 1- بحث (صحيفة سليمان بن قيس اليشكري عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه). حيث تكلم الكاتب في هذا البحث عن صحيفة سليمان بن قيس اليشكري التي يرويها عن جابر، فعرّفَ بهذه الصحيفة وبصاحبها، ثم جمع الرواة الذين أخذوا من هذه الصحيفة، وخلصَ إلى أنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم رووا من الصحيفة عن سليمان اليشكري، ولم يسمعوا منه. وهم: (قتادة بن دعامة السدوسي، وجعفر بن أبي وحشية، والجعد بن دينار). وقسم رووا من الصحيفة عن جابر بن عبد الله، ولم يسمعوا لا من سليمان ولا من جابر. وهم: (الحسن بن أبي الحسن البصري، ووهب بن منبه). وقسم رووا من هذه الصحيفة عن جابر بن عبد الله، لكنهم قد سمعوا من جابر. وهم: (عامر بن شراحيل الشعبي، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، ومجاهد بن جبر). وقد جمعَ أمثلة كل قسم، وإذا وجد في المثال خلافًا ذكره، ثم ختم البحث بخاتمة فيها النتائج وكان من أهمها: 1- معرفة كيفية تعامل النقاد مع الوجادات، فقد جاء عنهم تقوية بعض الوجادات والاحتجاج بها وأسباب ذلك. 2- وجود الرواية بالوجادة في العصر الأول، حيث روى جمع من المحدثين من صحيفة سليمان اليشكري، وهم لم يسمعوا من سليمان شيئًا. 3- تهيأ له من خلال هذا البحث: معرفة الواسطة في جملة من الرواة الذين حدثوا عن سليمان اليشكري أو جابر بن عبد الله رضي الله عنه على وجه الإرسال أو التدليس، وهذه الواسطة هي صحيفة سليمان، مما يقوي هذه الروايات ويؤمن معه الخوف من الساقط. وفي النهاية ذكرَ المصادر والمراجع التي رجع إليها. 2- بحث (رواية أبي اليمان الحكم بن نافع وبشر بن شعيب عن شعيب بن أبي حمزة). تكلم الباحث في هذا البحث على رواية أبي اليمان - الحكم بن نافع - عن شعيب بن أبي حمزة، فمهدَ بالتعريف بأبي اليمان وشعيب بن أبي حمزة، ثم ذكرَ أقوال المحدثين في هذه الرواية، وكانت كالتالي: القول الأول: ذهب أصحاب هذا القول إلى أنه لم يسمع من شعيب بن أبي حمزة شيئًا. القول الثاني: لم يسمع إلا حديثًا واحدًا، والباقي عرض. القول الثالث: ذهب أبو الفتح الأزدي إلى أن أحاديث أبي اليمان عن شعيب بن أبي حمزة كانت مناولة. القول الرابع: ذهب أبو زرعة إلى أن أبا اليمان لم يسمع من شعيب إلا حديثًا واحدًا والباقي إجازة. القول الخامس: ذهب أبو علي - صالح بن محمد البغدادي- إلى أنها وجادة. القول السادس: أنه ليس له من شعيب بن أبي حمزة إجازة. ثم تكلمَ على مسألة سماع بشر بن شعيب بن أبي حمزة من أبيه، وذكرَ النصوص فيها، وخلاف المحدثين في ذلك، والتوفيق بينها. ثم ختم البحث بخاتمة فيها النتائج. 3- بحث (معرفة الواسطة في السَّقْط وأثرها فيه). 4- بحث (دراسة لقول البخاري في الراوي: "لا يُعرف صحيحُ حديثه من سقيمه"). وهو دراسة لمنهج البخاري في توثيق الرواة، والرواية عنهم في صحيحه، وقد نُقِلَت هذه العبارة عنه في أكثر من مرة، وهو - رحمه الله - إنما يقصد أن أحاديث ذلك الراوي يمكن تمييزها فيعرف منها الصحيح والضعيف، فمثل هذا الراوي ينقى الصحيح من حديثه ويطرح الضعيف. وهذه بعض المواضع التي وقف عليها نقاد الحديث في كون الإمام البخاري رحمه الله لا يروي عمن لايعرف صحيح حديثه من سقيمه. قال الترمذي في العلل الكبير (2/978): (وسألت محمدًا عن داود بن أبي عبد الله الذي روى عن ابن جدعان فقال: هو مقارب الحديث، قال محمد: عبد الكريم أبو أمية مقارب الحديث، وأبو معشر المديني نجيح مولى بني هاشم ضعيف لا أروي عنه شيئًا ولا أكتب حديثه ((وكل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أروي عنه ولا أكتب حديثه)) ولا أكتب حديث قيس بن الربيع) انتهى. وفي (علل الترمذي الكبير ص35): وقال أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن معيقيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، فسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: حديث أبي سلمة عن عائشة حديث حسن، وحديث سالم مولى دوس عن عائشة حديث حسن، وحديث أبي سلمة عن معيقيب ليس بشيء، كان أيوب لا يُعرف صحيح حديثه من سقيمه فلا أحدث عنه. ويقول الشيخ العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله في [التنكيل (1/123)]: أقول في باب الإمام ينهض بالركعتين من (جامع الترمذي): ((قال محمد بن إسماعيل [البخاري]: ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا)). والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله: ((لا أروي عنه)) أي بواسطة، وقوله: ((وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئًا)) يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يرو عمن كان كذلك بواسطة فلأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيرًا ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة. وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقًا في الأصل فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه. فإن قيل قد يعرف بموافقته الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة فإن ابن ليلى عند البخاري وغيره صدوق وقد وافق عليه الثقات في كثير من أحاديثه ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمن غلطه حتى فبما وافق عليه الثقات، وقريب منه من عرف بقبول التلقين فأنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حد ثوابه ولكنه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم فأنه قد يسمع من أقرأنه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم. فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الرواي من شيوخه بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين: 1) إما أن يكون الراوي ثقة ثبتًا فيعرف صحيح حديثه بتحديثه . 2) وإما أن يكون صدوقًا يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى، كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصًا بجهة كيحيى بن عبد الله بكير روى عنه البخاري وقال في (التاريخ الصغير): ((ما روى يحيى ابن عبد الله بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني أتقيه)) ونحو ذلك. فإن قيل قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح فأنه إن كان يروي ما لا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟ لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري غير الصحيح أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟ قلت: أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل وذلك بأن يحمل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته، ويبقى النظر فيما عدا ذلك، وقد يقال أنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقًا، وإذ رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك فأنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبينًا الواقع بالقول أو الحال. والله أعلم" انتهى. وبذلك يورد الباحث اختلاف العلماء في مراد البخاري من هذه العبارة، وتعلقها بشرط الصحة الذي انتهجه منهجًا صارمًا في متابعة الرواة في "صحيحه الجامع". 5- بحث (طرق معرفة ما يحدِّث به الراوي من حفظه وما يحدِّث به من كتابه). وهو أحد مراتب اشتراط الضبط في راوي الحديث، وبراءته من أن يكون مدلسًا، والمقصود به التثبُّت، وأن لا يروي الراوي إلا ما حفِظه ووعاه، ولم يختلط عليه، وأن يؤديه كما سمعه، وأهل الضبط بهذا المعنى يتفاوتون، حيث قسم العلماء الضبط إلى قسمين: الأول: ضبط صدر: هو الحفظ بأن يثبت الراوي ما سمعه في صدره، بحيث يبعد زواله عن القوة الحافظة، مع القدرة على استحضار المحفوظ إن حدث حفظًا. والثاني: ضبط كتاب: وهو صيانة الراوي لكتابه منذ أدخل الحديث فيه، وصحَّحه، أو قابله على أصل شيخه، ونحو ذلك؛ إلى أن يؤدي منه، وذلك لأن الراوي قد يبتلى برجل سوء: سواء كان ابنًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو ورَّاقًا، أو نحو ذلك، فيدخلون في كتابه ما ليس منه، فعند ذلك يطعن في ضبط الراوي، ويسقط حديثه. وقد قال يحيى بن معين رحمه الله: "هما ثبْتان: ثبت حفظ، وثبت كتاب". ونجد أن هناك بعض الرواة قال العلماء فيهم: "ثقة إذا حدث من كتابه، ويخطئ إذا حدث من حفظه"، والراوي إذا قيل فيه ذلك، فإنه في الغالب يُعرف من أخذ عنه من كتابه، ومن أخذ عنه من حفظه لضبط ما جاء به ولأنه ربما كان يهم كثيرًا إذا حدث من حفظه. ويعرف ذلك بعدة أمور: الأول: أن ينصّ الراوي عنه أنه أخذه من كتابه. مثاله: أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري. وهو من الثقات، إلا أن أبا حاتم قال فيه كما في "الجرح والتعديل" (9/41):" كتبه صحيحة، وإذا حدث من حفظه، غلط كثيرًا، وهو صدوق ثقة ". انتهى. الثاني: أن ينصّ علماء الحديث على أن هذا الراوي حدث في موضع، أو بلد ما، من كتابه، وفي غيرها من حفظه، أو العكس. مثاله: حفص بن غياث. وهو من الثقات، إلا أنه ساء حفظه بعدما ولي القضاء، فمن أخذ عنه من كتابه: فحديثه صحيح. قال أبو زرعة الرازي كما في "الجرح والتعديل" (3/186): "حفص بن غياث: ساء حفظه بعد ما استُقضي، فمن كتب عنه من كتابه: فهو صالح، وإلا فهو كذا". وقد نصّ ابن معين على أن جميع ما حدث به حفص، في بغداد والكوفة: إنما هو من حفظه، كما في "تاريخ بغداد" (8/191). الثالث: أن ينصّ علماء الحديث، على أن هذا الراوي لم يأخذ عنه من كتابه، إلا فلان وفلان مثلًا؛ فيقبل حديثه من طريقهم دون غيرهم. مثاله: شريك بن عبد الله النخعي. قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/759): "قال يعقوب بن شيبة وغيره: كتبه صحاح، وحفظه فيه اضطرب، وقال محمد بن عمار الموصلي الحافظ: شريك كتبه صحاح، فمن سمع منه من كتبه، فهو صحيح. قال: ولم يسمع من شريك من كتابه: إلا إسحاق الأزرق". انتهى. الرابع: أن ينصّ علماء العلل على أن هذا الحديث، لهذا الراوي: ليس في كتابه. مثاله: عبد الرزاق بن همام الصنعاني: قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/374): "قال الأثرم: سَمِعْتُ أبا عَبْد الله يُسأل عَنْ حديث النار جبار. فقال: هذا باطل، ليس من هذا شيء. ثم قَالَ: وَمَن يُحَدِّث بِهِ عَنْ عبد الرّزّاق؟ قلت: حدّثني أحمد بْن شَبَّوَيْه. قَالَ: هَؤُلّاءِ سمعوا بعدما عَمي. كَانَ يُلقَّن، فلُقِّنَه، وليس هُوَ في كُتُبه. وقد أسندوا عَنْهُ أحاديث ليست في كُتُبه، كَانَ يُلَقَّنَها بعدما عَمِي". انتهى. وعلى كُل؛ فيجب على الباحث المحقق إذا وجد راويا قال فيه أهل العلم: "ثقة إذا حدث من كتابه، يخطئ إذا حدث من حفظه" أن يتوسع في ترجمته، حتى يقف على الرواة الذين أخذوا عنه من كتابه. فإن وُجد حديث من طريق راو من هؤلاء، ولا يُعرف هل أُخذ عنه من كتابه أم من حفظه، فيجب التوقف، فإن تُوبع، دل على أنه حدث به من كتابه، وإن تفرد، فيتوقف في قبول حديثه ذاك. والمؤلف هو د. "محمد زايد فلاح العتيبي"، عضو هيئة التدريس بقسم التفسير والحديث بكلية الشريعة- جامعة الكويت. له من المؤلفات والبحوث: • "التثبت فى تحمل الحديث وأدائه: دراسة حديثية". • "أحوال الرواة في تغيير صيغ الأداء". • "الإيماء إلى طرق التحمل والأداء". • "الدر المنثور في التفسير بالمأثور: دراسة وتحقيق"- رسالة ماجستير.
مراحل النقد (مرحلة الانبهار) تبنَّى بعض أبناء العربية والإسلام أفكار المستشرقين وتلقفوها متأثِّرين بهم، وتمت الاقتباسات الطويلة من إنتاجهم بلغاتهم، وصلت إلى نقل إنتاجهم العلمي وترجمته إلى اللغة العربية، ومِن ثمَّ نسبة جزء كبير منه إليهم، وربما انتحاله، يقول محمد محمد أبو شهبة: "ومما يؤسَف له غاية الأسف أن بعض الذين يثقون بكل ما يَرد عن الغربيين من آراء ومذاهب قد تلقَّفوا هذه الشبهات والطعون، ونسبها بعضهم إلى نفسه زورًا، فكان كلابس ثوبَي زور، والبعض الآخر لم ينتحلْها لنفسه ولكنه ارتضاها، وجعل من نفسه بوقًا لتردادها، ومِن هؤلاء من ضمَّن كتبه هذه الشبهات، بل وقوَّى من أمرها؛ وذلك كما فعل الأستاذ أحمد أمين رحمه الله في كتابيه "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام"، وهو وإن كان جارى المستشرقين في كثير مما زعموا فقد خالفهم في بعض ما حدسوا، وكان عفيفًا في عبارته، مترفِّقًا في نقده. وبعض هؤلاء المتلقفين كانوا أشد من المستشرقين والمبشرين هوى وعصبيةً وعداءً ظاهرًا للسنة وأهلها، وزاد عليهم الإسفاف في العبارة، وأتى في تناوله للصحابة، ولا سيما الصحابي الجليل "أبي هريرة" رضي الله عنه بألفاظ نابية عارية عن كل أدب ومروءة؛ وذلك كما صنع الشيخ "محمود أبو رية" في كتابه: "أضواء على السنة المحمدية" [1] . تمت الإفادة من المستشرقين في الجامعات العربية في مصر والشام والعراق، وصاروا أعضاء في المجامع العربية العلمية واللغوية، لا سيما في القاهرة ودمشق وبغداد، يشاركون في صنع القرار اللغوي والفكري، ويقدمون أبحاثهم اللغوية والعلمية، ويستفيدون من فطاحل اللغة العربية في هذه المجامع العلمية، ويفيدونها بما لديهم من خلفيات لغوية، من حيث قواعد اللغة وفقهها [2] . جرى في هذه المرحلة تكريم المستشرقين واستقبالهم والاحتفاء بهم، ورثاء "تأبين" المتوفى منهم، وعرض كتاباتهم والحوار معهم على صفحات الدوريات الثقافية والعلمية، وربما مع شيء مِن المبالغات في التكريم والرثاء [3] ، حتى انتقد عبدالقدوس الأنصاري هذا الموقف، وعاب على بعض منتقدي المستشرقين بأن نقدهم مال إلى التأييد أكثر من كونه نقدًا علميًّا [4] ، مما يعني ضعف الثقة ببعض منتقدي الاستشراق. [1] انظر: كتاب أضواء على السنة المُحَمَّدية لمحمود أبو ريَّة، وردِّ مُحمَّد مُحمَّد أبو شهبة: دفاع عن السنة وردّ شُبه المستشرقين والكُتَّاب المعاصرين، القاهرة: مطبعة الأزهر، 1383هـ / 1967م، ص 6 - 7. [2] انظر: نذير حمدان: مستشرقون سياسيون، جامعيون، مجمعيون، الطائف: مكتبة الصديق، (1408هـ / 1988م)، 265ص. [3] انظر مثلًا: إبراهيم مدكور. المرحوم الأستاذ لويس ماسينون، مجلَّة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ع 17 (شوَّال 1383هـ - يناير 1964م)، ص 111 - 119. [4] انظر: عبدالقدوس الأنصاري. نقدٌ في الظاهر للمبشِّرين والمستشرقين وتأييدٌ لهم في الباطن، رابطة العالم الإسلامي، مج 5 ع 1 (1387هـ - 2 / 1967م)، ص 31 - 32.
الجرح النازف فلسطين الجرح النازف في قلب الأمة المسلمة، التي كانت ضحية مخططات ومؤامرات خارجية وداخلية، في كتابه الرائع "كارثة فلسطين: الحقيقة والمؤامرة"، يكشف الحاج "محمد أمين الحسيني" عن طرف من هذه الأسرار، باعتباره شاهدَ عِيانٍ على ضياع فلسطين، ورجل صدق يُؤتَمن على ما يذكره؛ حيث طُبِع الكتاب لأول مرة عقب وقوع كارثة فلسطين بإعلان قيام إسرائيل سنة 1948، ويحمل صفات صاحبه الذي عايش وشاهد وجاهد وأخلص، حتى لقِيَ ربه. • يقول مقدم الكتاب الأستاذ هشام عوَّاض: وهذا الكتاب من الكتب النادرة التي تشفي غليل القارئ الغيور في الرد على الاتهامات التي لا تزال تتردد إلى الآن عن الفلسطينيين، مشككة في وطنيتهم وانتمائهم، وتطمس على جهادهم واستشهادهم، مما يدل على وجود أيدٍ خفية تبث سموم هذه الدعايات الصهيونية الإسرائيلية، وتمنع المصل الواقيَ والترياق الشافي من الوصول للفلسطينيين أنفسهم، وللعرب وللمسلمين وللناس في العالم كله. • وهو كتاب فريد في بابه يكشف أسرارًا لم تُنشَر في غيره، وحقائقَ غيَّبتها أصوات نفير الدعاية الصهيونية العالمية... كما أنه ينفرد بتشخيص الداء "الكارثة"، ويصف له العلاج الناجع من واقع تجرِبة صاحبه مع الأحداث التي أفنى فيها عمره. الفلسطينيون لم يفرطوا في أراضيهم: أكثر الأراضي التي اشتراها اليهود كانت تمتلكها أسرٌ إقطاعية من خارج فلسطين؛ لبنانية وسورية؛ كآل سرسق، وآل سلام، وآل التيان، وآل الصباغ، وآل الجزايرلي، وآل شمعة والقوتلي؛ يقول الدكتور "روبين آرثر" من رجال الوكالة اليهودية أمام إحدى لجان التحقيق: "إن تسعة أعشار الأراضي التي اشتراها اليهود حتى عام 1929م، اشتُرِيت من مالكين غير فلسطينيين، يعيشون خارج فلسطين". • إن الفلسطينيين قد حرصوا على أراضيهم كل الحرص، وحافظوا عليها رغم الإغراءات المالية الخطيرة من قِبَلِ اليهود، ورغم الضغط الاقتصادي عليهم بمختلِف الوسائل من قِبل الإنجليز. ومنذ تأسيس المجلس الإسلامي الأعلى الذي انتخبه الفلسطينيون لإدارة المحاكم الشرعية والأوقاف والشؤون الإسلامية في فلسطين عام 1922م، قام بأعمال عظيمة لصيانة الأراضي الفلسطينية من الغزو اليهودي، فمنع بواسطة المحاكم الشرعية التي كان يشرف عليها بيعَ أو قسمة أي أرض كان للقاصرين نصيبٌ فيها، وكذلك اشترى المجلس من أموال الأوقاف الإسلامية كثيرًا من الأراضي التي كانت عُرضة للبيع، وأقرض كثيرًا من أصحاب الأراضي المحتاجين قروضًا من صناديق الأيتام؛ ليصرفهم عن البيع، وكان يعقد مؤتمرًا سنويًّا من العلماء ورجال الدين؛ لتنظيم وسائل المقاومة لليهود الطامعين في الأراضي. وقد بذل المجلس الإسلامي الأعلى مبالغَ طائلة في سبيل إنقاذ الأراضي، واشترى بعض القرى برمتها، وبذل جهودًا عظيمة، وأقام قضايا في المحاكم في هذه السبيل، ووُفِّق في إقناع كثير من القرى ببيع أراضيها إلى المجلس الإسلامي الأعلى، وجعلها وقفًا على أهلها. على أن الكثير ممن باعوا أراضيهم، أو كانوا سماسرة للبيع، قد فتك بهم الشعب الفلسطيني، ولم ينجُ منهم إلا من فرَّ مِنَ البلاد، ولجأ إلى أقطار أخرى. • ومؤتمرات العلماء التي كنا نعقدها سنويًّا، وكذلك الهيئات الدينية كانت تصدر الفتاوى بتكفير من يبيع الأرض، أو يسمسر على بيعها، وتعتبره مرتدًّا لا يُدفَن في مقابر المسلمين، وتجب مقاطعته، وعدم التعامل معه، وقد أصدر مؤتمر "كهنة الأرثوذكس العرب" في فلسطين قراراتٍ مماثلة. • ما انفك الإنجليز – منذ احتلالهم فلسطينَ - يساعدون اليهود بمختلف الوسائل على التسليح والتدريب والتنظيم العسكري، في الحين الذي كانوا يحرمون فيه جميع ذلك على عرب فلسطين، بل يحكمون بالإعدام على من يحوز أي نوع من السلاح والعتاد، حتى إن وزير المستعمرات البريطانية مستر "كريتش جونز" اعترف في تصريح له في مجلس العموم البريطاني أن "الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية البريطانية بالإعدام شنقًا من العرب؛ لحيازتهم أسلحة أو ذخيرة، كانوا 148 شخصًا"؛ هذه بضعة ألوف فتك بهم الإنجليز خلال ثورات 1936-1939م. • فلما اشتد ساعد اليهود بالسلاح والتدريب والتعضيد البريطاني، قاموا بمحاولتهم الثالثة؛ وهي الوصول إلى أهدافهم عن طريق القوة، وظهرت هذه المحاولة بجلاء في اعتداءات اليهود عام 1929م، 1939م، 1947م، وغيرها. ولكن عرب فلسطين على قلة وسائلهم صدُّوهم ببسالة، وهزموهم شرَّ هزيمة في جميع المعارك، على رغم مساعدة الإنجليز لهم، وحشدهم القوات العسكرية البريطانية بقيادة مشاهير قوَّادهم؛ كالجنرال "دل"، والمارشال "ويفل"، وغيرهما، لخَضْدِ شوكة عرب فلسطين. ولما سُقِط في أيدي الإنجليز واليهود معًا، ويئسوا من ترويض عرب فلسطين، وإخضاعهم بالوسائل المذكورة آنفًا، عمدوا إلى أساليبَ أخرى كان سلاحهم فيها الخداع والدهاء؛ ما أدى إلى وقوع كارثة فلسطين. وشارك في هذا الخداع وهذا التضليل بعض ملوك العرب وأمرائهم، فبعد أن قبِلَ شريف مكة الحسن بن علي تفسير "هوجارت" المضلل والخادع لوعد بلفور عام 1918م، تدخلوا مرة أخرى لإنهاء إضراب وثورة 1936م، وإعادة الثقة في بريطانيا. • تهمةُ أنَّ عرب فلسطين لم يدافعوا عن بلادهم هي فرية لا ظلَّ لها من الحقيقة؛ فالناس جميعًا يعلمون كيف كافح أهل فلسطين اليهود والإنجليز معًا، مدة ثلاثين عامًا، لم يُقهَروا خلالها قط، مع كثرة القوات البريطانية، وقوات الشرطة المحتلة، وقوى اليهود المنظمة. ومن ذلك ما قاله هتلر من أنه مُعجَب كل الإعجاب بكفاح عرب فلسطين وبسالتهم، وكذلك جاء في بيان رسمي وجَّهه هتلر إلى الألمان في السوديت: "اتخذوا - ألمان السوديت - من عرب فلسطين قدوة لكم، إنهم يكافحون إنجلترا أكبر إمبراطورية في العالم، واليهودية العالمية معًا، ببسالة خارقة، وليس لهم في الدنيا نصير أو مساعد، أما أنتم، فإني أمدكم بالمال والسلاح، وإن ألمانيا كلها من ورائكم". • وقد جاء في كتاب ألَّفه الجنرال "ولسون" الذي اشترك في المعارك ضد عرب فلسطين، ذِكْرٌ مستفيض لبطولة عرب فلسطين، خلال المعارك الدامية التي جاهدوا فيها القوات البريطانية؛ إذ ذكر ما خلاصته: "إن خمسمائة من ثوَّار عرب فلسطين يعتصمون في الجبال، ويقومون بحرب عصابات، لا يمكن التغلب عليهم بأقل من فرقة بريطانية كاملة السلاح؛ [أي: خمسة عشر ألفَ جنديٍّ]". • وفي الحرب العالمية الأولى عندما صمد لواء واحد من الجيش العثماني مؤلَّف من أقل من ثلاثة آلاف جندي فلسطيني، في وجه فرقتين بريطانيتين أمام غزة، وكبَّدهما خسائر فادحة، وأرغمهما على التقهقر حتى العريش عام 1917م، وأصدر أحمد جمال باشا القائد التركي - الذي اشتهر بخصومته للعرب - بيانًا رسميًّا أشاد فيه بالشجاعة الفذة التي أبداها أولئك الجنود الفلسطينيون في غزة، أمام أضعاف أضعافهم من جنود الأعداء، وإنها لَبسالة خارقة تذكِّر بالشجاعة التي أبداها آباؤهم من قبلُ، عندما حَمَوا هذه البقاعَ المقدسة بقيادة صلاح الدين الأيوبي. براعة الفلسطينيين في حرب العصابات: ولا شك أن كل مُنْصِفٍ يعترف بأن مجاهدي فلسطين لم يُغلَبوا على أمرهم، ولم يُقهَروا في ميدان الكفاح، حينما كانوا يحاربون اليهود والإنجليز معًا حربَ العصابات التي حَذَقُوها، التي هي أجدى وأنجع من مكافحة الجيوش النظامية، وأعظم أثرًا وأقل نفقة، وبحرب العصابات القائمة على أسس التضحية والاستماتة والبسالة، استطاع الفلسطينيون أن يقضُّوا مضاجعَ أعدائهم أمدًا طويلًا، وأن يُنزِلوا بهم الخسائر الفادحة، واستطاعت حركة الجهاد الفلسطيني في أعوام 36 و37 و38 و1939م أن تسيطر على معظم الأراضي الفلسطينية، بل عليها كلها، إذا استثنينا قليلًا من المدن التي انحصر الجنود الإنجليز داخلها وقتًا غيرَ قليل في انتظار النجدات. الإنجليز يسلِّحون اليهود ويدرِّبونهم: وفي الحوادث الأخيرة ظن الإنجليز الذين جرَّدوا أهلَ فلسطين خلال الحرب العالمية الثانية من أسلحتهم، وشرَّدوا قادتهم، وسجنوا الألوف من مجاهديهم، وأرهقوهم ظلمًا وعدوانًا، كما يفعلون اليوم في المكافحين من رجال ماو ماو، في الوقت الذي كانوا يسلحون فيه اليهود ويدربونهم، وينظمونهم ويساعدونهم بواسطة هيئة عسكرية إنجليزية، كان يرأسها القائد "وينجت" المعروف - ظن الإنجليز أن كِفَّةَ اليهود الحربية أصبحت راجحة، وأن في استطاعتهم أن يتسلموا فلسطين حسب وعد بريطانيا القديم لهم، فأعلنت بريطانيا أنها ستنسحب من فلسطين، ولكن أهل فلسطين على رغم ضعف وسائلهم عامي 1947 - 1948 قاموا بكفاح شديد، أُرْغِمَ به يهود القدس وعددهم نحوه 115 ألفًا على رفع رايات التسليم، بعد أن أرهقوهم وحسروهم، وقطعوا عنهم الماء والعتاد، وقد توسطت الهيئة الدبلوماسية في القدس حينئذٍ، وجاءت بعثة من بعض أعضائها إلى دمشق في مارس 1948 م؛ لمفاوضة الجامعة العربية والهيئة العربية العليا في هذا الأمر. • يقول الكاتب فلسطين ناصر النشاشيبي: "إن ضرب المناطق اليهودية المكتظة بالسكان كفيل بأن يدفع مئات الآلاف إلى الهروب، أسلوب (اضرب واهرب)، مع عمليات نسف وإرهاب فدائيين، بحيث لا يبقى جسر ولا نفق، ولا خط حديدي، ولا إذاعة، ولا خزان مياه، ولا محطة كهرباء، ولا مصنع، قد نجح في السابق، وسوف ينجح في اللاحق". تفوق العرب في المعارك على اليهود: وفي غضون ذلك كانت المعارك الكبيرة ناشبة بين العرب واليهود؛ ففي مكان يُعرَف بالدهيشة بين القدس والخليل نشبت معركة كبيرة في 17 مارس سنة 1948 قُتل فيها بضع مئات من اليهود، ووقع منهم 350 أسيرًا، وغنِم المجاهدون أسلحتهم وذخائرهم، ونحو 150 سيارة كان قسم كبير منهم من المصفحات والمدرعات، ووقعت معارك صوريف وبيت سوريك وسلامة ويافا، ومعارك أخرى في المنطقة الشمالية، قهرت فيها العصابات الفلسطينية اليهودَ وهَزَمَتْهُم. • في تلخيص الوضع القتالي ذلك الوقت؛ قال رئيس شعبة العمليات في هيئة أركان الهاجاناه، في تقريره الذي قدمه في أول أبريل 1948 م: "يجب أن نذكر أن كل مراحل المعركة حتى الآن قد أملاها علينا العدو، ولم نتمكن حتى الآن من التأثير على المجرى الإستراتيجي والعملياتي للمعركة، التي تطورت من مجرد أحداث وصدامات إلى حرب بين قوتين شبه نظاميتين، والحل الوحيد هو أخذ زمام المبادرة العملياتية بأيدينا، ونحن نتطلع إلى إحراز نصر حاسم عسكري ضد العدو". • ولما شرع اليهود في استعمال المتفجرات، وعمدوا إلى النسف، قابلهم المجاهدون بما هو أدهى وأمَرُّ؛ فنسفوا عمارة بالستين بوست، والوكالة اليهودية، وشارع بن يهودا برمته، ومحلة المنتفيوري، وغيرها؛ مما قصم ظهر اليهود، وجعلهم يطالبون بالعدول عن حرب المتفجرات. وقد أبدى المجاهدون الفلسطينيون من البسالة والتصميم والتضحية ما ضمِن لهم التفوق ورجوح الكفة على اليهود، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت بواسطة مندوبها في الأمم المتحدة في 23 مارس سنة 1948 عدوله عن تأييد قرار تقسيم فلسطين، وقد وقعت جميع هذه الحوادث قبل أن تدخل الجيوش العربية فلسطين. 12 ألف شهيد في فلسطين: وقد بلغ عدد الذين استشهدوا من أهل فلسطين في ميادين الجهاد نحو 12 ألف شهيد، وبلغ عدد مَن أُصيب منهم بجراحات وعاهات دائمة ضعف العدد، وهذا بالإضافة إلى ألوف من السكان المدنيين، ولا سيما من الشيوخ والنساء والأطفال الذين قتلهم اليهود والمستعمرون، كما أن خسائرهم المادية إلى ما قبل نشوب الحرب العالمية الثانية تقدر بعشرات الملايين من الجنيهات، فإن السلطات البريطانية نسفت أقسامًا برمتها من مدن يافا واللد، وعشرات من القرى العربية، وأتلفت مزروعات أهلها ومواشيهم وممتلكاتهم. المؤامرة الإنجليزية لإبعاد الفلسطينيين عن ميدان القتال: ولما رأى الإنجليز واليهود هذا الجِدَّ والتصميم والاستماتة من عرب فلسطين، وأن حرب العصابات تزداد توسعًا واندلاعًا وأن أمَدَها سيطول، وستكون لها نتائج خطيرة في إثارة الشرق العربي والعالم الإسلامي - لجؤوا إلى الحيلة لوقف حرب العصابات، وإبعاد المجاهدين الفلسطينيين عن ميدان المعركة؛ لأنهم بطبيعة الحال أشد العناصر العربية تصميمًا على القتال، واستماتة في الذَّوْدِ عن وطنهم وأنفسهم وممتلكاتهم، فعمد الإنجليز إلى تعديل خطة الدول العربية التي كانت قررت في اجتماع "عالية - لبنان"، في السابع من أكتوبر عام ١٩٤٨م أن يكون المعوَّل في حرب فلسطين على أبنائها، وأن تمدهم الدول العربية بالأسـلحة والأموال، وما إلى ذلك من وسائل المساعدة، وألَّا تدخل الجيوش العربية النظامية فلسطينَ، ولكني عندما شعرت في ذلك الحين برغبة بعض الشخصيات العربية الرسمية في إدخال الجيوش العربية فلسطين، وباندفاعها في هذه السبيل، أوجستُ في نفسي خيفة، وأبديتُ ارتيابي وخشيتي من أن تكون وراء ذلك دسيسة أجنبية، وعارضت في هذا معارضة شديدة. ولم تكن الدول العربية موافقة على إدخال جيوشها إلى فلسطين، ولكن تيار الضغط الأجنبي على بعض الشخصيات المسؤولة في الدول العربية، في ذلك الحين، كان بدرجة من الشدة اجتاح معها كل معارضة، ودخلت الجيوش العربية، وكانت مصر من أشد الدول معارضة لدخول جيشها في الحرب، ثم دخلت بتأثير دوافع متعددة، كما ظهر في المحاكمات الأخيرة أمام محكمة الثورة، فقد قِيل في صدد دخول الجيش المصري حرب فلسطين: "إن المرحوم النقراشي أسرَّ إلى أحد كبار المصريين وقتئذٍ - ليهدئ من روعه ومعارضته - أن الإنجليز متحمسون لدخولنا الحرب، وأنهم وعدوه بمدِّ الجيش المصري بالأسلحة والذخيرة التي يحتاج إليها ". • إن فكرة الجامعة العربية وفكرة دخول الجيوش العربية في ذاتهما فكرتان لا غبار عليهما، إن كانتا في إطارهما الإسلامي الجامع، أما اجتماع القوالب مع تفرق القلوب، فهو الضلال المبين والخسران، والهزائم والنكسات؛ ذلك أن دخول جيوش الدول العربية الخمس في آنٍ واحد، مع عدم التنسيق بينها، وجعل القيادة العامة في يد الملك عبدالله بن الحسين، عديمِ الخبرة العسكرية، واستعانته بقائد الجيش الأردني الجنرال البريطاني "چون یاجوت جلوب"، كمستشار فعلي وحيد، وغيرها من عوامل الخذلان، جعلت السيد محمد أمين الحسيني يتوجس خيفة، وقد تحققت مخاوفه. الجيوش العربية تحت قيادة جنرال إنجليزي ! فلما دخلت الجيوش العربية فلسطين، سلَّمت قيادتها العملية إلى الجنرال "جلوب" الإنجليزي، وصدر أمر الملك عبدالله "بإلغاء منظمة الجهاد القدس الفلسطينية [حركة مقاومة عسكرية سرية قامت بدورها في الثورات الفلسطينية العديدة ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني، خاصة عام ١٩٤٧م تحت قيادة عبدالقادر الحسيني، وكانت قوته الضاربة قوامها 5-7 آلاف رجل، بالإضافة إلى مجاهدين مقيمين في قراهم، يبلغ عددهم ١٠ آلاف رجل، وكان وراء قرار حل المنظمة جلوب باشا!]، وجميع القوى والعصابات التابعة لها"، وإلغاء "جيش الإنقاذ" المؤلف من المتطوعين، وطلب إلغاء الهيئة العربية العليا لفلسطين، ووُضِعت خطة محكمة لإبعاد الفلسطينيين عن میدان الجهاد والسياسة، وكل ما يتعلق ببلادهم ومستقبلهم وحياتهم. • والملك عبدالله هو ابن الشريف الحسين بن علي أمير الحجاز، والشقيق الأصغر للأمير فيصل الكبير؛ ملك الأردن ومؤسسها، وُلِد بمكة، قاد في الحرب العالمية الأولى حملات المساعدة لبريطانيا في شبه جزيرة العرب، اختارته بريطانيا أميرًا على شرق الأردن عام ۱۹۱۹م، ومنحته استقلالًا ذاتيًّا عام ١٩٢٣م، ومنحته معونة سنوية قدرها ۱۸۰,۰۰۰ جنيه إسترليني، مع تعهده باحترام التزامات بريطانيا الدولية تجاه فرنسا، والحركة الصهيونية، وضم الجزء الغربي من فلسطين على أساس التقسيم، اتخذ لقب ملك المملكة الأردنية الهاشمية عام ١٩٤٦م، واغتيل عام ١٩٥١م على باب المسجد الأقصى بواسطة خياط فلسطيني. دعايات مضللة وتهم باطلة تُذاع عن فلسطين: ولتبرير إبعاد الفلسطينيين عن ميدان المعركة، قامت دوائر المخابرات البريطانية واليهودية، وغيرها من الدوائر الموالية لها، بدعايات واسعة مضلِّلة، وإشاعات مبطِلة عن الفلسطينيين، تكيل لهم فيها جُزافًا أفظع التُّهَم؛ من تجسسهم على الجيوش العربية، وبيعهم جنودها وضباطها لليهود، ونحو الأكاذيب التي لا ظل لها من الحقيقة، ولا يعقل أبدًا أن يرتكبها الفلسطينيون الذين هم أعظم الناس مصيبة باليهود والاستعمار، وأشدهم حَنَقًا عليهما، واستغل الخصوم بعض حوادث التجسس التي كان يقوم بها أفراد من اليهود نشؤوا في البلاد العربية، وحذقوا لغتها وعاداتها، وقد بثَّتهم دوائر الاستخبارات اليهودية في كل الجهات، وهم يرتدون الثياب العربية، حتى ظُنَّ أنهم من عرب فلسطين. على أن أهل فلسطين كغيرهم من الشعوب، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ولا يبعد أن يكون بينهم أفرادٌ قصَّروا، أو فرطوا، أو اقترفوا الخيانة، ولكن وجود أفراد قلائل من أمثال هؤلاء بين شعب كريم مجاهد كالشعب الفلسطيني، لا يدمَغُ هذا الشعب، ولا ينتقص من كرامته، ولا يمحو صفحة جهاده العظيم. • إن التطورات والأحداث التي حدثت في العالم العربي بعد كارثة فلسطين، لا سيما بعد ثورة مصر في ٢٣ يوليو تموز ١٩٥٢م، كانت كفيلة بإظهار الحقائق سافرة للأمة العربية، رغم ما بذله المستعمرون واليهود وأولياؤهم وصنائعهم المأجورون من جهود كبيرة؛ لتظل تلك الحقائق خافية عن الشعوب العربية والإسلامية، وإن تقلُّص نفوذ الاستعمار في العالم العربي، ونمو القومية العربية، قد أسكت كثيرًا من أبواق الدعاية المضللة، وأخرس كثيرًا من ألسنة السوء التي أطلقها الأعداء لتشويه صفحة جهاد عرب فلسطين.
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ.. وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين، ثم نفخ فيه من روحه، قال تعالى: ﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7]، وقال للملائكة: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [ص: 72]، فكان أعظم تكريم للإنسان، وأعظم تفضيل له من الله هي تلك الروح التي نفخها الله في الإنسان، فهي نفخة من الله لا يعلم مكنونها إلا هو، لذلك جاء الأمر للملائكة، بالسجود، تكريمًا لهذه الروح، فهي من أمر الله. وأضاف - سبحانه - الروحَ إلى ذاته، للإِشعار بأن هذه الروح لا يملكها إلا الله تعالى، وأن مرد كنهها وكيفية هذا النفخ، مما استأثر - سبحانه - به، ولا سبيل لأحد إلى معرفته، كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85]. وحتَّى نتصور عمل الروح في تكوين الإنسان، وبعض خصائصه نتدبر ما يلي: عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثلاثٍ: عن النائم حتى يَسْتَيْقِظَ، وعن الصبي حتى يَحْتَلِمَ، وعن المجنون حتى يَعْقِلَ "؛ [صحيح: رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد]. أي أن النائم غير مكلف ولا مسئول في هذه الحالة... لماذا؟ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 60]. فهو سبحانه الذي يقبض أرواحكم بالليل بما يشبه قبضها عند الموت. ففي هذه الحالة الروح قد قبضت من الإنسان، رغم أن الإنسان يتنفس، ويجري فيه الدم وقد يتحرك بتقلبه وهو نائم؛ أي أن في الإنسان حياة في هذه الحالة. يقابل هذه الحالة وهو جنين في بطن أمه - قبل نفخ الروح - ففي الحديث: عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) )؛ رواه البخاري ومسلم. أي أن نفخ الروح في الجنين يكون بعد 120 يومًا؛ أي بعد أربعة أشهر، وفي هذه المدة الزمنية فإن الجنين في بطن أمه ينمو، وينبض قلبه ويجري فيه الدم، ويتحرك، وتشعر الأم بحركته في بطنها، وبالكشف عليه بالأشعة يتم مشاهدة كل ذلك، أي أن الجنين فيه حياة من قبل نفخ الروح. من هذا يتضح لنا أن هناك فرقًا بين الحياة والروح في الإنسان، وهذا ما تأكده الآية: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]. وقد اكتشف الإنسان بالعلم أن كل خلية حية (نباتية أو حيوانية) بها برنامج خاص ببداية حياة الخلية ونهاية حياتها، فالفيروسات، والمكروبات، والفطريات، كلها خلايا حية، أما الحيوان ففيه حياة ولا نستطيع أن نقول أكثر من ذلك. ولبيان عظم دور الروح في الإنسان نقرأ قول الله تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]. انظر روعة هذه الآية التي يتوجه فيها رب العالمين إلى البشرية بكلياتها بنداء يا بني آدم، ولم يقل يا أيها الناس، إشارة إلى بداية خلقهم، وتفضل ربهم عليهم بأن ألبس أجسادهم التي خلقت من طين الأرض لباس الروح التي أنزلها عليهم من عليين رفعة وصلة بربهم. فهذه الروح التي نفخها الله في الإنسان تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع (الجسد الذي به حياة) في الإنسان إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم، منذ بدء التكوين، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلافة في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى؛ وتجعله أهلا للاتصال بالله، وللتلقي عنه، ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، التي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات. ولذلك عبر الله عن هذا اللباس بلباس التقوى، وأن هذا اللباس خير للإنسان عندما يستجيب لربه ويتبع هداه ويتذكر هذا دائمًا، ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، فينزعه عنه كما فعل من قبل مع أبويه فأخرجهما من الجنة؛ قال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 27]. وهنا يتبين أن للإنسان تكوينًا حيويًّا وتكوينًا روحيًّا، ولابد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية (الروح) التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين. والتفاعل بين خصائص العناصر الطينية فيه (الجسد) والعناصر العلوية (الروح) هو المطلوب من الإنسان أن يحققه ويبلغه وفق منهج الله الذي وضعه الله له من الأفق الأعلى، وهو الكمال البشري المقدر له، فليس مطلوبًا منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ليكون ملكًا أو ليكون حيوانًا، وليس واحدٌ منهما هو الكمال المنشود للإنسان، والحكمة التي من أجلها خُلق هذا الإنسان تتمثل في قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]. فالمطلوب مني كإنسان أن أكون متجردًا تجردًا كاملًا لخالقي ورازقي بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في هذه الحياة، إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة، وبالمحيا والممات، وبالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
مع شيخنا نور الدين عتر (1356- 1442هـ / 1937- 2020م) شيخنا الجليلُ الدكتور نور الدين عتر أحدُ كبار علماء الحديث وعلوم القرآن في عصرنا، وكان من جميل صُنع الله بي أن شرُفت بالدراسة عليه في جامعة دمشق ، فانتفعتُ وزملائي كثيرًا بعلمه ونُصْحه، واستقامته وصفاء نفسه، وتواضُعه ونقاء سريرته، وتركَ في ضمائرنا أثرًا طيِّبًا لا يُمحى، وذكرياتٍ مشرقةً لا تَبلى! وهو بحقٍّ من العلماء العاملين، والزاهدين المخلصين، لم يُبالِ بدنيا ولم يسعَ إلى شُهرة، ولكنَّ الله تعالى ساقها إليه سَوقًا، فكتبَ لنتاجه شُهرةً واسعة، وقَبولًا بين طلَّاب العلم والمتخصِّصين حسنًا. وعُرف الشيخ بنزاهة السيرة فلم يتملَّق حاكمًا، ولم يتزلَّف إلى مسؤول، بل كان ينأى بنفسه عن أيِّ موطن قد تزلُّ فيه قدمُه كما زلَّت أقدامٌ وأقدام! ♦♦ ♦♦ ♦♦ درَّسَنا في السنة الثانية من دراستنا الجامعية (العام الدراسي 1992- 1993م) مادَّتَي علوم القرآن وعلوم الحديث ، في قسم اللغة العربية من كلِّية الآداب. وكنت بفضل الله مبرِّزًا في المادَّتين، واقترحتُ عليه أن يكرِّمَ جميع طلَّابه المتفوِّقين بتقديم نسخ من كتبه إليهم، فلقيَ اقتراحي رضًا عنده، وكان نصيبي من التكريم نسخةً من كتابه ( السنَّة المطهَّرة والتحدِّيات ) أعتزُّ بها جدًّا، وزاد أن غمرَني بفضله بكلمات إهداء خصَّني بها دون سائر الزملاء، قال فيها: (هدية تقدَّم إلى السيد أيمن ذو الغنى لتفوُّقه في دراسة علوم القرآن، وفَّقَه الله وفتح عليه آمين). وما خلَّف الشيخُ من مؤلَّفات وتحقيقات يدلُّ على عقل علمي منظَّم، وعلى بصيرة منهجية وأمانة ودقَّة، وهي كلُّها مُحكَمة نافعة، ولتعرفوا فضلَ تحقيقاته عارضُوها بسواها من التحقيقات، ووازنوها بنظائرها من النشَرات والإخراجات. من ذلك مثلًا: كان شرَعَ شيخُنا المحدِّث د. سعد بن عبد الله الحميِّد قديمًا في تدريس كتاب ( شرح علل الترمذي ) لابن رجب الحنبلي، هنا في الرياض، وكان يعتمد على الطبعة التي حقَّقَها شيخنا عتر، وبعضُ طلبة العلم كانت معهم نسخٌ من طبعة الشيخ د. همَّام سعيد، وكانوا يُشيعون أن طبعة همَّام أفضلُ من طبعة عتر! ولكن بعد أن قطع شيخُنا سعد شوطًا في تدريس الكتاب قال لي: شتَّانَ بين الطبعتين، طبعةُ د. عتر أعلى وأصحُّ وأدقُّ من طبعة د. همَّام. وكان لي بفضل الله شرفُ المشاركة في تصحيح تجارِب تلك الطبعة المتقنة، وحين كلَّفني شيخُنا عتر تصحيحَها قال لي: (ابذُل جهدك في التصحيح وكأنك تراجع مصحفًا، لا أريد أن يقعَ فيها أيُّ خطأ)! وكذلك تحقيقه لـ ( مقدِّمة ابن الصلاح )، هو بلا ريب أعلى بكثير من تحقيق الشيخ د. مصطفى البُغا، بل لا مجالَ للمقارنة بينهما، وأيضًا تحقيقه لكتاب الإمام النووي ( إرشاد طلَّاب الحقائق إلى معرفة سُنن خير الخلائق ).. إلخ. وهو حريصٌ على طلَّابه يسعى في حوائجهم، ويساعد المُعسِرين منهم بما يقدِرُ عليه، وكان شَمِلَني بكرمه كما شَمِلَ سواي، جزاه الله عنِّي خيرًا. ♦♦ ♦♦ ♦♦ ومن تمام نعم الله عليَّ أن نلتُ لدى الشيخ حُظوةً ومنزلة، فقرَّبني منه وأدناني، وجعلني كالعريف على طلَّاب دفعتنا، وصِلةَ الوصل ما بينه وبينهم، أوزِّعُ عليهم موضوعات حلَقات البحث بإشرافه، وأتسلَّم منهم الحلَقات بعد إنجازها. وإذا ما عرضَ له عارضٌ اضطرَّه إلى الغياب اتصل بي فأبلغَني، وطلب إليَّ أن أُعلمَ الطلَّابَ لئلَّا يُضيعوا وقتَهم في انتظاره. بل بلغت ثقتُه بي مبلغًا جعله يضعُ في يدي نسخةً من مفتاح مكتبه في الجامعة، فكنت أصلِّي فيه صلاةَ المغرب حين تتأخَّر محاضراتُنا إلى المساء. ♦♦ ♦♦ ♦♦ وأشهد أن الشيخ على شدَّته في الحقِّ وصَرامته فيه، كان حليمًا رفيقًا رقيقًا، وكم اعترضتُ على آراءٍ له لم أستَسِغها، أُراه جنحَ فيها عن جادَّة العلم والدليل! وكم جادلتُه للوصول إلى يقين في حُكم حديثي، أُراه خالفَ فيه المقرَّرَ من قواعد علم المصطلح، ممَّا قد يُفضي إلى تعطيل هذا العلم وجعله علمًا نظريًّا مَحضًا لا حقيقةَ له في التطبيق العملي! فكان يقابل ذلك مني بسَعة صدر، وبإطراقٍ وصمتٍ لا يزيداني إلا حَيرة! وقد بقيت صِلتي به على مدار السنين متينةً وثيقة، أتصلُ به من الرياض، وأزوره في إجازاتي بدمشق في بيته وفي كلِّية الشريعة. ♦♦ ♦♦ ♦♦ ومن المواقف الطريفة لي معه: أنه دعاني في صيف عام 1421هـ/ 2000م دعوةً كريمة لتناول الغداء في بيته، بحضور شقيقه الشيخ ضياء الدين عتر رحمه الله، والشيخ علي البِقاعي من لبنان، ولمَّا وصلتُ أعلمتُه أني لمَّا أُصَلِّ الظهرَ وأريد الوضوء، وشرَعتُ أخلع جَورَبَيَّ، فإذا به يسألني: ألم ترتَدِهما على وضوء؟ قلت: بلى، قال: فلمَ تخلعُهما؟ امسَح عليهما! استغربتُ قوله فإني أعرف تمسُّكَه الشديدَ بمذهبه الحنفي، ولكنِّي قلت: حسنًا، وهمَمتُ بالمُضيِّ إلى المَغسلة بجَورَبَيَّ، فنهَرني بنبرة تجمع بين الجِدِّ والمُزاح، قائلًا: اخلع اخلع، إنما كنت أختبرك! وعقب الغداء أسعدَني بأن أهدى إليَّ نسخةً من كتابه ( أصول الجرح والتعديل وعلم الرجال )، وطوَّق عُنقي بجزيل كرمه فيما كتب لي من إهداء قال فيه: (إلى الأخ الوفيِّ الأستاذ أيمن ذو الغنى مع أخلص التمنِّيات). ♦♦ ♦♦ ♦♦ وأختم كلمتي هذه بموقف جليل لا أنساه له أبدًا: في عام 1421هـ/ 2000م كنت توسَّطتُ بين الشيخ وإحدى دور النشر السعودية لطبع تحقيقه لكتاب ( شرح علل الترمذي ) لابن رجب الحنبلي، وطلبت وِزارةُ الإعلام السعودية بعضَ الأوراق الرسمية من المحقِّق لضمان حقوقه، كنت أتولَّى إخراجها بنفسي، واضطُررت يومًا إلى الحصول على توقيعه على خطاب تفويضٍ للدار الناشرة، وينبغي أن يُختَم التفويضُ بعد التوقيع من وِزارة الخارجية السورية. وكان الإخوةُ في السعودية يستعجلوننا في إرسال جميع الأوراق، والشيخ حريصٌ جدًّا على إنجاز الأمر. فذهبتُ إليه على عجَل وقرعتُ بابه ففتح لي، وطلبتُ إليه توقيعَ الخطاب، وقلت له: إني مستعجل جدًّا، عليَّ أن أدركَ وِزارةَ الخارجية فهم يغلقون مبكِّرًا. وفي هذه الأثناء رُفعَ صوتُ المؤذِّن يعلن دخولَ وقت الظهر، فأغلق الشيخُ بابَ بيته وخرج دون أن يُوقِّعَ الخطاب! ولحِقتُ به وأنا أقول له: شيخنا تكرُّمًا وقِّع الخطابَ كي ألحقَ الوِزارة، ولكنَّه مضى بهدوءٍ ووَقارٍ دون أن يجيبَ بحرف، وكأنني لا أكلِّمه! ولم أملك إلا أن أمضيَ وراءه متحيِّرًا، وهو صامتٌ تمام الصَّمت! حتى دخل المسجدَ القريب من بيته في حيِّ المُهاجرين، وصلَّى تحيَّةَ المسجد، ثم أربع ركَعات سنَّةً قبلية، وجلس يذكر الله حتى أقيمت الصلاة، وبعد الصلاة جلس يذكر الله زمنًا، ثم قام وصلَّى أربع ركَعات سنَّة بعدية، ثم خرج من المسجد بسَكينة واطمِئنان، وكان الوقتُ قد فاتَ ولا يمكنني أن أُدركَ الوِزارة! فتبعتُه، وهو في كلِّ ذلك لا يزال صامتًا لا يكلِّمني، بل لا يلتفت إليَّ، حتى وصل إلى بيته فحينئذٍ التفتَ إليَّ وقال: (يا ابني، الصلاةُ خير موضوع، ولا شيءَ أهمُّ من الصلاة، فإذا دخل وقتُها فدَع عنك كلَّ المشاغل مهما كانت مهمَّة وامضِ إلى الصلاة. كلُّ شيء يؤخَّر إلا الصلاة!). لقد كان درسًا عمليًّا تربويًّا جليلًا من الشيخ، يدلُّ على ورَعه وصدق التزامه، وحِرصه ونُصْحه. جزى الله عنَّا شيخنا نور الدين عتر خيرَ الجزاء، ولقَّاه يومَ الحساب نضرةً وسرورًا. وكتب أبو أحمد المَيداني أيمن بن أحمد ذو الغنى جُدَّة 28 من جُمادى الأولى 1443هـ أوَّل أيام كانون الثاني (يناير) 2022م فضيلة الشيخ د. نور الدين عتر رحمه الله تعالى إهداءان بخطِّ شيخنا د. نور الدين عتر رحمه الله تعالى شرَّفني بهما شيخنا د. نور الدين عتر في كلِّية الآداب بجامعة دمشق وعن يساره: أستاذنا عاصم بن محمد بهجة البَيطار وعن يمينه: د. محمد قَباوة، وأستاذنا د. عبد الحفيظ السَّطلي، وأستاذنا د. عمر موسى باشا
شعيب عليه السلام (1) نتحدَّثُ إليكم عن شعيب نبيِّ اللهِ ورسوله الموصوف بأنه خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأكثر أهل العلم ينسبونه إلى إبراهيم خليل الرحمن عليهما الصلاة والسلام، وبعضهم يذكر أنه من العرب العاربة، وقد بعثه الله عز وجل إلى قومه مَدْين، وكانوا يسكنون الأرضَ المعروفة باسمهم قربَ معان من أطراف الشام مما يلي أرض الحجاز قريبًا من بحيرة قوم لوط المعروفة باسم البحر الميت، على طريق يسلكه العرب في أسفارهم إلى الشام، كما هي على طريق يسلكه المسافرون بين مصر والشام والحجاز بالقرب من خليج العقبة، والظاهر أنهم كانوا بعد هلاك قوم لوط بزمان غير بعيد؛ كما أن أرضهم غير بعيدة من قرى قوم لوط عليه السلام. وكان أهل مَدْين كفارًا يقطعون السبيلَ، ويُخيفونَ المارَّة، ويعبدون مع الله آلهةً أخرى منها الأيكة؛ وهي شجرة أو غيضة تنبت السدر والأراك، كما كانوا من أسوأ الناس معاملة وتعديًا على الأموال؛ يطفِّفُون في المكيال والميزان، ويبخسون الناسَ أشياءهم ويفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ويسلكون كلَّ سبيل معوجَّة، وينحرفون عن الصراط المستقيم، وقد سمَّاهم الله عز وجل مَدينَ باسم قبيلتهم، كما وصفهم بأنهم أصحاب الأيكة، وقد توهَّم بعض الناس فزعم أن شعيبًا أُرسل إلى أُمَّتين هما مَدْين وأصحاب الأيكة؛ وهذا قول مردود، وفهم غير سديد، وإنما مَدْين هم أصحاب الأيكة، وإنما قال الله عز وجل: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ﴾ [الأعراف: 85]، وقال في أصحاب الأيكة: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ [الشعراء: 177]، ولم يقل أخوهم؛ لأنه لمَّا ذكر مَدْين - وشعيب في نسبها - قال: أخوهم، ولكنه لما ذكر أصحابَ الأيكة وشعيب غير مشارك معهم في أيكتهم قال: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ﴾ ولم يقل أخوهم وهُمْ هُمْ، وجملةُ الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها أهل مَدْين هي جملة الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها أصحابَ الأيكة، وقد بعث الله عزَّ وجلَّ إلى مَدْين أصحابِ الأيكة شعيبًا عليه السلام، وهو من أهل بيتٍ هُمْ أعزُّ بيوت مدين، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، وأمرهم أن يوفوا الكيلَ والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن يتركوا الإفساد في الأرض، وألا يقطعوا الطريق، وأن يستغنوا بالحلال من رزق الله عن الحرام، وأن يتركوا الظلم ويلتزموا بالعدل في معاملاتهم، وأن ما عند الله خيرٌ وأبقى للمؤمنين، وبيَّن لهم أنه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجرًا ولا يسألهم عن نصيحته لهم عوضًا، وأنه يخاف عليهم إن كذبوه أن يحلَّ بهم ما حلَّ بالمكذبين بالرسل، وتهدَّدهم إن شاقوه أن يصيبهم ﴿ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ﴾ [هود: 89] وذكَّرهم بما أصاب قومَ لوط لمَّا كذَّبوا لوطًا عليه السلام، وهم غير بعيدين عنهم، يعلمون ما حلَّ بهم. وقد ساقَ القرآنُ قصة مَدْين بعد قصة قوم لوط مباشرة في سورة الأعراف، وفي سورة هود، وفي سورة الحجر، وفي سورة الشعراء، كما ذكَّرهم شعيب عليه السلام بنعمة الله عليهم في أنفسهم وبلادهم، وكيف كانوا قليلًا فكثَّرهم، فما كان جواب قومه إلا أن سخروا منه، واستهزؤوا به وبصلاته، وقالوا له: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾، و﴿ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ ﴾، تمامًا كما قال الكفار لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ولإخوانه الأنبياء من قبله، وقالوا: يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نَدَعَ عبادةَ الأوثان والأصنام التي عبدها آباؤنا من قبل مجيئك لنا ودعوتك إيانا؟ وهل صلاتُك تقيِّد حرِّيَّتَنا في التصرف في أموالنا كيف نشاء من نهب أو سلب أو غصب أو ربا أو رشوة أو تطفيف الكيل والميزان؟ وكنَّا قبل دعوتك نظنُّك حليمًا رشيدًا، وجهلوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتفقت دعوتهم على أنه يحب صيانة النفس والمال والعِرض والعقل مع صيانة الدين، وأنه لا يحل لأحدٍ أن يأخذ من مال غيره شيئًا من غير طريق مشروع، كما جهل هؤلاء أن طيب المطعم أو خبثه له أثر خطير على سلوك الإنسان استقامة أو انحرافًا، وقد أجابهم شعيب عليه السلام بأن الله تَفضَّل عليه وهداه إلى هذا الدين الذي يسلك بهم سبلَ السلام، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. والسعيدُ من سَارَعَ إلى اتِّباعه، والعمل بما يرسمه، وهذا رزق حسن تفضَّل الله به على عباده، وأنا أول المؤمنين الملتزمين بهذا الدين، ولن ﴿ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾، ولا أريد لكم إلا الخير؛ ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]. وبعد هذا البيان الواضح والدعوى المشرقة من شعيب عليه السلام، قالوا له: ﴿ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ ﴾، ولا ندري حكمةَ هذه الأوامر والنواهي التي جئت بها، وأنت رجل ضعيف نستطيع القضاء عليك، إلا أننا من أجل رهطك وعشيرتك تركناك ولم نرجمك، ولن ترى منا بعد اليوم كرامةً ولا إعزازًا، فقال لهم شعيب: أمقام رهطي أَهْيَبُ في قلوبكم من اللهِ المحيطِ بكم، الآخذِ بنواصيكم الذي لا يُعجزه شيء ولا يفوته شيء، ومع ذلك لم تخافوه ولم تعظِّموه وهو ربُّ كلِّ شيء وسيِّده ومليكه المحيط بأعمالكم، وقد أجابه إلى الله تبارك وتعالى جماعةٌ من قومه فأغاظ ذلك الكافرين وهدَّدوا شعيبًا والمؤمنين بطردهم من البلاد إذا لم يرجعوا عن هذا الدين وحاولوا التلبيس على المؤمنين، فقالوا لهم: ﴿ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 90]، فأجابهم شعيب والمؤمنون معه: كيف تطلبون منَّا أن نرجع من النور إلى الظلمات، ومن الهُدى إلى الضلالة، وقد تفضَّل الله علينا فهدانا إلى صراطه المستقيم؟! ﴿ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ﴾ ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي يفعل ما يشاء، ويقضي ما يريد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه ﴿ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ وانصرنا عليهم ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾ [الأعراف: 89]، وسيِّد الحاكمين، وخير الناصرين، وليس في قوله تعالى عن شعيب والمؤمنين: ﴿ إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ﴾ دليلٌ على أن شعيبًا كان على ملتهم، بل المراد بالعود هنا الصيرورة؛ أي: إن صِرْنَا في ملتكم بعد أن صَاننا الله عن الوقوع فيها، وكذلك ما حكاه الله عن قوم شعيب في قولهم له وللمؤمنين به: ﴿ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾؛ أي: لتصيرن إلى ملَّتنا، فكلمة عاد قد تستعمل بمعنى صار، وقد بلغ الحال بقوم شعيب أن استعجلوا عقوبة الله وطلبوا من شعيب أن يأتي بها، وأن يُسقط عليهم كسفًا من السماء إن كان من الصادقين، فبيَّن لهم شعيبٌ أن عقوبتهم بيد الله وحدَه يأتي بها إن شاء، متى شاء، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأنه عليم بأقوالكم واستهزائكم، ولن تفلتوا من عقوبته، ثم تحدَّاهم عليه السلام وقال لهم: ﴿ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾؛ أي: ابذلوا كلَّ جهدكم وطاقتكم لمقاومة عذاب الله إذا نزل بكم، وأنا عامل على طاعة الله، أَبْذل كلَّ جهدي في مرضاته، وسترون قريبًا لمن تكون العاقبة الحميدة، وانتظروا وإني منتظر، وستندمون حيث لا ينفعكم الندم، ولما جاء أمر الله نجَّى الله تعالى شعيبًا والذين آمنوا معه برحمة من الله، وسلَّط الله تبارك وتعالى على الكافرين من قومه العذاب؛ فجاءتهم رَجْفَةٌ وزلزلةٌ من تحتهم، وصيحة زلزلت قلوبهم، وظُلَّة أمطرتهم كسفًا من عذاب الله، وقطعًا من النار، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فأصبحوا في بلادهم وديارهم جاثمين صرعى هالكين، كأن لم يغنوا في هذه الديار ولم يقيموا فيها، وألحقهم الله عز وجل بالكافرين المكذبين، فبُعدًا لمدين كما بعدت ثمود. هذا، وقد ساق الله تبارك وتعالى قصة شعيب مع قومه في مواضع من كتابه الكريم، فذكر قصَّتَهم في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الشعراء، وذكرها على سبيل الإيجاز في سورة العنكبوت وفي سورة الحجر. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مقتل أبي عَفَك وغزوة بني سليم مقتل أبي عَفَك: رجل مُلئ قلبه حقدًا على الإسلام بالرغم من أنه جاوز مائة وعشرين سنة من العمر، لكنه كان شديد الأذى، وهو من بني عمرو بن عوف، وكان يحرض على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من بدر ظافرًا حسَده على ما أفاء الله عليه بهذا النصر، فقال شعرًا فيه هجاء وسخرية، فقال سالم بن عمير من بني النجار: لله عليَّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فترصَّده ليجد غرَّة له فينقض عليه، حتى إذا كانت ليلة صائفة نام فيها أبو عفك بالفناء، فأقبل سالم بن عمير فوضع السيف في كبده، وصاح أبو عفك وهرب سالم، لكنه فارق الحياة، فأخذه أصحابه ودفنوه، فكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة. غزوة بني سليم بالكدر: بعد سبع ليالٍ من وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، خرج في غزوة إلى بئر الكدر يريد بني سليم وغطفان، فلما أتاه وجد الحي خِلْوًا، فمكث ثلاث ليالٍ لم يلقَ حربًا، ثم استاق النَّعم وفيهم غلام اسمه يسار، ولما وصلوا الصبح إذا يسار يصلي معهم، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسموا الغنائم قبل دخولهم المدينة، ففعلوا، وجعلوا يسارًا في الخمس، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى المدينة وأقام فيها بقية شوال وذي القعدة.
المنهج في نقد الاستشراق [1] التمهيد: نقد الاستشراق: انطلق مفهوم نقد الاستشراق في بدايات النهضة العربية عندما لاحَظَ المفكِّرون العرب والمسلمون دخول عنصر الاستشراق بقوة في دراسة التراث العربي الإسلامي، فكان الانبهار بهذه الجهود العلمية التي يخدم بها المستشرقون تراثًا غير تراثهم، لا ينتمون إليه، ويكاد الإعجاب من قِبَل المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين يطغى على الإسهامات الأولى في انطلاقة نقد الاستشراق، حتى قيل: إنَّ المستشرقين قد فهموا الإسلام أكثر من فهم أهله له. مع الحركات الإحيائية التي عمَّت العالم، ومنه العالم العربي والإسلامي، جرتْ مُراجعات لإسهامات المستشرقين، وأخذت هذه المراجعات شكل الهجوم، تعميمًا على إسهامات المستشرقين وخدمتها لتيارات؛ مثل الاستعمار، والتنصير، والهيمَنة الغربية على العالم الإسلامي. دخل في النقد التعميمي للاستشراق مفكِّرون وعلماء بعضهم لا يعلم عن الاستشراق إلا ما جاء به من سلبيات، فجرت مُصادرة الإيجابيات التي خدم بها الاستشراق التراث، أو التهوين منها وأنها لا ترقى إلى تلك السلبيات التي جنى فيها المستشرقون على التراث، وجرى نقاش حول نفع المستشرقين وضررهم، وتغليب أحدهما على الآخر. هذه وقفات حول هذا المنهج في نقد الاستشراق، تسعى إلى توخي الموضوعية في عرض نظرات العلماء العرب والمسلمين إلى الاستشراق، بإيجابياته وسلبياته، وجاءت في أربع وقفات، هي مراحل النقد، ومزاحمة المستشرقين، ومقاصد النقد، والعدل في النقد، ويأتي هذا الفصل الأول ممهدًا للفصول الثلاثة التي تليه من حيث بيان المنهج في نقد الفكر الاستشراقي. أدين بالفضل في هذه الوقفات وفي غيرها في التعاطي مع الاستشراق بهذا الأسلوب في الطرح، لأولئك العلماء المتمكِّنين من دراسة الاستشراق، من أصحاب النظرة النقدية الهادئة المعتدلة للاستشراق واتجاهاته. يتبع..... [1] سلِّم هذا البحث لمجلة "التسامُح"، التي تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان.
كتابية الشعر وتحولات البناء لأحمد كريم بلال صدر حديثًا كتاب "كِتَابِيّةُ الشِّعرِ وتَحَوُّلاتُ البِنْاءِ، دراسَةٌ في التَشكيلِ البَصريِّ الكتابيّ لشِعرِ التَفْعيلةِ" ، تأليف: د. "أَحْمد كُريِّم بِلال" ، نشر: "دار النابغة للنشر والتوزيع" . وهي دراسة لغوية بلاغية تعالج التشكيل البصري الكتابي للقصيدة الشعرية، مع تحول القصيدة إلى أدب مقروء، وقد كان الأصل فيها أن تُنشد على مسامع المتلقين، وأبرز ما في التحول للكتابية استثمار تقنيات الطباعة وابتداع وسائل تعبيرية جديدة تُشتغل في إثراء الدلالة والإيحاء الفني. ويقصد الكاتب بـ (كتابية الشعر)، بمعنى تحوُّل النص الشعري إلى نص مكتوب يتوجه - في المقام الأول - إلى متلقٍ قارئ يتلقى النص الشعريَّ مكتوبًا لا مسموعًا، ومن ثمَّ كانت: (تحولات البناء)، فقد اقتضت كتابية الشعر عدة تحولات بنائية، أهم ما رصده هذا الكتاب منها هو: (التشكيل البصري الكتابي) الذي تظهر به القصيدة في هيئتها الطباعية على الورق، ولا شكَّ أنَّ طريقة الكتابة التي تُقدَّم بها القصيدة الشعريّة الحديثة قد أصبحت ذات بعد جمالي، ولها أهدافٌ أسلوبية ودلالية مُهمّة يحاول هذا الكتاب رصدها واستقصاءها، والكشف عن جماليتها عبر عناصرها المُتعددة بدايةً من طبيعة التنسيق الكتابي بما يتضمنه من توزيع الأسطر الشعرية وتوظيف الفراغ وحجم الكلمة أو الكتابة بخط اليد أحيانًا، ثم تتوالى العناصر مثل: توظيف العلامات غير الملفوظة كعلامات الترقيم وغيرها، واستخدام الملصقات، وتقسيم القصيدة إلى مقاطع، وأخيرًا تقديم القصيدة في شكلٍّ كتابيٍّ كليٍّ مُجسَّدٍ على الورق، وكل هذه العناصر يرصدها الكتاب مُصنِّفًا ومحلِّلاً في محاولةٍ للتمييز بين أبعادها الفنِّية والجماليّة المتَّزنة، وتجاوزاتها التجريبيّة المُندَفِعة. ويرى الكاتب أن كثيرًا من هذه الوسائل فيها ما فيها من غلواء التجريب والافتتان بالجديد؛ لكن بعضها جاد ودال ومؤثر، وجدير بالملاحظة والتعليق، وأصل هذا الكتاب هو رسالة الباحث التي نال بها درجة الماجستير سنة 2003 م من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وهو موضوع من الموضوعات المعاصرة، وموضوع غير مطروق، في مجال الدراسات البلاغية، كما أن أغلب النماذج التي تناولتُها بالدراسة فيما يتعلق بالتشكيل البصري الكتابيّ للقصيدة الشعريّة - على وجه الخصوص - مما لم يتطرق إليه الدارسون؛ في تلك النماذج التي درسها الكاتب تأصيلًا لقضايا نقدية لا تزال نافعةً ومفيدةً لقارئ اليوم. والكاتب د. "أَحْمد كُريِّم بِلال" ناقد أدبي مصري، حاصل على الماجستير سنة 2003م في الأدب الحديث عن "كتابية الشعر وأثرها في البنية الفنية"، والدكتوراه سنة 2010 م عن "العنوان في الشعر العربي المعاصر، علاقته بالبنية الشعرية". له عدة كتب وأبحاث نقدية؛ ومن هذه الكتب: 1. "من كل قطر قصيدة، مختارات شعرية ومداخل للقراءة". 2. "النزعة الدرامية في الشعر العربي المعاصر". 3. "أصداء السيرة والفجوة الدلالية". 4. "جدلية الرمز والواقع". 5. "كتابية الشعر وتحولات البناء- دراسة في التشكيل البصري الكتابي لقصيدة التفعيلة". ومن الأبحاث: 1. العدالة الاجتماعية في إطار الرؤية الشعرية. 2. رمزية الجنس في روايات الصراع الحضاري. 3. الجوانب التقليدية والنمطية في الإبداع الشعري - دراسة نقدية تطبيقية في ديوان الشيخ الشعراوي.
كتاب الأصنام لابن الكلبي تحقيق أحمد محمد عبيد صدر حديثًا تحقيق جديد لكتاب "الأصنام"، تأليف: "هشام بن محمد الكلبي" (ت 204 هـ)، تحقيق: "أحمد محمد عبيد"، نشر: "دار ملامح للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب يعد من ذخائر الأدب العربي، وأول كتاب ألف في هذا الموضوع في الإسلام. جمع فيه "ابن الكلبي" ما بقي من أشعار الجاهلية في الأصنام وما قيل فيها، بعدما انحسمت مادة الخوف من الرجوع إلى الشرك. وتبعته طائفة من الأدباء، فنسجوا على منواله كتبًا، لا نعرف غير أسمائها وكلام ابن النديم عنها في الفهرست، منها (كتاب الأصنام) للجاحظ، الذي رجع إليه الدميري في مادة (القرش)، و(كتاب الأصنام) لابن فضيل علي بن الحسين الفارسي. وقد طبع كتاب ابن الكلبي لأول مرة في مصر عام 1914م بعناية "أحمد زكي باشا"، وكان في عداد الكتب المفقودة في القرون الأخيرة، حتى عثر عليه الشيخ "طاهر الجزائري" في يد أحد سماسرة المخطوطات، وحمله معه إلى مصر، فابتاعه منه أحمد زكي باشا، ليضمه إلى (المكتبة الزكية) التي وقفها على طلبة العلم بقبة الغوري في القاهرة. ولا يعرف للكتاب غير هذه النسخة في مكتبات العالم. وبذلك يعد كتاب "الأصنام" لهشام بن محمد الكلبي هو السفر الوحيد الذي وصلنا مما أفرده العلماء لأصنام العرب ومعبوداتها، وهو كتاب شديد الأهمية بسبب اندثار الكتب الأخرى التي ألفت في بابه، ولأن مؤلفه هشام بن محمد الكلبي الذي كان أغزر علماء الأخبار تأليفًا حول الجاهلية وتاريخها، وقد انتشر كتاب الأصنام وتداوله عدد من العلماء بالقراءة والسند عن ابن الكلبي حيث قرئ عليه سنة إحدى ومائتين للهجرة قبل وفاته بثلاث سنوات، واستمر هذا السند حتى وصل إلى ابن الجواليقي في القرن السادس الهجري، وكان مصدرًا من مصادر ياقوت الحموي وابن قيم الجوزية وعبد القادر البغدادي الذي قال فيه وفي مؤلفه "وهو كتاب جيد في بابه، جمع فيه فأوعى". والكتاب يلخص جهدًا محمودًا لمصنفِه ابن الكلبي في تتبع حكايات أصنام العرب التي عبدوها قبل الإسلام، وهو تقييد كتابي يجمع الأخبار المتناثرة والشفاهية عن معبودات العرب. قد كانت نسخ الكتاب نادرة الوجود حتى في عصر ياقوت الحموي، حيث يصف باهتمام نسخة منه وقعت إليه بخط الإمام الجواليقي، فأفرغ مادتها في معجم البلدان مفرقة في أماكن شتى، ومما يحكم بندرة الكتاب، أن نسخة الشيخ طاهر منقولة من هذه النسخة كما صرح ناسخها. قال أحمد زكي باشا: (ولقد اغتنمت فرصة وجودي بمؤتمر المستشرقين الدولي المنعقد في أبريل سنة 1912م بمدينة أثينة، رئيسًا للوفد المصري، فكاشفت العلماء بهذه الذخيرة، وقلت ما معناه: لا أود إظهار هذا الكتاب إلى الوجود، لأن الأستاذ نولدكه قال: بأنه لا يريد أن يموت حتى يرى كتاب الأصنام، وأنا أخشى أن يفي بوعده، ويحرمنا من ثمرات كده وجده). ونجد أن هذا الإصدار الجديد للكتاب بتحقيق الأستاذ "أحمد محمد عبيد" من الإصدارات المميزة، حيث خص ابن الكلبي بفصل مسهب في كتابه: (في المصادر العربية) (ص49 - 78) عرف فيه بـ (68) كتابًا من آثار ابن الكلبي، وأتبعها (ص147) بمستدرك صنعه على كتاب (الأصنام) يضم التعريف بـ (14) صنمًا. وأفاد أن كتاب الأصنام قرئ على ابن الكلبي سنة (202هـ) قبل وفاته بسنتين، وأن هناك أخبارًا رويت عن ابن الكلبي في الأصنام، لم ترد في كتابه هذا. وقد تقصى المحقق جهد ابن الكلبي في كتابه " الأصنام "، وعرَّفَ به، وجمع ما عثر عليه من نوادر علمية ونكت تحقيقية حول ابن الكلبي وجهوده العلمية التأريخية. ومؤلف الكتاب هو هشام بن محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن كنانة بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة، كان من أسرة كلبية عريقة، ولد في مدينة الكوفة، ولا يعلم تاريخ ولادته، إلاّ أنه عاش في القرن الثاني للهجرة، وتوفي بالكوفة. وفيها كانت نشأته العلمية ودراسته على يد شيوخ عصره وفي مقدمتهم والده أبو النضر محمد ابن السائب الذي كان من رجالات الكوفة المعدودين، وكان عالمًا بالتفسير والأخبار وأيام العرب فضلًا عن أنه كان نسّابة راوية. وصنف كتابًا في "تفسير القرآن". وتوفي سنة 146 هـ. درس هشام على يد والده، كما درس على يد آخرين من فحول العلماء وأكابر الرواة المحققين مثل مجاهد بن سعيد ومحمد بن حبيب وغيرهما، وكان يزوره أبا يعقوب اليهودي وغيره من الأخباريين ويزودهم بأخبار أهل الكتاب، وكان هذا عُرف أهل الأخبار في ذاك الزمان فكانوا يتسابقون على التوراة وأهلها لينهلوا منها مادة كتبهم في الأخبار والأنساب، وكانت الكوفة والبصرة يومئذٍ من أهم مراكز العلم والتعليم يحجّ إليهما طلاب المعرفة والثقافة من كلّ حدبٍ وصوب. بلغ هشام ابن الكلبي شهرة واسعة في مدينة الكوفة وغيرها من مدن العراق، وقدم بغداد وحدّث بها، وكان من أعلم الناس بعلم الأنساب وأوسعهم رواية لأخبار العرب وأيامها ووقائعها ومثالبها، وقد ورث ذلك عن أبيه. وكان - إلى ذلك - من أحفظ الناس. وقد حدّث عن نفسه فقال: "حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد. كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتًا وحلفت أني لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت يومًا في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة". يعتبره البعض المرجع الأوثق في علم الأنساب بينما يرى بعض أهل السنة في الأخذ من ابن الكلبي في الأنساب لا مانع منه، أما في الأمور الأخرى فيترك. كان هشام مؤلفًا غزير التأليف تنوعت كتبه في الأنساب والأخبار والمآثر والمثالب والبلدان والشعراء والأيام قيل أنها جاوزت مائة وخمسين كتابًا منها: • كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة. • كتاب حلف الفضول وقصة الغزال. • كتاب حلف كلب وتميم. • كتاب حلف أسلم وقريش. • كتاب المعران. • كتاب المنافرات. • كتاب بيوتات قريش. • كتاب فضائل قيس. • كتاب عيلان. • كتاب الموؤدات. • كتاب بيوتات ربيعة. • كتاب الكنى. • كتاب مثالب العرب. • كتاب النوافل (نوافل قريش، كنانة، أسد، تميم، قيس، إياد، ربيعة). • كتاب ملوك الطوائف. ذكر له ابن النديم في الفهرست ما يقرب من ثلاثين مصنفًا في الأخبار. ولابن السائب آثار عديدة في تاريخ الإسلام والبلدان، منها: • كتاب التاريخ. • كتاب تاريخ أجناد الخلفاء. • كتاب صفات الخلفاء. • كتاب المصلين. • كتاب البلدان الكبير. • كتاب البلدان الصغير. • كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب. • كتاب قسمة الأرضين. • كتاب أسواق العرب. • كتاب الأقاليم. ومن آثاره الأخرى: • جمهرة الأنساب. • نسب الخيل. • افتراق العرب. • كتاب النسب الكبير. • كتاب نسب اليمن. • كتاب أمهات الخلفاء. • كتاب أمهات النبي. • كتاب تسمية ولد عبد المطلب. • كتاب جمهرة الجمهرة (رواية ابن سعد). • كتاب الملوكي في الأنساب، صنّفه لجعفر بن يحيى البرمكي. • كتاب الموجز في النسب.
سيدنا معاوية بن أبي سفيان رغم أنف المشوهين والحاقدين قديمًا وحديثًا وطوال التاريخ والشيعة يشوهون سيرة سيدنا معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقد استطاعوا جذب الليبراليين والعلمانيين وكل ناعق، هذا الملك العظيم الذي قاد الأمة الإسلامية عشرين عامًا، وحكم ثلث الأرض، ودانت له القلوب المؤمنة، بخلاف النفوس الحاقدة التي تتميز غيظًا منه لحسن سيرته وسياسته. ♦ الصحابي الجليل الذي شملته بركة حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَسُبُّوا أَصحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو أَنَّ أَحَدَكُم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدرَكَ مُدَّ أَحَدِهِم وَلا نَصِيفَهُ))؛ [البخاري]. ♦ كاتب الوحي رضي الله عنه، ومؤسس دولة بني أمية، ودومًا مؤسس أي دولة يكون شخصية متميزة حادة الذكاء، فلقد حكم معاوية رضي الله عنه الشام ٤٠ سنة، وكان محبوبًا جدًّا، وكان رجلًا داهيةً سياسيًّا. ♦ قال الذهبي: كان رجلًا طويلًا، أبيض، جميلًا، مهيبًا، أجلح [أصلع بجانبَي رأسه]. ♦ ولد قبل البعثة بخمس سنين، وأسلم في عام (7هـ) وأخفى إسلامه حتى فتح مكة (8هـ) خوفًا من أبيه، ولم يظهره إلا في فتح مكة؛ ولذلك ظن كثير من المؤرخين أنه من مسلمِي الفتح. ♦ روي عنه أنه قال: أسلمت يوم القضية، ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد، وهو خير منك على دين قومه، فقلت له: لم آل نفسي جهدًا. قال معاوية: ولقد دخل عليَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في عمرة القضاء، وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته فرحَّب بي، وكتبت بين يديه. ♦ قال الواقدي: وشهد معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينًا، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها بلال، وشهد اليمامة. ♦ لم يُعرف عنه قبل الإسلام أذًى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا بيد، ولا بلسان. ♦ وهو من مشاهير الصحابة وفضلائهم رضي الله عنهم جميعًا، دعا له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ))؛ [رواه الترمذي، وصححه الألباني]. ♦ أخرج البخاري في التاريخ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لمعاوية رضي الله عنه: ((اللهُمَّ علِّمْه الكتاب والحساب وقِهِ العذاب)). ♦ وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهده بالرحمة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً))؛ السلسلة الصحيحة 3270. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكانت إمارة معاوية ملكًا ورحمةً. ♦ وقد ثبت في صحيح مسلم: من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَنْظُرُونَ إلى أَبِي سُفْيَانَ وَلَا يُقَاعِدُونَهُ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ، قَالَ: (( نَعَمْ ))، قَالَ: عِنْدِي أَحْسَنُ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُزَوِّجُكَهَا، قَالَ: ((نَعَمْ)) [لكن الرواة مجمعون على وهم راوي الحديث عكرمة بن عمار، وأن المقصود عزة بنت أبي سفيان، وأن الرسول قال: (( إن ذلك لا يحل لي ))؛ لأن عنده أختها أم حبيبة بنت أبي سفيان التي زوجها النجاشي من رسول الله سنة ست بالحبشة] قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: ((نَعَمْ))، قَالَ: وَتُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: (( نَعَمْ )). قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا قَالَ: نَعَمْ. ♦ روى مسلم عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ قَالَ: فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً [صفعني على رقبتي] وَقَالَ: (( اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ ))، قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: (( اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ )) قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: (( لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ )). وروى مسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدْ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). ♦ ومن الأحاديث الدالة على فضله ما رواه البخاري رحمه الله، عن أُمِّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا)) [فعلوا فعلًا وجبت لهم به الجنة]، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: ((أَنْتِ فِيهِمْ)) [وكان ذلك جيش معاوية وبقيادته لفتح قبرص في خلافة عثمان رضي الله عنهما]، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ [القسطنطينية] مَغْفُورٌ لَهُمْ)) فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((لَا)). وفي رواية للبخاري عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْعَمَتْهُ وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ [ظهر هذا البحر ووسطه] مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْل الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ)) [يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم]، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: ((أَنْتِ مِن الْأَوَّلِينَ))، فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ. ♦ ومعاوية خال المؤمنين، أخو أمِّ المؤمنين أمِّ حَبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان رضي الله عنها؛ ولذلك قال الإمام أحمد: أقول: معاوية خال المؤمنين، وابن عمر خال المؤمنين. وعن عبدالملك بن عبدالحميد الميموني قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا صِهْرِي وَنَسَبِي؟))، قال: بلى! قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهرٌ ونسبٌ. ♦ وروى الطبراني عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالت: لما كان يوم أم حبيبة من النبي دق الباب داقٌّ، فقال النبي: ((انظروا من هذا؟))، قالوا: معاوية، فقال: ((ائذنوا له)) ودخل وعلى أذنه قلم له يخط به، فقال: ((ما هذا القلم على أذنك يا معاوية؟))، قال: أعددته لله ولرسوله، قال: ((جزاك الله عن نبيك خيرًا، والله ما استكتبتك إلا بوحي من الله عز وجل، وما أفعل من صغيرة ولا كبيرة إلا بوحي من الله عز وجل، كيف بك لو قد قمصك الله قميصًا)) يعني: الخلافة، فقامت أم حبيبة فجلست بين يديه، فقالت: يا رسول الله، وإن الله مقمص أخي قميصًا؟ قال: ((نعم، ولكن فيه هنات وهنات وهنات))، فقالت: يا رسول الله، فادع له فقال: ((اللهم أهْدِهِ بالهدى، وجنبه الردى، واغفر له في الآخرة والأولى))؛ قال الطبراني: لم يروِ هذا الحديث عن هشام إلا عبدالله بن يحيى تفرَّد به السري. ♦ ولاه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض عمله، فكان يكتب له، ولما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان حتى مات يزيد. ♦ كان معاوية محاربًا في موقعة اليرموك وفتح الشام، ثم ولاه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فتح قيسارية، وكتب إليه: أما بعد: فقد وليتك قيسارية فسِرْ إليها، واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، فنعم المولى ونعم النصير. فسار إليها فحاصرها، وزاحفه أهلها مرات عديدة، وكان آخرها وقعة أن قاتلوا قتالًا عظيمًا، وصمَّم عليهم معاوية، واجتهد في القتال حتى فتح الله عليه، فما انفصل الحالُ حتى قتل منهم نحوًا من ثمانين ألفًا، وكمَّل المائةَ الألفِ من الذين انهزموا عن المعركة، وبعث بالفتح والأخماس إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه... وكان عمر معاوية وقتها 33سنة، وكانت سنة 15هـ. ♦ قال ابن كثير: انعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل مستقلًّا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. لكن لا بد أن نتفطَّن للكثير من الروايات التي فيها محاذير كثيرة ووقفات في طياتها عديدة حتى ولو كانت في مجملها تحمل ثناءً لمعاوية رضي الله عنه، فمن أشهرها: ♦ بعد طاعون عَمَواس وموت كثير من القادة وعظماء الصحابة ولى عمر معاوية الشام، يقول أهل التاريخ: لما ولى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولَّاه من الشام، خرج إليه معاوية، فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت صار ابنك تابعًا لابني؟ [كان يزيد ولد أبي سفيان من غير هند] فقالت: إن اضطربت خيل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني، فلما مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، رد عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزَّى أبا سفيان في ابنه يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين، من ولَّيْت مكانه؟ قال: أخاه معاوية، قال: وصلت رحمًا يا أمير المؤمنين. ووصَّتْه أمُّه هند بقولها: والله يا بني، إنه قَلَّ أن تلد حرة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحبَبْت وكرهت. وقال له أبوه: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخَّرنا، فرفعهم سبقهم وقدمهم عند الله وعند رسوله، وقصر بنا تأخيرنا فصاروا قادةً وسادةً، وصرنا أتباعًا، وقد ولَّوك جسيمًا من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد، فنافس، فإن بلغته أورثته عقبك. فلم يزل معاوية نائبًا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان، وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص، وسكنها المسلمون قريبًا من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائمة على ساق في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها.... لكن هذه الرواية فيها شكوك كثيرة؛ لما فيها من طعن في أبي سفيان رضي الله عنه؛ حيث يظهره بمظهر الحريص على الزعامة، وأن حزنه لتأخُّره في الإسلام كان من أجل الدنيا، وأنه يحث ابنه على المنافسة في هذه الزعامة، وتحريضه على توريث الحكم. ♦ لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقَّاه معاوية في موكب عظيم كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبدالرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزت أمير المؤمنين، فرجع، فلما رأى عمر ترجَّل، فلما دنا من عمر قال له عمر: أنت صاحب الموكب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيًا إلى بلاد الحجاز، قال: يا أمير المؤمنين، إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نُظهِر من عِزِّ السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: يا معاوية، ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس [جمع راجبة: وهي ما بين عقد الأصابع من داخل؛ أي: أضيق ما يكون]، لئن كان ما قلت حقًّا إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا إنه لخدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين بما شئت، قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه؟! فقال عمر: لحسن موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه. ولكن، هل كان معاوية رضي الله عنه مشغولًا عن رعيَّته بالطعام والشراب؟! وهل يعقل ألا يثق عمر في كلام معاوية رضي الله عنهما، فيقول له: «لئن كان ما قلت حقًّا، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلًا إنه لخديعة أديب»؟!
من سير أعلام مسند الإمام [13] (الشهيد الذي كان يمشي على الأرض) إنه الصحابي الجليل، جار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأحد العشرة المبشرين، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وأحد الستة أهل الشورى الذين تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وأحد الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل فتحرك بهم، رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين [1] ؛ طلحة بن عبيدالله التيمي القرشي، (28 ق.هـ، 36 هـ)، رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّهُ أن ينظر إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحةَ بنِ عبيدالله)) [2] ، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((هذا ممن قضى نحبه)) [3] ، والنَّحْبُ في اللغة أي: النذر، والموت، ويكون المعنى: أي: وفَّى بعهوده واستُشهد، ومات في سبيل الله، فأدرك ما تمنى، فكأنه وفَّى بما نذر. إنه طلحة الفيَّاض، وطلحةُ الخير، وطلحة الجود، كما كان يدعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان آدمَ، كثيرَ الشعر، حسن الوجه، إذا مشى أسرع، وكان أبيضَ يضرب إلى الحمرة، مربوعًا، إلى القصر أقرب، بعيد الْمَنْكِبين، ضخم القدمين [4] . وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراءَ، هو، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله: ((اهدأ؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)) [5] . غاب عن وقعة بدر في تجارة له بالشام وتألم لغيبته، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. وفي غزوة أُحُد كان شجاعًا باسلًا، وشُلَّت يده، في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقُطعت أصابعه، وشُجَّت رأسه، وقُطع عرق النَّسا منه، وجُرح في جسده، كانت به أربع وعشرون جراحة موزَّعة على جسده كله، حتى إن بعض إصاباته وقعت في ذَكَرِهِ، عندما كان يدافع ويفدي بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما تكاثر عليه المشركون، وقال رضي الله عنه: "عُقِرْت يوم أُحُدٍ في جميع جسدي، حتى في ذَكَري". وكان يقاتل مكان أحد عشر رجلًا أمامه؛ لئلا يصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال عنه معاوية: "عاش حميدًا سخيًّا شريفًا، وقُتِل فقيدًا"، رحمه الله، وله في مسند الإمام ثمانية وثلاثون حديثًا. كان أول من بايع عليًّا رضي الله عنهما، وقُتِل يوم الجمل، وقال غير واحد أن الذي قتله مروان بن الحكم، وكان قتله في سنة ستٍّ وثلاثين، وقبره بالبصرة [6] . قال شيخنا أحمد الجوهري حفظه الله تعقيبًا على تلكم الفتنة التي أصابت المسلمين: "لك أن تتخيل ما أنجزه المسلمون عندما كانوا يدًا واحدة على من سواهم، ثم تنظر فيما آل إليه حالهم لما تفرقوا وتشتتوا وانشغلوا ببعضهم، كيف انحطوا، وتوقَّف مدُّهم، وسادهم غيرُهم". وتوقفت طويلًا أمام قول سيدنا طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه في يوم الجمل يتحسر على ما آل إليه حال المسلمين وقتها: "كنا أمسِ يدًا على من سوانا، وأصبحنا اليوم ‌جبلين ‌من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه". أرأيت إلى هذا التعبير: "أصبحنا اليوم ‌جبلين ‌من حديد، يزحف أحدنا إلى صاحبه". فماذا يمكن أن يصنع جبلان من حديد إذا اصطدما، يريد كل منهما تحطيم صاحبه؟ ثم ماذا يمكن أن يمثِّلا من قوة لو أنهما اتحدا، واتفقا على غاية أو هدف؟ نسألك يا ربنا من فضلك العظيم أن توحِّدَ صفوفنا، وأن تجمع شملنا، وأن تؤلف بين قلوبنا، وأن تخرج الفتنة من بيننا، وتسلم أهلنا، وتحفظ شبابنا، وتحقن دماءنا، وتحفظ بلادنا من كل سوء يا مجيب. ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وجمعنا معهم في عليين، بصحبة رسولنا الأمين، صلى الله عليه وسلم. [1] سير أعلام النبلاء. [2] السلسلة الصحيحة. [3] أخرجه السيوطي، وابن ماجه، والترمذي، واللفظ له. [4] سير أعلام النبلاء. [5] صحيح مسلم. [6] سير أعلام النبلاء.
مقتل عصماء بنت مروان كانت زوجة ليزيد بن زيد الخطمي، وكانت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعيب الإسلام، وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وشعرًا، ولما سمع عمير بن عدي الخطمي ما قالته من الشعر قال: لله عليَّ نذر لئن رددتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأقتلنَّها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، فلما رجع من بدر جاءها عمير في جوف الليل، فدخل بيتها، ثم غرس في صدرها سيفه وهي نائمة، وعاد إلى بيته، ثم حضر صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير بعد انقضاء الصلاة، فقال له: ((أقتلت بنت مروان؟))، قال: نعم بأبي أنت يا رسول الله، وخشي عمير أن يكون افتأت على النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، فقال: هل عليَّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: ((لا ينتطح فيها عنزانِ))؛ أي: لن يطلب أحد بثأرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب، فانظروا إلى عمير بن عدي))، فلما رجع عمير من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياره وجد بنيها في جماعة يدفنونها، فقالوا: يا عمير، أنت قتلتَها؟ فقال: نعم، فوالذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت، لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، ولم يعد فيهم من يستخف بالإسلام، وكان قتلها لخمس بقين من رمضان.
يوسف الصديق عليه السلام (6) ذكرتُ في المقال السابق ما كان من تدبير يوسف عليه السلام لاستبقاء أخيه بنيامين عنده وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 69 - 76]. ولما رأى أخوةُ يوسف أن الصواعَ وُجِد في رَحْل بنيامين أطلقوا ألسنتَهم بسبِّهِ وسبِّ يوسف، وقالوا: إن يكن قد سرقَ الصواع فقد سرق أخٌ له من قبلُ، وكأنهم أرادوا أن يوسفَ سرق قلبَ أبيه منهم، أو أنهم لبغضهم ليوسف عليه السلام بسبب حبِّ أبيه له رموه وسبوه ولم يتركوا الإساءة إليه؛ ولذلك قال يوسف عليه السلام في نفسه وسِرِّه عن إخوته هؤلاء: ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 77]، ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ﴾، إنَّ أخانا هذا له أبٌ شيخٌ كبيرٌ لا يطيق فراقه ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ وأعطنا بنيامين لنوصله إلى أبيه، فقال يوسف: أعوذ بالله ﴿ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ﴾ إنا إذًا لواضعو الأمر في غير موضعه؛ فيوسف عليه السلام لا حاجةَ له في واحدٍ منهم سوى بنيامين، فلما يئسوا من تخليص بنيامين الذي قد التزموا لأبيه بردِّه إليه، وعاهدوه على ذلك ﴿ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾، أي: انفردوا عن الناس ليتناجوا فيما بينهم: ماذا يفعلون؟ فقال أَسَنُّهم: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ﴾ [يوسف: 80]؛ بِرَدِّهِ إليهِ إلا أن يُحاط بكم، فأنا سأبقى في هذه البلدة قريبًا من بنيامين حتى يأذنَ لي أبي في الرجوع إليه راضيًا عنِّي أو يحكم الله لي؛ أي: أو أن يقضي الله لي قضاءً إما بموتي وإما بتخليص أخي، والله خير الحاكمين. ثم أمرهم أن يُخبروا أباهم بصورةِ ما وقع حتى يكون ذلك عذرًا لهم فيقولوا له: إن ابنك نُسِب إلى السرقة وأُخذ بذلك، وما شهدنا إلا بما علمنا وشَاعَ عند جميع من حولنا من أهلِ العير والقرية، وما كنَّا ندري أنه سيقع في هذا الأمر؛ لأننا لا نعلم الغيب، واسأل القافلةَ التي أقبلنا فيها والقريةَ التي كنا فيها، وإنا لصادقون، فوصلوا إلى أبيهم وأخبروه بما نصحهم به أخوهم الكبير، فأجابهم يعقوب عليه السلام بمثل ما أجابهم به حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب، وقال لهم: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾، ورجا الله عز وجل أن يردَّ عليه يوسفَ وبنيامينَ وأخاهم الكبير، فقال: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]، وأعرض يعقوب عن هؤلاء ﴿ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84]، واشتدَّ حزنه حتى ابيضت عيناه من الحزن؛ إذ جدَّد حزنُ الأخيرين حزنَ يوسف، لكنه كظم غيظه، وسكت عن الشكوى لغير الله عز وجل، ومع ذلك فقد هيَّجَ حزنُه على يوسف كوامنَ حقدِهم، فقالوا: تالله لا تزال ولا تبرح تذكُرُ يوسفَ، ولا تنسى حبَّه؛ حتى تكون حرضًا، أي: مشرفًا على الموت والهلاك، أو تكون من الهالكين، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي ﴾؛ أي: عظيم حزني وغمِّي، ﴿ إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 86]؛ مِن أن يوسفَ حيٌّ وقد يكون في مصر، اذهبوا فتحسَّسوا من يوسف وأخيه واطلبوا خبرهما، ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ﴾؛ أي: لا تقنطوا من رحمة الله، ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، فانطلقوا مرَّةً أخرى إلى مصر بحثًا عن يوسف، وشكوى إلى عزيز مصر مما أصابهم من الضرِّ، وطلبًا للميرة؛ فلما دخلوا على يوسف ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ ﴾ [يوسف: 88]؛ أي: مدفوعة لا يقبلها أحد لرداءتها، فأحسِنْ إلينا من فضلك، وأَوْفِ لنا، ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]. فقال لهم يوسف عليه السلام: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وقت جهلكم، فلمَّا سمعُوه يذكر ما فعلوه بيوسُفَ تفرَّسُوا فيه، ووقع في نفوسهم أنه يوسف عليه السلام فقالوا: ﴿ أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا ﴾ بنيامين ﴿ أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ بالإعزاز والإكرام، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]، فأظهروا الندم على ما كان منهم، و﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 91]، وفضَّلك، وإنا كنا خاطئين آثمِين فيما فعلناه بك، قال: لا عتبَ و﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]. وقد علم أن أباه قد ابيضَّتْ عيناه من الحزن، فقال لإخوته: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا، وأْتوني بأهلكم أجمعين، وهذا يدلُّ على أن الحزن يؤثر على العين ويؤذيها، وأن السرورَ يؤثِّر على العين صحةً وعافيةً؛ ولذلك قالت الخنساء في صخر عن نفسها: قذًى بعيْنِكِ أمْ بالعينِ عُوَّارُ أَمْ ذَرَّفَتْ إِذْ خَلَتْ مِنْ أَهْلِها الدَّارُ وبمجرد خروج العِير من أرض مصر ومعهم قميص يوسف شمَّ يعقوب ريحَ يوسف عليه السلام، فقال لمن حضرَه من بنيه وأولادِهم: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تنسبوني إلى السَّفَهِ لصدَّقْتُموني، قالوا: تالله إنك لفي ضلالِك وهيامك القديم في حُبِّ يوسف، فلما جاء البشير بالقميص، وألقاه على وجه يعقوب عليه السلام رجع بصيرًا، وقال لهم: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون، فطلبوا من أبيهم الصفحَ عنهم، وأن يستغفر الله لهم، وأنهم أخطؤوا في حقِّ أبيهم وأخيهم، فوعدهم بأنه سيستغفر لهم ربَّه إنه هو الغفور الرحيم، ثم توجَّهُوا جميعًا إلى مصر وجمع الله شملهم. فلما دخلوا على يوسف ضَمَّ إليه أبويه؛ أي: أباه وخالته أو أباه وأمه على القول بأنها عاشت إلى ذلك الحين، ﴿ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾ [يوسف: 99]، وأجلس أبويه على سريره، وسجدوا لله جميعًا شكرًا من أجل يوسف على ما منَّ به الله عليهم وما أعزَّ به يوسف، وقال يوسف لأبيه: ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾، وقد تفضَّل عليَّ؛ ﴿ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ ﴾، فأفسد قلوب إخوتي عليَّ، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100]. ولما تمَّت على يوسف النِّعمة وآتاه الله الملك، طلب من الله عز وجل أن يلحقه بالصالحين، وفي ذلك يقول: ﴿ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 77 - 102].
قواعد تحقيق النصوص لعلي بن محمد العمران صدر حديثًا كتاب "قواعد تحقيق النصوص "، تأليف: د. "علي بن محمد العمران "، نشر "دار الحضارة للنشر والتوزيع". وهذا الكتاب على صغر حجمه سفر نفيس يتضمن نحو (50) قاعدة وضابطًا مختصرًا في تحقيق النصوص، صاغه الكاتب بأسلوب مبسط ليستفيد منه طالب العلم والمبتدئ في تحقيق النصوص التراثية. وهذا الكتاب يعتبر عصارة أفكار المحقق في تحقيقه للنصوص التراثية، مدة 20 عامًا قام فيها بتقديم العديد من الدورات والمحاضرات المرئية حول هذا الفن العزيز، وقد عمدَ فيه إلى صوغ القواعد الأساسية في علم التحقيق، وذلك على شكل قواعد مجمعة تحت كل عنوان، حيث عمد إلى التقسيم والتبويب وإلحاق كل قاعدة بما يناسبها من أصول فن تحقيق المخطوطات، ثم ألحقه بثلاث ملاحق؛ هي: أهم مصطلحات علم التحقيق، وأهم الرموز التي يستخدمها النُّساخ، وأهم المراجع التي يعتمد عليها المحقق. وأثرى المتن بمجموعة قيمة من التعليقات والفوائد حول أسماء الكتب والمراجع لمن أراد الاستزادة من موضوع كل عنوان رئيس، والرجوع إليه بتفصيل وإسهاب. وقد ولَّف الكاتب من مجموعة مقالاته السابقة في عدد من المواقع كالألوكة وغيرها، إلى جانب محاضراته المرئية في هذا المبحث ليصوغ منها مادة هذا الكتاب، وزادها ثراءً بتعليقاته وتبوياته. وقد جاءت مباحث الكتاب على النحو التالي: القواعد الأربعة لتحقيق الغاية من التحقيق: 1- التحقق من عنوان الكتاب، وفيه أربعة قواعد. 2، 3- التحقق من اسم المؤلف ونسبة الكتاب إليه، وفيهما ست قواعد. 4- تحقيق نص الكتاب، حتى يظهر بقدر الإمكان مقاربًا لنص مؤلفه. المبحث الأول: اختيار الكتاب المخطوط وترشيحه للتحقيق: القاعدة الأولى: يقدم الكتاب الأصل على المختصرات. القاعدة الثانية: تقدم كتب الأصول على الفروع. القاعدة الثالثة: ما لم يُنشر مقدَّم على ما نُشِر. القاعدة الرابعة: يسوغ إعادة تحقيق ما طبع في حالات. المبحث الثاني: معرفة النسخ وجمعها: القاعدة الأولى: يتعين جمع نسخ الكتاب المراد تحقيقه. القاعدة الثانية: العمل في النسخة الوحيدة أو الفريدة. القاعدة الثالثة: التدرج في جمع النسخ. المبحث الثالث: دراسة النسخ وتعرف مراتبها: القاعدة الأولى: إذا وجدنا نسخة المؤلف وأنها مبيضة فهي العمدة. القاعدة الثانية: نسخة المؤلف يُحافَظ على نصّها كما تركه المؤلف. القاعدة الثالثة: إذا لم نجد نسخة المؤلف، ووجدنا نسخًا مختلفة، فترتّب النسخ بحسب الجودة. القاعدة الرابعة: تقدّم النسخة القريبة من نسخة المؤلف. القاعدة الخامسة: إذا كانت النسخ متقاربة في الجودة أو السوء، فتتعين طريقة النص المختار. القاعدة السادسة: تقسيم النسخ إلى عوائل إذا كانت متعددة. القاعدة السابعة: جودة النسخ لا تظهر في كثير من الأحيان إلا بعد النسخ والمعارضة بما في الأصول. القاعدة الثامنة: إذا كانت المخطوطات كثيرة، فينتقي الباحث منها خمسًا أو ستًا تفي بقراءة النص وإخراجه. القاعدة التاسعة: المخطوطات كثيرة التصحيف والتحريف تستبعد من قائمة المخطوطات المعتمدة. المبحث الرابع: نسخ المخطوط وضبط النص: القاعدة الأولى: على المحقق أن يتولى نسخ المخطوط بنفسه. القاعدة الثانية: أهلية الناسخ، ومقابلة المنسوخ. القاعدة الثالثة: مقابلة المنسوخ مرة ثانية بعد عملية التحقيق. القاعدة الرابعة: أن يكون الرسم بحسب ما استقر عليه الرسم والإملاء الحديث. القاعدة الخامسة: مراعاة علامات الترقيم عند كتابة النص. القاعدة السادسة: في استخدام الأقواس وأنواعها. القاعدة السابعة: ضبط الآيات الكريمة برسم المصحف. القاعدة الثامنة: ضبط نصوص الأحاديث والأمثال والحكم والشواهد وغيرها. القاعدة التاسعة: الضبط بالحروف عند الحاجة. المبحث الخامس: قراءة النص والتعليق عليه: القاعدة الأولى: يجب التأني في قراءة النص، وعدم العجلة في إثبات ما يبدو لأول وهلة في الكلمات المشكلة. القاعدة الثانية: تقييد فروق وقراءات النسخ يكون في الحاشية السفلية. القاعدة الثالثة: عند الاختيار بين النسخ (النسخ المختار) لابد من تعليل الاختيار والإهمال. القاعدة الرابعة: التعريف بما يشتبه أو يشكل من الأعلام والأنساب والمواضع، بحسب ما يقتضيه المقام. القاعدة الخامسة: تخريج نصوص الكتاب: الآيات، والأحاديث والآثار، والنصوص المقتبسة من الكتب سواء صرح بها أم لم يصرح. القاعدة السادسة: تنقل الحواشي المقيدة على هامش النسخة أو النسخ إلى حواشي الكتاب، بحسب فائدة لغرض الكتاب. القاعدة السابعة: التنبيه على أوهام المؤلف أو مخالفاته العقدية، بأسلوب حسن. القاعدة الثامنة: لا تحوّل حواشي المحقق وتعليقاته إلى شرح. المبحث السادس: مكملات التحقيق (السوابق واللواحق). السوابق: المقدمة، وفيها قاعدتان: القاعدة الأولى: الترجمة لمؤلف الكتاب. القاعدة الثانية: التعريف بالكتاب المحقق. • اللواحق، وهي نوعان: 1- الفهارس: القاعدة الأولى: يجب وضع فهارس للكتاب المحقق. القاعدة الثانية: تصنع الفهارس بعد التنسيق النهائي للكتاب. القاعدة الثالثة: تصنع للكتاب فهارس لفظية وترتب على حروف المعجم. والمؤلف هو د. "علي بن محمد بن حسين العِمران" (بكسر العين). • ولد في اليمن عام 1390 هـ, في السودة، إحدى ضواحي مدينة عَمران (بفتح العين). ثم انتقل إلى المملكة وهو دون الخامسة، واستقر بمدينة الطائف، وأكمل بها المراحل التعليمية الثلاث. ثم التحق بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية بكلية الحديث والدراسات الإسلامية، وتخرج فيها عام 1412 هـ بتقدير ممتاز. • حصل على درجة الماجستير في الحديث وعلومه ورسالته بعنوان «أبو جعفر النحاس وأثره في الحديث وعلومه». حصل على رسالة الدكتوراه في جامعة أم درمان بالسودان. • وهو الآن المدير العلمي لمشاريع تحقيق كتب العلماء: «ابن تيمية، وابن القيم، والمعلمي» التي كان يشرف عليها العلامة بكر أبو زيد - رحمه الله. الإنتاج العلمي: أولا: المؤلفات: 1) تعقُّبات الحافظ ابن حجر على الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، جمع وتعليق. 2) القواعد والفوائد الحديثية من منهاج السنة النبوية، جمع وتعليق. 3) المشوق إلى القراءة وطلب العلم. 4) العلماء الذين لم يتجاوزوا سنَّ الأشُدّ. 5) تذكرة الطالبين بمن تصدَّر للإفتاء والقضاء والتدريس قبل العشرين. 6) جزء في أحاديث التكلُّف، دراسة حديثية فقهية. 7) مصادر السيرة النبوية حتى القرن الخامس. 8) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية - خلال سبعة قرون - جمع وتعليق وفهرسة فنية - بالاشتراك مع الشيخ محمد عزير شمس، قدم له الشيخ العلامة/ بكر بن عبدالله أبو زيد. 9) تكملة الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية. 10) الجامع لسيرة الإمام ابن قيم الجوزية. 11) الإمام أبو جعفر ابن النحاس وأثره في الحديث وعلومه، رسالة ماجستير. 12) ترجمة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد - رحمه الله-. 13) صفحات مشرقة من أخلاق العلماء 14) بحوث ومقالات. ثانيًا: التحقيقات: 1) منجد المقرئين ومرشد الطالبين، لابن الجزري (ت 833 هـ). 2) أسامي شيوخ البخاري، للصاغاني، إخراج مخطوطته بخط مؤلفه كما هو وقدم له ووضع فهارسه. 3) عمدة القاري والسامع في ختم الصحيح الجامع، للسخاوي (ت 902 هـ). 4) غنية المحتاج ختم صحيح مسلم بن الحجاج، للسخاوي (ت 902 هـ). 5) تجريد التوحيد المفيد، للمقريزي (ت 845 هـ). 6) منسك شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ). 7) تقييد المهمل وتمييز المشكل، لأبي علي الجيَّاني (ت 498 هـ)، دراسة وتحقيق، طُبع في ثلاثة مجلدات - بالاشتراك مع الشيخ محمد عزير شمس. 8) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، لابن الوزير اليماني (ت 840 هـ)، دراسة وتحقيق في مجلدين - قدم له الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد، وأثنى على عمله يراجع في مقدمته. (طُبع في مجلدين). 9) النفحة القدسية والتحفة الأنسية، للحفظي (ت 1232 هـ). 10) مختصر الصارم المسلول، للبعلي (ت 778 هـ). 11) شفاء العليل اختصار بطلان التحليل، للبعلي. 12) المنهج القويم اختصار اقتضاء الصراط المستقيم، للبعلي. 13) ذيل التبيان لبديعة البيان، للحافظ ابن حجر (ت 852 هـ). 14) بدائع الفوائد، لابن القيم، في خمسة مجلدات. 15) صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدين، ليحيى بن الحسين بن القاسم 16) ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن عبدالهادي (ت 744 هـ)، (طُبع) باسم «العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية». ويليه في نفس المجلد: 17) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، للبزار. 18) تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل، لابن تيمية، تحقيق بالاشتراك مع الشيخ عزير شمس، (طُبع) الطبعة الأولى في مجلدين، والطبعة الثانية مع مزيد من التنقيح والتصحيح في مجلد واحد. 19) شرح مراقي السعود (نثر الورود)، للشنقيطي، (في مجلدين). 20) السياسة الشرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 21) الرد على أبي الحسن الشاذلي في حزبه، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (طُبع) طبعة أولى ناقصة، ثم طبعة ثانية تامة بعد العثور على النقص في المخطوط. 22) المجموعة السابعة من «جامع المسائل»، لشيخ الإسلام ابن تيمية. 23) رفع اليدين في الصلاة، لابن القيم. 24) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، لابن القيم، تحقيق بالاشتراك مع الشيخ نبيل السندي. 25) شرح العمدة، لابن تيمية، تحقيق بالاشتراك مع المشايخ: محمد أجمل الإصلاحي، ومحمد عزير شمس، وزاهر بالفقيه، ونبيل السندي. وضمن مشروع «آثار الشيخ المعلمي» (المطبوع): 26) تراجم مختارة، للشيخ المعلمي، مجلد. 27) الوحدان من الرواة، للشيخ المعلمي، مجلد. 28) المقدمات، للشيخ المعلمي، مجلد. 29) الرسائل المتبادلة، للشيخ المعلمي. 30) يسر العقيدة الإسلامية، للمعلمي. 31) منتخب طبقات المدلسين، للمعلمي. 32) علم الرجال، للمعلمي. 33) عمارة القبور- المبيضة، للمعلمي. 34) عمارة القبور - المسودة، للمعلمي. 35) الأنوار الكاشفة، للمعلمي. مجلد. 36) الاستبصار في نقد الأخبار، للمعلمي. 37) العبادة، للمعلمي. 38) رد المعلمي على بعض شراح الترمذي.
في التثقيف اللغوي لنسرين أكرم عبيد صدر حديثًا كتاب " في التثقيف اللغوي... التنبيه على أخطاء شائعة من جراء الترجمة الحرفية، والاستعمالات المغلوطة لحروف الجر "، تأليف: د. " نسرين أكرم عبيد "، ضمن سلسلة " قضايا لغوية "، نشر: " الهيئة العامة السورية للكتاب ". ويتضمن الكتيب دراسة في بعض الأغلاط الشائعة التي يقع فيها كثير من الناس نتيجة الجهل بدقائق لغتنا العربية الجميلة، وهو بمثابة دليل يتهدى به العاملون في حقل التدقيق اللغوي للنصوص، يدل على الخطأ، وينبه على صوابه. وقد اجتهدت المؤلفة في تتبع الأغلاط الشائعة التي أقحمتها في لغتا المعاصرة الترجمةُ غير الاحترافية لكثير من النصوص التي نُقلت إلى العربية، ثم سردت الأغلاط الشائعة في استعمال حروف الجر منسوقة على حروف الهجاء. ونجد أن الموضوع الأول المتعلق بأخطاء الترجمة تفرعت عنه عدة مباحث في بيان الأخطاء في الأساليب اللغوية، وأخطاء في استعمال كلمات لغير ما وضعت له، واستعمال كلمات أجنبية لها مرادافات عربية. بينما نبهت الكاتبة في موضوعها الثاني على الأخطاء الشائعة في استعمالات حروف الجر، ووضعت جدولًا بالاستعمالات الصحيحة لحروف الجر، وجدولًا بما يجوز فيه وجهان أو أكثر. تقول الكاتبة: "وقفت في القسم الثاني من الكتاب على الأخطاء الشائعة في استعمالات حروف الجر، ذاكرة إياها في ترتيب ألفبائي، قصد تسهيل الرجوع إليها متى وقعت الحاجة إلى تلمس الصحيح في استعمالها، فضلًا عن أحرف الجر التي يجوز في استعمالها وجهان أو أكثر؛ لعلي بذلك أتمكن من إقرار الأوجه الصحيحة للاستعمال في أذهان المتلقين، ومن ثم في كتاباتهم، بدلًا من الاكتفاء بالشكوى والتذمر من كثرة الأخطاء وشيوعها". وهذا الكتيب يهدف في المقام الأول إلى تنقيح لغة المتلقي والارتقاء بها في معارج السلامة والصفاء اللغوي.
خروج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نفَّذ خَتَنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو العاص بن الربيع الوعد بإطلاق زينب لكي تهاجر إلى المدينة، وقد استعدت للهجرة وتجهزت لها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار، فقال لهما: كونا ببطن يأجج - على بعد ثمانية أميال من مكة - حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها، فخرجا، وذلك بعد بدر بشهر أو أكثر قليلًا، وقد أحست هند بنت عتبة بأن زينب تعد العدة للحاق بأبيها في المدينة، فقالت لها: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقالت زينب: ما أردت ذلك، فقالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك، فلا تضطني - تستحي - مني؛ فإنه لا يدخل بين النساء خلاف الرجال، قالت زينب: والله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، ولكني خفتها، فأنكرت أن أكون أريد ذلك، ثم أتمت تجهيز ما يلزمها وقدم لها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيرًا، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا يقود البعير وهي في هودج لها، وتحدث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود فروعها بالرمح وهي في هودجها، وكانت حاملًا، فلما ريعت طرحت ما في بطنها وبرك كنانة ونثر كنانته، ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا، فتراجعوا عنه، وأتى أبو سفيان في جلة من قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصِبْ، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا أخرجت ابنته إليه علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك على ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثؤرة - طلب ثأر - ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسلها سرًّا وألحقها بأبيها، وكان هذا حكمة من أبي سفيان، ففعل ذلك، حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلًا، وسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقيت زينب في كنف أبيها وهي على ذمة زوجها لم تطلق منه، وخرج أبو العاص بن الربيع في تجارة للشام بمال له ولقريش، وفي العودة تعرض له المسلمون واستولوا على تجارته، لكنه هرب منهم ولجأ إلى زينب، وعند صلاة الفجر بعد أن كبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر الناس أطلت زينب من مصلى النساء وقالت: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، وبعد أن سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أيها الناس، هل سمعتم ما سمعتُ؟ ))، قالوا: نعم، قال: (( أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم ))، ثم انصرف ودخل على ابنته وقال لها: (( أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك؛ فإنك لا تحلين له ))، كان هذا بسبب اختلاف الدين؛ فالإسلام فرق بينهما، ثم بعث في طلب الذين أصابوا قافلته، وخيَّرهم بين ردها له وذلك لمكانته عند رسول الله أو أخذها على أنها فيء لهم، فردوها ما نقص منها شيء، وانطلق إلى مكة فأدى للناس حقهم وعاد وقال لهم: هل بقي لكم عندي شيء؟ قالوا: لا، فقد وجدناك كريمًا، ثم قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا مخافتي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل مالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه زينب على النكاح الأول، وكان مدة الانفصال قريبًا من ست سنوات.
سعيد بن زيد رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين؛ أما بعد: فسعيد بن زيد هو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين في الدخول إلى الإسلام؛ ولذلك أحببت أن أذكر بعضًا من سيرته المباركة حتى يستفيد منها طلاب العلم الكرام في حياتهم، فأقول وبالله تعالى التوفيق: التعريف بنسب سعيد بن زيد: هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعُزَّى بن رياح بن عدي بن كعب بن لؤي. أم سعيد بن زيد هي: فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد من خزاعة؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 289، 290]. سعيد بن زيد هو ابن عم عمر بن الخطاب؛ حيث يجتمعان معًا في نفيل بن عبدالعزى. تزوج سعيد بن زيد فاطمة بنت الخطاب، أخت عمر بن الخطاب. وتزوج عمر بن الخطاب عاتكة بنت زيد، أخت سعيد بن زيد؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 2، ص: 253]. أولاد سعيد بن زيد وبناته: الله سبحانه وتعالى رزق سعيد بن زيد من الأولاد أربعة وثلاثين؛ من الذكور أربعة عشر، ومن الإناث عشرين؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 292]. إسلام سعيد وهجرته إلى المدينة: روى ابن سعد عن يزيد بن رومان، قال: "أسلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 292]. هاجر سعيد بن زيد إلى المدينة، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أُبِيِّ بن كعب؛ [أسد الغابة لابن الأثير، ج: 2، ص: 253]. أحاديث سعيد بن زيد: روى سعيد بن زيد ثمانية وأربعين حديثًا، اتفقا له الشيخان على حديثين، وانفرد البخاري بثالث. روى عن سعيد بن زيد عبدُالله بن عمر، وأبو الطفيل، وعمرو بن حريث، وزِرٌّ بن حبيش، وأبو عثمان النهدي، وعروة بن الزبير، وعبدالله بن ظالم، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وطائفة؛ [سير أعلام النبلاء للذهبي، ج: 1، ص: 125 و143]. جهاده في سبيل الله تعالى: سعيد بن زيد لم يشهد غزوة بدرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله مع طلحة بن عبيدالله في مهمة، قبل الغزوة. روى ابن سعد عن حارثة الأنصاري: "لما تحيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصول عِيرِ قريش من الشام، بعث طلحة بن عبيدالله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليالٍ يتحسَّبان خبر العير، فخرجا حتى بلغا الحوراء، فلم يزالا مقيمَين هناك، حتى مرت بهما العير، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قبل رجوع طلحة وسعيد إليه، فندب أصحابه وخرج يريد العير، فسارت عير قريش نحو الساحل، وأسرعت وساروا الليل والنهار فَرَقًا خوفًا من الطلبة، وخرج طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد يريدان المدينة ليُخْبِرا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر العير، ولم يعلما بخروجه، فقدِما المدينة في اليوم الذي لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفير من قريش ببدر، فخرجا من المدينة يعترضان رسول الله، فلقياه منصرفًا من بدر، فلم يشهد طلحة وسعيد الوقعة، وضرب لهما رسول الله بسهامهما وأجورهما في بدر، فكانا كمن شهدها"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 293، 292]. شهِد سعيد بن زيد غزوةَ أُحُد والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معركة اليرموك، وفتح دمشق؛ [الإصابة لابن حجر العسقلاني، ج: 2، ص: 44]. الإسلام يدخل قلب عمر بن الخطاب في بيت سعيد: روى ابن سعد عن أنس بن مالك قال: "خرج عمر بن الخطاب متقلِّدَ السيف، فلقِيَه رجل من بني زهرة، قال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدًا، قال: وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت - دخلتَ في دين محمد وتركت دينك الذي أنت عليه - قال الرجل: أفلا أدلك على العجب يا عمر؟ إن خَتَنَكَ – صهرك - سعيد بن زيد وأختَك قد صَبَوا وتركا دينك الذي أنت عليه، قال: فمشى عمر غاضبًا حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين، يُقال له خباب، فلما سمِع خباب حسَّ عمر توارى في البيت، فدخل عليهما، فقال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ قال: كانوا يقرؤون طه، فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما، قال فقال له سعيد بن زيد: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على خَتَنِهِ فوَطِئه وطئًا شديدًا، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده نفحة، فدَمِي وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلما يئس عمر، قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأَه، وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقُم فاغتسل أو توضأ، فقام عمر فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ: ﴿ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى * وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 1 - 14] فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر، خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام))، ثم قال خباب: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا - دار الأرقم بن أبي الأرقم - فانطلق عمر حتى أتى الدار، قال: وعلى باب الدار حمزة بن عبدالمطلب وطلحة بن عبيدالله، وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى حمزة خوفَ القوم من عمر قال حمزة: نعم، فهذا عمر، فإن يُرِدِ الله بعمر خيرًا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه و سلم، وإن يرد غير ذلك، يكن قتله علينا هينًا، قال: والنبي عليه السلام داخل يُوحَى إليه، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، فقال: أما أنت منتهيًا يا عمر، حتى يُنزِل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة، اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب، قال: فقال عمر: أشهد أنك رسول الله، فأسلم، وقال: اخرج يا رسول الله"؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 203، 202]. سعيد بن زيد من أهل الجنة: روى الترمذي عن عبدالرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعليٌّ في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة))؛ [حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث: 2946]. إجابة دعاء سعيد بن زيد على من ظلمه: روى مسلم عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن أروى بنت أويس خاصَمَتْهُ في بعض داره، فقال: "دعوها وإياها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه طُوِّقَه في سبع أرضين يوم القيامة))، اللهم إن كانت كاذبةً، فأعْمِ بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجُدُرَ، تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرَّت على بئر في الدار فوقعت فيها، فكانت قبرها"؛ [مسلم، حديث: 138]. والد سعيد على ملة نبي الله إبراهيم: كان زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد يعبد الله تعالى على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم. 1- روى البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لقِيَ زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح - اسم مكان - قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفْرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكلُ مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذُكِرَ اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماءَ، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؛ إنكارًا لذلك، وإعظامًا له))؛ [البخاري، حديث: 3826]. 2- روى البخاري عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين ويتبعه، فلقِيَ عالمًا من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلِّي أن أدينَ دينكم، فأخبرني فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أَحمِل من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنَّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقِيَ عالمًا من النصارى فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأنى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم))؛ [البخاري، حديث: 3827]. 3- قال الليث بن سعد: "كتب إليَّ هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت، قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"؛ [البخاري، حديث: 3823]. عمر سعيد بن زيد عند وفاته: توفيَ سعيد بن زيد رضي الله عنه بالعقيق - مكان قريب من المدينة - وقام بغسله سعد بن أبي وقاص، ثم حُمِلَ ودُفن بالمدينة، ونزل في حفرته سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر، وذلك سنة خمسين أو إحدى وخمسين من الهجرة، وكان عُمْرُ سعيد بن زيد عند وفاته بضعًا وسبعين سنة؛ [الطبقات الكبرى لابن سعد، ج: 3، ص: 294]. ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الـحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم الكرام، وأرجو كل قارئ كريم أن يدعو الله سبحانه لي بالإخلاص، والتوفيق، والثبات على الحق، وحسن الخاتمة، فإن دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب مستجابة؛ وأختم بقول الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخر دعوانا أن الـحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مـحمد، وآله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين.
يوسف الصديق عليه السلام (5) بعد أنَّ مكَّنَ الله عز وجل ليوسفَ وقرَّر ملِكُها جعلَه عزيزَها، وأطلق له حرية التصرف في خزائن الأرض، واحتاج القاصي والداني إلى الميرة من عنده، وكانت الأقطار المجاورة لمصر ولا سيما أرض كنعان في حاجة شديدة إلى الطعام وقتئِذٍ، صاروا يجيئون إلى يوسف عليه السلام يمتارون لأنفسهم وعيالهم وأهلهم، يحملون معهم إلى مصر ما عندهم من بضائع وأثمان، وكان يوسف عليه السلام قد قرَّر أنه لا يُعطى أحدٌ من هؤلاء إلا مقدارًا معينًا من الكيل في النوبة الواحدة، وله أن يرجع في وقت آخر في المستقبل ليأخذ مرة أخرى على الطريقة المعروفة في العصر الحديث، وفي بعض أمصار العالم بنظام التموين. ﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ ليمتاروا عندما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه، فأخذوا معهم بضاعةً يعتاضون بها طعامًا، وقد أبقى يعقوب عليه السلام ولده بنيامين عنده، فلما وصلوا إلى يوسف عليه السلام ودخلوا عليه عرفهم؛ لأنهم عندما رموه في الجُب كانوا كبارًا بالغين فلم تتغيَّر صُورهم، أمَّا يوسف عليه السلام عندما رُمي في الجب كان صغيرًا، والصغير إذا شب وبلغ أشده لا يكاد يعرفه مَن رآه في الصِّغر فقط؛ لأنه في الغالب تتغيَّر ملامحه؛ ولذلك لم يعرفْه إخوته ولم يخطر على بالهم أنه يوسف الصدِّيق، والظاهر أن يوسف عليه السلام أخذ يسألهم عن أحوالهم وأهليهم ليصل مِن وراء ذلك إلى الاطمئنان على حال أبيه وأخيه بنيامين، فعرَّفوه بحالهم وأن لهم أخًا من أبيهم؛ وأن أباهم هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فأكرمهم يوسف عليه السلام وأظهرَ العنايةَ بهم، وأمر بجهازهم ووفَّى لهم كيلَهم كأنه قال لهم: لقد شوَّقتموني إلى أخيكم من أبيكم وأنا حريصٌ على رؤيته، ولن تحصلوا على كيلٍ منَّا في المستقبل في النوبات القادمة إلا إذا جئتموني بأخيكم من أبيكم، ولكم منِّي زيادة في تكريمكم حينئذٍ بأني أزيدُكم كيلَ بَعير، وأضاعف لكم الميرةَ، وأوعز إلى غلمانه أن يدسوا في رحالهم جميعَ ما جاؤوا به من بضاعة؛ زيادةً في صلة رحمهم وإحسانًا إليهم، وإبقاءً لثرواتهم معهم ليعودوا بها إلى يوسف تحنثًا، وإنما لم يضع بضاعتهم في رحالهم علنًا؛ لأنه ربما يؤدي ذلك إلى امتناعهم عن أخذها. وقد قالوا ليوسف عليه السلام: سنبذل كلَّ جهدنا في إحضار أخينا من أبينا معنا في المرة القادمة، وسنحاول مع أبيه في ذلك بكل ما نطيق، ولن نُقصِّر في ذلك. فلما رجعوا إلى أبيهم أخبروه بقصَّتهم مع عزيز مصر، وأنه قرَّر ألا يكيل لنا في المستقبل إلا إذا أحضرنا أخانا بنيامين معنا، فنرجو أن ترسله معنا لنكتالَ، وسنحافظ عليه أشدَّ المحافظة، قال يعقوب عليه السلام: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم؟! وزعمتم أنكم ستحافظون عليه عندما قلتم في يوسف: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12] لكنَّ الله تعالى هو الحافظ له، وهو خير الحافظين، ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾، ﴿ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ﴾ [يوسف: 65] ما نريد؟ لقد أوفى لنا الكيلَ وَرَدَّ إلينا بضاعتَنا، وأحسن مثوانا، فأرسل معنا بنيامين في المرة القادمة؛ لنَمير أهلنا؛ أي: نأتيهم بالميرة وهي الطعام، وسنحفظ أخانا، ﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ [يوسف: 65]؛ ذلك العطاء الجزل سهل على هذا العزيز الكريم، فقرَّر يعقوب عليه السلام أن يُرسل معهم بنيامين بشرط أن يُؤتوه عهدَ الله وميثاقَه أن يحافظوا عليه، وأنهم لا يقصِّرون في حِفظه إلا إذا بُلوا بشيء لا طاقةَ لهم به، ولا قدرةَ لهم على دفعه، فلما حلفوا له ووثقوا عهدهم أشهد يعقوب اللهَ تعالى على عهدهم وميثاقهم، و﴿ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66]. ولمَّا تقرَّر سفرُهم للميرة نصَحَهم يعقوب عليه السلام بأنهم لا يدخلون من باب واحد، وإنما يدخلون من أبواب متفرِّقة؛ إما من خوف العين عليهم إذا كانوا مجتمعين، وعُرف أنهم أبناءُ رجل واحد، وإما من خوف أن يُحصَروا جميعًا إذا كان أُريد بهم شرٌّ، غير أن يعقوب عليه السلام بيَّن أن الحذر لا ينجي من القدَر، وأنَّ حِرصه على سلامتهم لن ينفعهم إذا كان الله عز وجل أراد أن يضرَّهم، فقضاء الله نافذ، وحكم الله غالِب، ولله وحدَه الحكم، وعليه أتوكَّل وأعتمد، ويجب على كلِّ مؤمن أن يكون توكله على الله واعتماده عليه وحده لا إله غيره ولا رب سواه. وسارت القافلة ووصلوا إلى مصر، ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ﴾ [يوسف: 68] من الأبواب المتفرقة مع صِدق ما قال يعقوب عليه السلام أنه ما يُغني عنهم من الله من شيء؛ لأن الله وحدَه هو الحافظ، لكن الله تبارك وتعالى نفعهم بما علَّمهم أبوهم، وقد علمه الله عز وجل، فوصية يعقوب لبنيه وصية حقٍّ، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68]، والعين حق؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العَيْنُ حَقٌّ))، كما أخرج مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العَيْنُ حَقٌّ، ولو كان شيءٌ سابقَ القدرِ لسبقتْهُ العين)). وقد ذكرَ الله تبارك وتعالى ما كان من مجيء إخوة يوسف إليه ودخولهم عليه، وما صار من جهة الكيل ودسِّ البضاعة في أوعيتهم ورحالهم، وطَلَبِ أخيهم غيرِ الشقيق، ورجوعهم إلى أبيهم، ومُرَاودتِه في بنيامين حتى قرَّرَ إرساله معهم، ووصيَّة أبيهم لهم عند دخولهم، وتقرير أن الأمر كلَّه لله، وأن الحذر لا ينجي من القدر، والإشارة إلى أن العَيْنَ حَقٌّ، حيث يقول عز وجل: ﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 58 - 68]. وقد أشار اللهُ تبارك وتعالى إلى أن إخوةَ يوسف لما دخلوا عليه ومعهم أخوهم بنيامين وتلقاهم يوسف عليه السلام بما يُثلج صدورهم ويطمئن نفوسهم، أسرَّ إلى بنيامين وقال له: ﴿ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ﴾ [يوسف: 69]، فلا تحزن بما أصابك من إخوتك بسبب الحسَد، وأمره ألَّا يخبرهم بأن هذا العزيزَ هو أخوهم، وتواطَأَ معه على أنه سيحتال على أن يُبقيه عنده، وأفهمه أن جمعَ جميعِ الأحبةِ قريبٌ؛ لما خططه يوسف عليه السلام ودبَّره حتى يجيءَ إليه أهله أجمعون، وعلى رأسهم أبوه يعقوب عليه السلام، وأنه لمَّا جهزهم بجهازهم، ووفَّى لهم كيلهم، وزادهم كيلَ بعيرٍ دَسَّ السقايةَ - وهو صُواع الملك - في رَحْل أخيه بنيامين، دون أن يراه أحدٌ من غلمانه أو غيرهم، ولما افتقد فتيان يوسف الصواع، وشاع أنه سُرق نادى منادٍ: ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ ﴾ يا أهل القافلة، ﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾، قال أهلُ القافلة بمن فيهم من إخوة يوسف وقد انزعجوا: ماذا ضاع منكم؟ ﴿ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ [يوسف: 72]، ولم يكن يوسف عليه السلام هو الذي نادى، ولا هو الذي أمر المنادي، وإنما المسؤول عن المحافظة على أمواله هو الذي نادى أو أمر المنادي، فلا يقول قائل: كيف يليق بيوسف عليه السلام مع علوِّ منصبه وشريف مرتبته من النبوَّة والرسالة أن يتَّهم أقوامًا بالسرقة وهم براء؛ لأنَّ عمل يوسف عليه السلام اقتصر على جعله ﴿ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ﴾، وهذه لا حرج فيها، أمَّا المنادي أو الآمر بالنداء فلم يكن يوسف عليه السلام، وقد قال أهلُ القافلة للمنادي بفقد الصواع: واللهِ لقد علمتم أننا في أَمَسِّ الحاجة للتردُّدِ عليكم، ومثلنا مع حاجته إليكم لا يُفْسِدُ في أرضكم، ولا يسرق منها، فقال المسؤولون عن المحافظة على الغلال والأمتعة: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في دعواكم أن الصُّواع ليس معكم، وثبت أن صواع الملك في رَحْل بعضكم؟ قالوا: جزاءُ من وُجِدَ في رحله صواعُ الملك أن يؤخذَ ويصيرُ في خدمة الملك جزاءً له على ذلك، كذلك النظام الذي نجازي به السارقين. وهنا بدأ يوسف عليه السلام بالتفتيش والبحث في رحالهم قبل التفتيش في رحل أخيه ووعائه؛ لأنه لو بدأ برحل أخيه لخطر ببالهم أنها حيلة لأخذ أخيهم، فأخَّر تفتيش رحل أخيه؛ ليدفع هذه الخاطرة عنهم، ثم استخرجها من وعاء أخيه، يقول الله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾؛ أي: كذلك ألهمنا إخوة يوسف أن يحكموا على مَنْ سرق الصواع بأن يؤخذ به كما ألهمنا يوسفَ بِدَسِّ الصُّواعِ في رحل أخيه، وهذا الذي فعله يوسف عليه السلام من الكيدِ المحبوب الذي يحبه الله ويرضاه، ولكن الله عز وجل يرفع من يشاء من عباده درجات، ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76].
المضامين التربوية المستنبطة من فترة وجود يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن (2) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: استكمالًا لما تم طرحه في المقال الأول حول هذا العنوان البحثي لهذه الفترة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام، ‏وما تضمنته من مضامين تربوية، حاولتُ جاهدًا استنباطها؛ لأن المقصود الأعظم من قراءة كتاب الله أن يتدبر القارئ الآيات القرآنية؛ ليسترشد بها في حياته، ولا شك أن قصص الأنبياء من المصادر العظيمة التي لا ينضب معينها مهما تدبر المتدبرون لها؛ لذا أطرح بين يدي القارئ الملح الثاني من ملامح هذا الموضوع البحثي، ونحن نتكلم عن هذه الفترة من حياة يوسف عليه السلام، وأسميتها: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أودع في السجن ظلمًا وبهتانًا، وبعد استعراض هذه الطبيعة من حياة نبي الله يوسف عليه السلام في هذه الفترة، سوف أبحر بفكري في استنباط بعض المضامين التربوية لعل الله أن ينفعنا بها، وينفع بها من يطالعها، والله الهادي لسواء السبيل. فأقول مستعين بالله: لتحديد طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع السجن، فلا مجال لتحديدها وكيفيتها على الوجه الصحيح إلا من خلال ما اشتملت عليه الآيات القرآنية في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلة إلا ما حدَّده الله عز وجل وتعرَّض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم، وما عدا هذين المصدرين فيجب عدم التسليم له. ومن هنا فإن الباحث يستعرض الآيات التي تضمنت هذه الفترة ويعود إلى بعض التفاسير الموثوق بها في هذا المجال التي لا تتعرض للخوض والتحديد إلا بما ورد نصًّا، وعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشرة آية من الآية 21 إلى الآية 32. أولى هذه الآيات لهذه الفترة، قاله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]. هذه الآية تشير بكل وضوح إلى طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام منذ وصوله بيت عزيز مصر، فقد أوصى به زوجته بأن تُحسِن رعايته وإكرامه ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾ ، والمثوى مكان الثوي والمبيت والإقامة، والمقصود بإكرام مثواه: إكرامه، ولكن التعبير جاء هنا أعمق؛ لأنه جعل الإكرام لا لشخصه فحسب، بل ولمكان إقامته، وهذا مبالغة في إكرامه عليه السلام. وهذا الإكرام من عزيز مصر ليوسف عليه السلام، كان لمَّا توسَّم فيه من النجابة؛ لذا قال: ﴿ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ "إما أن ينفعنا كنفع العبيد، بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع به استمتاعنا بأولادنا" [1] . فعاش كريمًا مكرمًا بعد تلك المحنة التي تعرض لها من إخوته بإلقائه في الجُبِّ وبيعه لعزيز مصر على أنه رقيق وعبد وخادم يُباع ويُشترى، ولكن الله عز وجل سخر له ذلك الرجل وهيَّأ له تلك الإقامة التي أتاحها له طريق العلم وتأويل الأحاديث، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ ، قال السعدي: "كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض، من هذا الطريق.. إذا بقي لا شغل له ولا هم سوى العلم؛ صار ذلك من أسباب تعلمه علمًا كثيرًا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك" [2] . ثم يُبيِّن الله حقيقةً وسنةً ربانيةً لا تتغيَّر بزمان ولا بمكان، بل هي ماضية ثابتة في كل زمان ومكان ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ، قال السعدي: "أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب" [3] ، وإن كان يجهل هذه الحقيقة أكثر الناس بنص القرآن، فالسنة الربانية مُتحقِّقة بأن الله غالب على أمره، وأن النصر والتمكين في نهاية المطاف لأهله وخاصته، وهذا مُتحقِّق في يوسف عليه السلام بعدما وجد وعانى ما عانى من الابتلاء في حياته؛ فتحقق في يوسف عليه السلام ما أراد الله له من التمكين مع ما فعل به أخوته ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ ! ويكبر يوسف عليه السلام ويشب في بيت عزيز مصر، ويبلغ مبلغ الرجال مع إتيانه العلم والحكمة وتأويل الحديث الذي هيأ الله له السبل في نيله في الفترة الماضية التي وجد فيه إكرام المثوى وحسن الإقامة. وتبدأ مرحلة جديدة من حياته عليه السلام، يجد فيها محنةً وابتلاءً جديدًا من نوع آخر قل ما يثبت عنده الرجال الكبار، فكيف بالشباب الذين يتدفقون حيويةً ونشاطًا وطاقةً وقوةً في جميع مجالات حياتهم؟! فكيف إذا امتلك أحد هؤلاء الشباب مقومات الجمال، وسهولة إرواء الغرائز البشرية الهائجة المتدفقة، وجاءته الدعوة صريحة من الطرف الآخر لإروائها في أمن وأمان من أعين الآخرين؟! هنا لا يثبت أمام هذا الإغراء الفاتن إلا من ثبَّتَه الله عز وجل بالإيمان اليقيني، قال صلى الله عليه وسلم: "سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه -وعد منهم- ورجلٌ طلبتهُ امرأةٌ ذات منصب وجمال، فقال: إني أخافُ الله.." [4] . ويوسف عليه السلام نموذج حيٌّ لهذه الشخصية الشابة التي انتصرت على شهوتها، وقالت بكل صراحة ووضوح وإيمان واستعلاء: "إني أخافُ الله"، قال الله عز وجل حاكيًا هذه الفترة من عمره عليه السلام: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 22- 23]. فيحكي الله عز وجل في هذه الآيات قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام وهو في قعر بيتها "والمسكن واحد يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه من غير شعور ولا إحساس بشر، وزادت المصيبة بأن [غلَّقَت الأبواب] وصار المحل خاليًا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما؛ بسبب تغليق الأبواب" [5] . ومع هذا التهيؤ الكامل من امرأة العزيز في الوضع الداعي إلى الفاحشة بأنها بادرت بدعوة يوسف عليه السلام إلى نفسها: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ﴾ ؛ أي: افعل الأمر المكروه وأقبِل إليَّ، قال السعدي (ص408): ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك. وهنا يعلن يوسف عليه السلام بكل ثبات المؤمن بالله، المعتز بإيمانه، المراقب لله عز وجل في خلجاته وسكناته، قال: ﴿ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ . والنص القرآني صريح وبيِّن وقاطع في أن رد يوسف عليه السلام كان مباشرًا على هذا الإغراء والدعوة إلى الفاحشة بالتأبي والتمنُّع المصحوب بخوف الله عز وجل ومراقبته، وتذكُّر نعمة الله تعالى عليه، وهكذا عندما يعلو الإيمان في قلب صاحبه لا يلتفت إلى شيءٍ من هذه التُّرَّهات الرخيصة الفانية؛ فما أعظم تلك النفوس المؤمنة عندما يعلو بها الإيمان! وهنا لا بُدَّ أن نذكِّر بأن النفس المؤمنة وإن ضعفت؛ لكثرة المغريات، وتفنُّن العرض للشهوات الفاتنة؛ لكنها سرعان ما تنتصر عليها إذا تذكرت مخافة الله ومراقبته، علا بها الإيمان، ومضت في طريقها عزيزةً كريمةً، أمَّا إن كان ذلك الضعف مجرد خاطر وهم نفسي لا يعقبه عزم وفعل ولم يمضِ في طريق الغواية؛ فإن هذا يعد من كمال النفس الإنسانية، وواقعية هذا الدين الذي يتعامل مع هذه النفس في جميع مناحي الحياة بكل اعتدال ووسطية وفق منهج الإسلام الذي يقر الغرائز؛ ولكنه يُهذِّبها ويُوجِّهها إلى وجهتها الصحيحة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، وقال صلى الله عليه والسلام: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثَتْ به أنفسَها ما لم تعمل، أو تتكلم" قال قتادة إذا طلَّق في نفسه فليس بشيء" [6] . ثم بعد هذا الاستطراد المهم لتوضيح هذه الفترة بالذات، نعود بالحديث إلى سياق أحداث يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، في هذه الفترة المحرجة، مع هذا الإغراء من امرأة العزيز؛ فحاول يوسف عليه السلام أن يهرب من موطن الشهوة، ويجد له منفذًا ينفذ من خلاله، فيلتفت يمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا؛ فيرى الباب لعل أن يكون فيه منفذ، وإن كانت امرأة العزيز أحكمت الإغلاق؛ ولكن يبقى لدى العفيف أمل أن يجد له مخرجًا من هذا الابتلاء؛ فيهرول مسرعًا نحوه؛ فتحاول امرأة العزيز في نفس الوقت منعه؛ فتعدو خلفه مسرعةً لتمسك به، وهي لا تزال في هيجانها الهستيري؛ فتشد قميصه من دبره لتمنعه من الوصول للباب ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ ؛ ولذا يصور القرآن هذا المشهد وكأنه واقعة عين يشاهدها الناظر، وهذا مما امتاز به الأسلوب القصصي القرآني، قال تعالى: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25]؛ أي: "زوجها لدى الباب، فرأى أمرًا شق عليه" [7] . نعم لقد حصلت مفاجأة لم تكن في حسبان امرأة العزيز، وهي في كمال حلتها وجمالها وبهائها وزينتها المبالغ فيها التي لا يعد مثلها إلا لفراش الزوج، ومع ذلك فهي راكضة في هذه الحالة وراء يوسف عليه السلام إلى الباب، وهو يريد الخلاص منها، فيدخل زوجها ويرى المشهد ماثلًا أمامه، وهنا تفيق قليلًا من وَلَه الغرام والتعلُّق بيوسف عليه السلام، وإن كانت عازمة على المضي في إرواء عطشها منه! فتقول بذكاء ودهاء وضبط للأعصاب فوق ما يتصور: ﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 25] فتستغل ذكاءها ودهاءها بهذه السرعة الفائقة؛ لتوظف الموقف لصالحها، وتبرئ نفسها وتبرئ يوسف عليه السلام من الفعل، مع كل الأمور المحيطة بالحدث التي تشير إلى إدانتها، وبراءة يوسف عليه السلام، بل وتقترح آلية العقوبة التي تضمن لها سلامة من هي عازمة على مراودته! قال السعدي: "(ولم تقل من فعل بأهلك سوءًا) تبرئة لها، وتبرئة له أيضًا، من الفعل. وإنما النزاع عن الإرادة، المراودة" [8] ، ثم ما لبثت أن اقترحت امرأة العزيز العقوبة المناسبة فقالت: ﴿ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ . وفي هذا المشهد المهيب ووقوف عزيز مصر بنفسه، يعلن يوسف عليه السلام براءته من هذه التهمة الباطلة قائلًا: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 26]. ثم يذكر السياق القرآني أن أحدًا من أهلها تدخَّل ليحسم الموقف بشهادته، قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]، وإذا بالقميص قُدَّ من دبر؛ لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته، فشقت قميصه من هذا الجانب" [9] . فلما ظهرت براءة يوسف عليه السلام بهذه الشهادة القاطعة، ورأى ذلك سيدها- أي: عزيز مصر وهو زوجها- فقال لها بكل برود وضعف غيرة وضعف امتعاض من موقفها المخزي، وهي في هذه الحالة الفاضحة: ﴿ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 28]، ثم يلتفت إلى يوسف عليه السلام البريء الطاهر النقي التقي فيقول له: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ [يوسف: 29]؛ أي "اترك الكلام فيه، وتناسه، ولا تذكره لأحد، طلبًا للستر على أهله" [10] ، ثم يُوجِّه الخطاب لامرأته قائلًا: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]، فأمر يوسف بالإعراض، وأمرها بالاستغفار" [11] ، وانتهى الأمر في ظاهر السياق من قبل الزوج على هذا التوجيه للزوجة بما يتعلق بهذا التصرف الشنيع، بعد ثبوت الدلائل وتضافر القرائن على براءة يوسف عليه السلام، وإدانتها برغبتها بفعل الفاحشة بها! ثم انتشر خبر امرأة العزيز ومراودته لغلامها يوسف عليه السلام، وهكذا الخبر والسر إذا خرج من صاحبه أو تجاوزه؛ فإنه لا يُكتَم مهما كان الحدث، ومهما كانت التوصيات والتحذيرات، والمشهد في الآيات التالية يدلل على ذلك، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30]؛ أي: إن الخبر "اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة، فجعلن يلُمْنَها أن يحصل منها هذا الحدث، حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا ينبغي أن تحدث منها، وهي حالة تحطُّ قدرها، وتضع مكانتها، وكان هذا القول منهن مكرًا كبارًا، ليس المقصود به مجرد اللوم والقدح؛ وإنما أردْنَ أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي شغف امرأة العزيز حبًّا، لتستثار امرأة العزيز وتريهن إياه ليعذرنها؛ ولهذا سُمي: مكرًا" [12] . قال الله عز وجل على لسان امرأة العزيز لما وصل إليها خبرهن: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 31- 32]. وهذه فترة ابتلاءٍ جديدة من حياة يوسف عليه السلام بعد الثبات والخروج من الموقف السابق بالبراءة التي شهد بها شاهد من أهلها، وهذه الفترة لها طابع جديد بعد انتشار خبر امرأة العزيز في البلد، ووصول هذا الخبر إليها شخصيًّا، بأن هؤلاء النسوة يقلْنَ في مجالسهن ذلك الكلام الذي يَلُكْنَه في عرضها، فما كان منها إلا أن بادلت المكر بمكر أشد من مكرهن، فـ ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ﴾ [يوسف: 31]؛ أي: محلًّا مهيَّأً بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في الضيافة طعام يحتاج إلى سكين" [13] ، وهنا والنسوة مشتغلون بالضيافة، قالت امرأة العزيز: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، فماذا حدث بعد خروجه عليهن؟! نستعرض الخطاب القرآني ونتوقف عنده ولا نتجاوزه؛ فهو أشد بلاغةً وتصويرًا للموقف، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]. وهنا تحول الموقف من مراودة فردية من امرأة العزيز إلى موقف جماعي من النسوة، وشعرت امرأة العزيز بالنصر لهذا الإعجاب والذهول والافتتان بيوسف عليه السلام، حيث إنهن قطعن أيديهن، وما شعرن بذلك، وقالوا مقولتهن: ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]! وهنا قالت امرأة العزيز أمامهن بكل تبجُّح وتفسُّخ، برغبتها الجامحة، وعشقها ليوسف عليه السلام، وعزمها الماضي على تحقيق مآربها الدنيئة منه: وإن لم يفعل ويطاوع ويُلبِّي وينجرَّ وراء تلبية غريزتها الشهوانية؛ ليودع في السجن، ﴿ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32] ويوسف عليه السلام يستمع إلى خطابها الموجه لهن: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]. فهنا لهج يوسف عليه السلام بالدعاء الصادق الخالص في الشدة والمحنة إلى الله ضارعًا إليه أن يصرف عنه كيدهن؛ لأنهن جميعًا أصبحن يراودنه، فاستجاب له ربُّه، فصرف عنه كيدهن، فهو يسمع ويرى ويعلم بالصادق فلا يخذله، ومن يعرف الله في الرخاء فإن الله لا يخذله في الشدة؛ قال صلى الله عليه السلام: "من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء"؛ رواه الترمذي وقال: حديث غريب، وحسَّنه الألباني" [14] . قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34]. وهكذا ينتصر الإيمان الممثل في شخص يوسف عليه السلام ويعلو على جميع الماديات والشهوات، واختار السجن على أن يعيش شريفًا محافظًا على دينه وخلقه وقيمه ومبادئه، فارتقى عليه السلام إلى أعلى مقامات الفضل والخير والصدق والكمال، ونشر الله له الثناء بين العالمين" [15] . المضامين التربوية المستنبطة من المحور الثاني: طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِع في السجن ظلمًا وبهتانًا، ووعدد آيات هذه الفترة اثنتا عشر آية من الآية 21 إلى الآية 23 من سورة يوسف عليه السلام: ما يلي: 1- لا مجال للعقل فيما لم يرد فيه نص من الغيبيات الماضية أو المستقبلية إلا ما حدَّده الله عز وجل، وتعرض لذكره في كتابه الكريم، أو تعرضت له السنة النبوية الصحيحة فيما ورد عن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وما عدا هذين المصدرين فهو مرفوض غير مقبول في تفسير كلام الله الصادق بما لم يثبت صدقه ولا صحته من الروايات والأخبار. 2- الفراسة من الصفات الإنسانية التي يمتلكها من يهبه الله قراءة للملامح العامة لمُحيَّا الإنسان منذ الوهلة الأولى، وهي للمؤمن والكافر على حدٍّ سواء؛ ولذا تحققت فراسة عزيز مصر في نجابة يوسف عليه السلام ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21]، وإن كانت فِراسة المؤمن أدقَّ تحديدًا وأصدق هدفًا. 3- إذا أراد الله أمرًا لشخص ما هَيَّأ له السُّبُل الموصلة إليه، ولو كانت تلك السُّبُل في ظاهرها أنها شَرٌّ لذلك الشخص، فيوسف عليه السلام تعرَّض لمحن عدة، من الجُبِّ إلى الرقِّ إلى السجن، وما تلا ذلك من الابتلاءات المتعددة، وفي نهاية المطاف تحقق ما أراده الله له من التمكين والعلم والتأويل ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]. 4- كثير من الناس يتناسى ويغفل السنن الكونية الربانية؛ ولذا إما أن يتخلى عن العمل الموصل لهذه السنن الربانية الكونية، وإما أنه يعتمد على ذاته وقوته البشرية؛ لمقاومة هذه السنن، وفي نهاية المطاف كلا الفئتين خاسر لا محالة، وأن سنة الله الكونية والربانية نافذة لا محالة؛ ولهذا حاول أخوة يوسف بطبعهم البشري الضعيف، حسدًا من أنفسهم إبعاد يوسف عليه السلام والتخلص منه ومع ذلك كان خلاف ذلك ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ . 5- التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية لمن يحسن استثمار وقته من الأسباب الرئيسة للحصول على الخير الكثير من العلم والمعرفة؛ لذا بعدما ذكر الله إكرام المثوى وحسن الإقامة ليوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر، عقب عز وجل بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 21] إن يوسف عليه السلام بهذا الإكرام وحسن المثوى، وقلة الارتباطات الدنيوية، حصل له ما أراد الله عز وجل من العلم والتأويل، وهذا التفرغ وقلة الارتباطات من الأعمال الدنيوية، هو ما يحتاج إليه من يطلب العلم، ويبحث عنه هنا وهناك، سواء أكان في الدراسات العليا للماجستير والدكتوراه أو البحوث العلمية أو لغيرها مما ينفع الناس، ويعود بالفائدة لذاته ولغيره، وهو ما كنا ننعم به في مرحلة الماجستير، ونحن متفرغون لطلب العلم، وافتقدناه في مرحلة الدكتوراه، فوجدنا شدة العناء وصعوبة الجمع بين الأمرين؛ إلا لمن وفَّقَه الله ومنحه الهِمَّة العالية؛ مما يجعل مرارة العلقم في طريقه حلوًا مصفًّى؛ لأنه يستحضر أنه سالكٌ طريقًا إلى الجنة، وأن الوصول إليه بإذن الله يُنسي صاحبه كل مرارةٍ وعلقمٍ تحسَّاه، وهو يسير في ذلك الطريق. 6- وجوب البعد عن مواطن الشهوات وأسباب الفتن؛ حمايةً للعرض والدين كما فعل يوسف عليه السلام حين راودته امرأة العزيز، وحاول الهروب مع العلم أن كل ما حوله كان موصدًا؛ ولكنه أخذ بالأسباب وحاول التخلص من مواطن الفتن والشهوات ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 26، 27]. 7- إن الإخلاص سبب لكل خير في الدنيا والآخرة، وهو شرط لقبول العمل الصالح، فإن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتُغي به وجهه، ومما يعين على تحقيق الإخلاص أن يعلم المرء أن الضر والنفع بيد الله وحده [16] ؛ لذا نجَّى الله عز وجل يوسف عليه السلام بهذا الإخلاص، فقال عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]. 8- على المربي الحكيم ومن يريد أن يفصل في أمر أو يصدر حكمًا في قضية ما، أن ينظر بعين الكلية وملاحظة جميع ما يقترن بالموضوع الذي يريد أن يبت فيه بقول أو بحكم أو بتوجيه؛ فالقرائن القوية من الحيثيات الشرعية التربوية للوصول إلى الحق، وقصة يوسف عليه السلام فيها ما يشير بوجوب العمل بالقرائن القوية، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 27]؛ لأنها تريده وهو يفر منها، ويهرب عنها، فقدَّت قميصه من خلفه فتبيَّن لهم أنها هي المراودة في تلك الحال" [17] ، وكذلك من العمل بالقرائن وجود الصواع في رَحْل أخي يوسف عليه السلام" وحكمهم عليه بأحكام السرقة لهذه القرينة القوية" [18] . 9- إن سيطرة الشهوة على الإنسان، سواء أكان رجلًا أو امرأة، إذا لم يكن له ضابط من الإيمان الداخلي، ومراقبة قلبية لله عز وجل، وإلا فإنها تهوي بصاحبها إلى حضيض الحيوانية، إذا لم تكن هي نفسها الحيوانية ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]؛ ولذا صدحت امرأة عزيز مصر أمام المجتمع النسوي بالشهوة عندما وجدت منهن التشجيع والتأييد، والوقوع في حبائل ما هي تشتكي منه من الوَلَه، فقالت لهن عند ذلك، وهي تودع الحياء الفطري عند المرأة العفيفة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]. 10- إذا فقدت المرأة حياءها تفلتت من قيمها وأخلاقها، ونسيت وضعها ومكانتها، وأصبحت وأمست تركض لاهثةً وراء إرواء شهواتها ونزواتها والله المستعان! وهذا ما يسعى إليه أعداء الإسلام؛ الوصول بها إلى مرحلة من الهيجان والبحث عن الشهوة؛ لتحقيق مآربهم الدنيئة والشهوانية في القضاء على الأسرة المسلمة من خلال القضاء على المرأة وإشغالها عن أهدافها السامية؛ فضمان استقرار المجتمع وأمنه وتماسُكه ينطلق ابتداءً من تلك المرأة المسلمة الواعية بدورها في بناء المجتمع المسلم؛ لذا أصبح المجتمع النسوي في قصة يوسف عليه السلام كلهن يسعين إلى إرواء شهواتهن، وتخلين عن قيمهن وأخلاقهن ومبادئهن ومكانتهن، ومن هن في الأصل؛ ولذا قال عز وجل على لسان يوسف عليه السلام يجسد هذه الصورة: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]. 11- استحضار مراقبة الله سبحانه وتعالى في قلب العبد المؤمن، وإن ألمَّت به من المكاره والابتلاءات والتحديات الظاهرة والمعلنة ما ألمت؛ لهي خير سياج وحافظ له بعد تثبيت الله عز وجل؛ ولذا يوسف عليه السلام في هذه المواطن كلها، وربما كانت أشدها تعرض امرأة العزيز ثم النسوة له بالإغراء بفعل الفاحشة أو السجن والتعذيب، ومع ذلك يعلو على شهوات الدنيا قاطبة، بل يختار ما يكون في الظاهر أن فيه ذلًّا وهوانًا، وحقيقته رفعة وانتصار، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]. 12- يجب على المسلم أن يأخذ بجميع الأسباب المانعة والدافعة أو النافعة والجالبة حسب الموقف، ثم يفوِّض أمره لله من قبل ومن بعد لله وحده، ويعتمد الاعتماد الكلي على الله في التثبيت على الخير والصلاح، وفعل ما يحبه ويرضاه، وألا يركن إلى إيمانه وقوته، وخيره وصلاحه؛ فربما يخذل والعياذ بالله؛ ولذا يوسف عليه السلام يختار السجن وما يكون فيه من الذل، ومع ذلك يرفع يديه لله ذليلًا منكسرًا مقرًّا معترفًا أن الحافظ له والمثبت له من الغواية والضلال والانجراف وراء أصحاب الشهوات ليس إيمانه وقوته المجردة، إنما توفيق الله وهديته له؛ فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34]، وهنا كانت الاستجابة المباشرة له ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ ، فالفاء هنا في كلمة "فاستجاب" تفيد التعقيب والترتيب؛ أي: العطف بلا مهلة من الزمن، أو تراخٍ، بل استجابة فورية من الله عز وجل لحفظ يوسف عليه السلام من ذلك الكيد الكبار؛ فما أقرب الله من عباده المتوكلين عليه حقَّ التوكُّل. 13- إن أكثر من يتعرض للبلاء والفتن وينزلق إن لم يكن له هناك تربية أسرية ومجتمعية على القيم والأخلاق والمبادئ الشريفة، هم من يمرُّون بمرحلة الشباب، ومن ثَمَّ فهي مرحلة مهمة في التربية الأسرية والمجتمعية، تحتاج إلى مزيد عناية واهتمام وقرب منهم، وإشغال لهم بما يعود عليهم بالفائدة الدينية والدنيوية؛ ليكونوا أعضاءً صالحين في مجتمعهم، محافظين على قيمهم ومبادئهم، محافظين على ولائهم وانتمائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم، ومن يقدم الخير والرعاية لهم؛ ولذا يوسف عليه السلام كان يُمثِّل هذه المرحلة؛ فكان بتربيته وقيمه وأخلاقه ومبادئه وحفظه وولائه خير من يتجاوز هذه المرحلة، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 22- 23] وهكذا التربية الصالحة تكون بإذن الله واقيةً وحاميةً وحافظةً للشباب في الخصوص وللجميع في العموم من الانحراف والانزلاق وراء الشهوات والشبهات، قال الله تعالى على لسان نبي الله يوسف عليه السلام الشاب: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 33، 34]. ١4- الأصل أن السجن عقوبة، ومعالجة للمجرمين، ولمن لديهم مخالفة منصوص عليها للوائح والأنظمة التي وضعت لضبط أمن المجتمع واستقراره، ولكن ليس كل من دخل السجن كان دخوله لنقيصة أو عيب أو جرم أحدثه؛ فربما يبتلى به بعض الشرفاء والنبلاء لوشاية كاذبة أو نحو ذلك، ومنهم نبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد أُودِع السجن ظلمًا وبُهْتانًا مع وضوح الدلائل والبراهين على براءته مما اتُّهِم به، قال تعالى على لسانهن: ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35] والآيَات هنا المقصود بها الأدلة الدالة على براءة يوسف عليه السلام. وهناك في السجن تبدأ مرحلة جديدة من حياته الكريمة، نعيش مع أحداثها، وبعض المضامين التربوية المستنبطة منها في المحور الثالث بإذن الله، في المقال الثالث المكمِّل لهذا الموضوع، بإذن الله. أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم تدبر كتابه، وفهم معاني آياته؛ لنزداد إيمانًا ويقينًا وتطبيقًا وسلوكًا لمضامينه في حياتنا اليومية. [1] (السعدي، 1408هـ، ج2، ص406). [2] السابق، ص406 - 407. [3] السابق، ص407 . [4] البخاري، ج1، رقم الحديث: 660، ص168. [5] السعدي، 1408هـ، ج2 ص408. [6] البخاري، 1407هـ، رقم الحديث: 5269، ج7 ص59. [7] السعدي، 1408هـ، ج2، ص509. [8] السابق، ص409. [9] السعدي، 1408هـ، ج2، ص410. [10] السابق، ص410. [11] السابق، ص410. [12] السابق، ص410-411. [13] السابق، ص411. [14] الترمذي، ج5، رقم الحديث: 3382، ص462. [15] السعدي، 1418هـ، ص37. [16] السعدي، 1418هـ، ص38. [17] السعدي، 1418هـ، ص39. [18] السابق، ص39.
أبو هريرة رضي الله عنه وقصة إسلام أمِّه دروس وعبر وفوائد بينما كنت أبحث عن أحاديثَ تبرز فَهم الصحابة؛ لأضعها في كتابي (أفهام الصحابة)، وقفت على حديث عجيب لأبي هريرة رضي الله عنه، الذي فيه قصة إسلام أمِّه، فأثَّر فيَّ جدًّا، وعشت معه حالة من الحب لأبي هريرة رضي الله عنه، بل خطبت الجمعة عن هذا الحديث، وما فيه من دروس وعبر وفوائد، فلا بد للمسلم من الاستهداء بالسُّنَّة، كما أنه يستهدي بالقرآن الكريم؛ ففي الكتاب والسنة من أسباب الهداية ووسائلها ما الله به عليم، فَلَربما اهتدى المرء بحديث أو فائدة من حديث، ولربما أبكاه الحديث كما تبكيه الآية، والسعيد من أقبل على الوحي كتابًا وسُنة، فانتفع بهما، واستهدى، فإليكم ما منَّ الله عليَّ بجمعه واستنباطه من ذلكم الحديث الشريف. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب: من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا رواه أحمد في مسنده، في مسند أبي هريرة، وابن حبان في صحيحه، وابن سعد في طبقاته، والذهبي في سير أعلام النبلاء، واللفظ لمسلم. عن أبي كثير يزيد بن عبدالرحمن، حدثني أبو هريرة، قال: ((كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت، فصِرتُ إلى الباب، فإذا هو مجافٍ، فسمِعت أمي خَشفَ قدميَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خَضْخَضَةَ الماء، قال: فاغتسلت ولبِست دِرعَها، وعجِلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبْشِرْ، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يحبِّبني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبِّب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين، فما خُلِق مؤمن يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني)). وفي رواية المسند بسند حسن عن أبي كثير، حدثني أبو هريرة، ((وقال لنا: والله ما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني إلا أحبني، قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت امرأةً مشركةً، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليَّ، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، وكانت تأبى عليَّ، وإني دعوتها اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ الله أن يهديَ أمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهْدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت أعدو أبشِّرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتيت الباب، إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة الماء، وسمعت خشف رِجْلي - يعني: وقعهما - فقالت: يا أبا هريرة، كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها، فقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، فقلت: يا رسول الله، أبْشِرْ؛ فقد استجاب الله دعاءك، وقد هدى أم أبي هريرة، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما، فما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني، أو يرى أمي، إلا وهو يحبني)). الفوائد والدروس والعبر: 1- منقبة عظيمة لأبي هريرة وأمه رضي الله عنهما؛ فقد دعا لهما النبي صلى الله عليه وسلم بمحبة المؤمنين لهم، وبحبهم للمؤمنين. 2- حِرْص أبي هريرة على الدعوة إلى الله، خصوصًا عشيرته الأقربين، وصبره على الدعوة، وعدم الملل والجزع. 3- أدب أبي هريرة؛ حيث لم يذكر ما قالته أمه تفصيلًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما جعل الأمر مجملًا؛ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأسمعتني فيك ما أكره). 4- حب أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي)، فبكاؤه ربما يكون حزنًا بسبب سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حزنًا لاستبعاده هداية أمه، وإنقاذها من النار، ويحتمل أنه يكون بكاؤه للسببين معًا. 5- رحمة أبي هريرة بأمِّه، وبره بها، فلم يزجرها، ولم ينهرها، ولم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم فتوى لإيذائها، أو لعقوقها، أو لهجرها، إنما طلب بكل رقة ورحمة ورأفة هدايتها؛ قال: (فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة)، ولم يقل: أمي، وكأنه يقول: ادع الله أن يهدي أم هذا العبيد المسكين الذي تحرَّق قلبه على أمه، ويشتاق لإسلامها. 6- رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأبي هريرة؛ حيث بادر بالدعاء، وبنفس لفظ أبي هريرة رضي الله عنه: ((اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة)). 7- في الحديث فقه الاستبشار والتبشير، وعدم القنوط واليأس؛ فقد استبشر أبو هريرة رضي الله عنه بدعوة حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو يعلم أنه مستجاب الدعوة، فطار فرحًا بهذه الدعوة؛ وقال في رواية مسلم: (فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم)، وذهب ليمارس عبادة مهجورة؛ وهي التبشير بالخير؛ ففي رواية أحمد: (فخرجت أعدو أبشِّرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم). تأمل خرج يعدو يسرع فرحًا؛ لعل أمه تسعَد بذلك، ذهب ليبشر المشركة التي أبكته منذ قليل؛ بسبب ما أسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفِقْهُ التبشير هذا واضح أيضًا في الحديث، لما أسلمت أمه فذهب باكيًا من الفرح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (قلت: يا رسول الله، أبْشِرْ قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة). فبدأ بقوله: (يا رسول الله)، بدأ بالنداء، ثم بفعل الأمر (أبشر)، ثم سبب البشرى، وفي ذلك من الأدب والبلاغة والفصاحة ما تعجز عنه العبارة، فهل من متعلم من أبي هريرة رضي الله عنه ومتأدب مثله؛ يحب للمسلمين ما يحبه لنفسه، يقشعر جلده وبدنه فرحًا لأخيه عند سماع خبر يسره، ثم يقشعر تارة أخرى عند تبشيره بقوله: يا فلان أبشر فقد...؟ 8- فيه نسبة الخير لأهله؛ فقد قال أبو هريرة: (قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة)، فقدَّم سبب الهداية على الهداية، وهذا من أدبه رضي الله عنه. 9- كما أنه أحب إسلام أمه، وفرح به، فإنه أحب تبشير رسول الله وفرحته بإنقاذ نفس من النار، ولربما كان فرحُ أبي هريرة بفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكبر من فرحه بإسلام أمه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح بإسلام الكفار؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم الغلام اليهودي: ((الحمد الله الذي أنقذه بي من النار)). 10- يبدو أن أبا هريرة كان يعلم أمه تعاليم الإسلام وفقهه وهي مشركة، وإلا فمن أين علمت أن الكافر إذا أسلم، يغتسل، وينطق الشهادتين؟ 11- في الحديث بِرُّ أبي هريرة بأمه، رغم كونها مشركة، كان بارًّا بها، لا يمل من دعوتها إلى الإسلام، لا يمل من محاولة إخراجها من الظلمات إلى النور؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: "ولم يقل: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فعقهما، بل قال: ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: بالشرك، وأما برهما، فاستمر عليه؛ ولهذا قال: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: صحبة إحسان إليهما بالمعروف، وأما اتباعهما وهما بحالة الكفر والمعاصي، فلا تتبعهما. وفي صحيح البخاري ومسلم قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ((قدِمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة، أفأَصِلُ أمي؟ قال: نعم، صِلِي أمكِ))، فما أجمل دين الإسلام، وأنعم به من شريعة! 12- بلاغة أبي هريرة وفصاحته؛ استمع إلى كلماته ودقة وصفه، ووجازة عبارته وجمالها؛ ففي رواية مسلم قال: (فلما جئت، فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمِعتْ أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمِعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب). وفي رواية أحمد قال: (فلما أتيت الباب، إذا هو مجاف، وسمِعتُ خضخضة الماء، وسمِعتْ خشف رجلي - يعني: وقعهما - فقالت: يا أبا هريرة، كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها). تأمل الكلمات، واستمع لبلاغتها وجمال فصاحتها، فكأنك تبصرهما وتبصر حالهما. 13- تبدو أم أبي هريرة هنا فَرِحةً بإسلامها، وكذا فرِحة لفرح أبي هريرة المتوقع، الذي طالما دعاها للإسلام، وذاب قلبه شوقًا لإيمانها؛ فقد لبِست دِرعها وعجلت عن خمارها، فلم تلبَسْه، وكأنها عجِلت لتسرع إلى تبشير أبي هريرة رضي الله عنه. 14- فيه استجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفور بعين المسؤول، وهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. 15- فيه استحباب حمد الله عند حصول النعم؛ [النقطة 14، 15، قالهما النووي رحمه الله في المنهاج 114 /8]. 16- أن البكاء أنواع؛ فهناك بكاء الحزن كبكاء أبي هريرة الأول، وهناك بكاء الفرح كبكاء أبي هريرة الثاني، وهناك البكاء من الشوق والبكاء من خوف الله، وهناك أسباب أخرى للبكاء. في مسند أحمد قال أبو هريرة: (فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن). والشاعر يقول: طفح السرور عليَّ حتى إنه من عظمِ ما قد سرني أبكاني 17- ينبغي للمرء أن يتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأدب عند حدوث النعمة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم كون الهداية كانت بسبب دعوته، فإنه لم يعجَب بدعائه، بل نسب الأمر لصاحب الخلق والأمر، فحمِد الله، وأثنى عليه، وقال خيرًا، فحمد الله الذي هدى وأثنى عليه، وقال خيرًا، صلوات ربي وسلامه عليه، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن دائم الحمد والثناء لربه في كل أحواله. 18- بيان قدرة الله سبحانه وتعالى غيَّر حال المرأة المشركة التي سبَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهداها، فقالت: (يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله). 19- عمق فَهم أبي هريرة، وكمال توفيقه، فلم يكتَفِ بإسلام أمه، بل طلب ذلكم الموفَّق من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين، وأن يحببهم إليهما. 20- فيه أن أبا هريرة رجل موفَّق؛ فهو يعلم أن محبة الخلق له ولأمه علامة من علامات محبة الله لهما؛ وقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]؛ قال السعدي رحمه الله: "هذا من نِعَمِهِ على عباده، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، أنْ وعدهم أنه يجعل لهم ودًّا؛ أي: محبة ووِدادًا في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب وُدٌّ، تيسَّر لهم كثير من أمورهم، وحصل لهم من الخيرات والدعوات، والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل؛ ولهذا ورد في الحديث الصحيح: ((إن الله إذا أحب عبدًا، نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يُوضَع له القَبول في الأرض))، وإنما جعل الله لهم ودًّا؛ لأنهم ودوه، فودَّدهم إلى أوليائه وأحبابه". 20- استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى لأبي هريرة؛ حيث دعا بنفس الكلمات، بل استعمل اللفظ الجميل: ((عبيدك هذا))؛ وصدق الله إذ يقول: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. 21- فيه استجابة الله لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فما خلق الله مؤمنًا يسمع بي، ولا يراني، أو يرى أمي، إلا وهو يحبني). 22- أنه ينبغي الدعاء للأقارب وسائر المسلمين بهذين الدعاءين؛ فقد أقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه. 23- فيه أن من أبغض أبا هريرة رضي الله عنه، أو انتقص من قدره، أو أثار الشبهات حوله، فإنه فيه من النفاق ما فيه؛ لأنه لا يحب أبا هريرة. 24- وفيه: إثبات الأسباب الشرعية، وكذلك إثبات الأسباب القدرية من باب أولى؛ لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تسببت في هداية أم أبي هريرة، فسرعان ما هداها الله إلى الإسلام، وجاء أبو هريرة مسرعًا؛ فقال: (يا رسول الله، أبْشِرْ؛ فقد استجاب الله دعاءك، وقد هدى أم أبي هريرة)؛ قال ابن عثيمين رحمه الله في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ﴾ [النساء: 155]؛ الآية؛ قال: "وإثبات الأسباب المؤثرة في مسبباتها من مقتضى حكمة الله عز وجل؛ لأن الشيء لو وقع صدفة هكذا، لكان سفهًا، لكن إذا وقع الشيء مربوطًا بسببه، دلَّ ذلك على الحكمة والإتقان، الإنسان الذي يفعل الشيء اعتباطًا بدون سبب موجب له لا يُعَدُّ حكيمًا، لكن الذي يفعل الشيء بأسبابه، والمؤثرات فيه، هذا هو الحكيم، والله عز وجل قد ربط المسببات بالأسباب، ولكن يجب أن نعلم أنه لقصورنا ونقصنا، قد نعلم السبب وقد لا نعلم، إذًا فيه إثبات الأسباب، والناس في الأسباب انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم فرَّط، وقسم أفرط، وقسم توسَّط، وخير الأمور الوسط؛ قسم فرَّط وقال: إنه لا أثر للأسباب إطلاقًا، حتى النار التي تحرق الورق ليس لها أثر فيها، واحتراق الورق لم يكن بالنار ولكن عند النار، أفهمتم؟ واحتجوا لذلك بأنك لو أثبتت أن للسبب تأثيرًا في المسبب، لأشركت بالله حتى قالوا: أي إنسان يثبت سببًا فهو مشرك في الربوبية، وقسم أفرط وجاوز الحد، وقال: إن الأسباب مؤثرة بطبيعتها، ولا بد ولا يمكن أن تتخلف الأسباب، وهؤلاء أخطؤوا أيضًا، أفرطوا، القسم الثالث قالوا: إن الأسباب مؤثرة لا بنفسها، ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، وهؤلاء هم أهل الحق، سواء كان السبب قدريًّا أو كان السبب شرعيًّا؛ ولذلك نجد بعض الأشياء مشروعة، لها أسباب، ولها موانع؛ مثل: الإرث، له سبب وله مانع، ربما يكون أبوك الذي يرث مالك كله إذا انفرد به، لا يرث شيئًا، مع وجود السبب، لماذا؟ لوجود المانع، إذا السبب غير مؤثر الآن، فالذي جعل الأبوة سببًا للإرث جعل القتل مانعًا من الإرث مثلًا، كذلك أيضًا الأسباب القدرية، هذه النار مُحْرِقَةٌ جعل الله فيها قوة الإحراق، ولما أُلقِيَ فيها إبراهيم قال الله لها: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فانتفى الإحراق مع أنها سبب مؤثر بأمر الله، ولكن لم تؤثر لما قال الله لها: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فكانت بردًا وسلامًا عليه؛ قال أهل العلم: إن الله تعالى لو قال لها: كوني بردًا فقط، لهلك من البرد، الله أكبر، لكن قال: ﴿ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا ﴾ [الأنبياء: 69]؛ لئلا تهلكه بالبرد، فكانت بردًا وسلامًا عليه، إذًا نقول: إن الأسباب مؤثرة بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة لا بنفسها، وحينئذٍ لم نشرك، وإنما قلنا بما تقتضيه ربوبية الله وحكمة الله؛ ربوبية الله بالتأثير، وحكمة الله بقرن المسبب بسببه، وهذا هو الحق، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة". هذا ما منَّ الله به عليَّ بجمعه واستنباطه من ذلكم الحديث الشريف. وأخيرًا ينبغي ألَّا نهمل السنة النبوية والاستهداء بها، وينبغي أيضًا حب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وسلامة الصدر تجاههم، واتباع آثارهم بإحسان؛ كي نُحشَر معهم؛ ففي صحيح البخاري ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء، فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)). فاللهم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ورضِيَ الله عن أبي هريرة وأمه وسائر الصحابة أجمعين.
فن الخط المغربي لعمر أفا ومحمد المغراوي صدر حديثًا كتاب "فن الخط المغربي" ، دراسات في تاريخه وتقنياته وأساليبه، تأليف: "عمر أفا" و "محمد المغراوي" ، نشر "منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس" بالمغرب. يقدم هذا الكتاب نظرة مركزة عن نشوء الخط العربي وتطوره إلى أن انبثقت عنه خطوط أهل المغرب، مع الإلمام بتاريخ الخط المغربي وخصائصه وأنواعه ووضعيته الراهنة، إضافةً إلى إطلاله على بعض النصوص التراثية التي تتحدث عنه. كما استعان المؤلفان بمجموعة من اللوحات الخطية من مخطوطات ووثائق ونقوش ولوحات فنية وذلك لإعطاء نظرة أكثر دقة عن هوية الخط المغربي ومراحل تاريخه المختلفة، حيث اختزلت تلك النماذج المختارة - قدر الإمكان - مراحله وأنواعه وأساليبه المختلفة وعرفت بها. والخط المغربي يشير إلى مجموعة الخطوط العربية المترابطة التي تطورت في بلاد المغرب (شمال إفريقيا) والأندلس (شبه الجزيرة الإيبيربية) وغرب بلاد السودان (منطقة الساحل). ينحدر الخط المغربي من الخط الكوفي، ويكتب بقلم سميك، ليبدو الخط في غاية الاتزان، ويستعمل في أعمال النساخة والتدوين والزخرفة. يذكر المصنفان خمسة أنواع فرعية للخط المغربي: 1. الكوفي المغربي، أسلوب في الخط الكوفي ابتكر في بلاد المغرب والأندلس. • الكوفي المرابطي، نوع من الكوفي المغربي اعتمدته الدولة المرابطية. 2. المبسوط، خط اعتيادي مناسب لفقرات النص وللقرآن. يعتبر امتداد للخط الكوفي وعرف تجويدًا في المغرب وفي الأندلس. اعتمدته المطبعة الحجرية بفاس لطباعة المصحف القرآني. يشابه خط النسخ في الاستعمال. عبارة بالخط المغربي المبسوط، ونصه كما يلي: "الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا" . 3. المجوهر، يستعمله الملك في إعلان الظهائر. 4. الثلث المغربي، وكان يسمى الخط المشرقي أو الخط المشرقي المتمغرب، هو مستوحى من خط الثلث المشرقي . 5. المسند، ويسمى كذلك الزمامي، هو خط يستعمله العدول والمحاكم في كتابة عقود الزواج وما إلى ذلك. تطور من الخط المغربي المجوهر والحروف في هذا الخط تميل إلى اليمين. وهذا الخط كان يستعمل في النصوص التي يريد المحررون إضفاء طابع من الغموض عليها، مثل النصوص المرتبطة بالسحر، وذلك نظرًا لصعوبة قرائته. وإلى ذلك هناك الخط القندوسي، وهو خط مغربي مبدع ابتكره الخطاط المتصوف محمد بن القاسم القندوسي في القرن التاسع عشر. وكان المستشرق الفرنسي "أكتاف هودا" يصف أربعة أنواع من الخط المغربي وينسبها إلى مدن أو بلدان معينة: • القيرواني: يمتاز بحروفه القصيرة والقريبة من بعضها. • الأندلسي: الخطوط التي ابتكرت بالأندلس. • الخط الفاسي: ويمتاز بطول الأسطر العمودية. • السوداني أو التمبكتي: نسبة إلى بلاد السودان (أي إفريقيا جنوب الصحراء) أو مدينة تمبكتو (بمالي الحالي)، ويمتاز بكبره وغلظه. وبذلك يعتبر فن الخط المغربي معلمًا بارزًا وتعبيرًا عن خاصية حضارية متميزة سواء في المغرب أو الأندلس، وناطقًا بما وشته أيدي الخطاطين المغاربة المهرة، هواة ومحترفين منذ سالف العهود إلى يومنا هذا. وقد أتى المؤلفان في دراستهما باستنتاجات ومعلومات وافية حول علاقة المغاربة بهذا الخط، وهو ما يدلل على خصوصية الثقافة المغربية من خلال خطها. وجاءت الدراسة في ثلاثة أقسام على النحو التالي: القسم الأول: تاريخ الخط المغربي وخصائصه، في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة: الفصل الأول: الخط العربي ورحلته إلى بلاد المغرب. الفصل الثاني: الخط المغربي ومراحل تطوره. الفصل الثالث: واقع فن الخط بالمغرب منذ الاستقلال. الفصل الرابع: خصائص الخط المغربي وأنواعه. أما القسم الثاني من الدراسة فتناول نماذج مختارة من نصوص ولوحات خطية: أولًا: نصوص تراثية تتحدث عن الخط المغربي وتعليمه. ثانيًا: الشواهد الخطية القديمة. ثالثًا: الشواهد الخطية الحديثة. رابعًا: أدوات الكتابة عند المغاربة. أما القسم الثالث من الدراسة فتناول آفاق الخط المغربي في الوقت الحالي، والجهود المؤسساتية التي تقوم على خدمة الخط المغربي وإحياء مجده من جديد، وتقعيد خصوصية الخط المغربي في بلاد المغرب ودول الجوار. والباحث عمر أفا (ولد عام 1943 م بمدينة أكادير)، حاصل على الدكتوراه الدولة في التاريخ المعاصر سنة 2002 م، وهو أستاذ جامعي بكلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط منذ سنة 1976 م، وعضو هيئة تحرير مجلة كلية الآداب بالرباط. من أبحاثه: • مسألة النقود في تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر: سوس 1822 - 1906 م. • التجارة المغربية في القرن التاسع عشر. • أخبار سيدي إبراهيم الماسي عن تاريخ سوس في القرن التاسع عشر / إبراهيم الماسي، عمر أفا. • ديوان قبائل سوس - في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي / إبراهيم بن علي الحساني، عمر أفا. • وقفات في تاريخ المغرب - دراسات مهداة للأستاذ إبراهيم بوطالب / عبد المجيد القدوري، عمر أفا، محمد أمين البزاز. • بحر الدموع / محمد أوزال، عمر أفا. • المجموع اللائق على مشكل الوثائق / عمر بن عبيد الله بن علي النفيسي، عمر أفا. • نصيحة الجشتيمي / أحمد بن عبد الرحمان الجشتيمي، عمر أفا، أحمد أبو زيد الكنساني. والباحث محمد المغراوي محقق تاريخي من المغرب، من دراساته: • "ﺍﻟﻤﻮﺣﺪﻭﻥ ﻭﺃﺯﻣﺎﺕ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ" . • "التاريخ وأدب النوازل: دراسات تاريخية مهداة للفقيد محمد زنيبر" . • "الخط المغربي: تاريخ وواقع وآفاق" .
عبدالرحمن بن عوف الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ، وأصْحَابِهِ، والتَّابِعِيْنَ لَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: هذه سيرة موجزة لأحد أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو عبدالرحمن بن عوف، لعل طلاب العلم الكرام يستفيدون مِن سيرته المباركة في حياتهم الدنيا، فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق: النسب والميلاد: اسمه: عبدالرحمن بن عبد عوف بن عبدالحارث بن زُهْرة بن كِلاب، وكان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم عبدالرحمن. روى البخاريُّ عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي (أهلي ومالي) بِمَكَّةَ، وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو؛ (البخاري، حديث:2301). أم عبدالرحمن بن عوف: الشِّفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب، أَسْلَمتْ وهاجرت إلى المدينة؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 92). وُلِدَ عبدالرحمن بن عوف بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 92). صفة ابن عوف الجسمية: كان عبدالرحمن بن عوف أبيض مُشْرَبًا بحُمْرَة، حَسَنَ الوجه، رقيق البشرة، أعين (واسع العينين) أهدب الأشفار (طويل شعر الأجفان) أقنى (طويل الأنف، دقيق الأرنبة، مع حدب في وسط الأنف) له جُمة (شعر الرأس الذي يسقط على المنكبين) ضخم الكفين، غليظ الأصابع، لا يغير لحيته ولا رأسه؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 3، صـ 380). أسرة ابن عوف: رزق اللهُ عبدالرحمن بن عوف بعَددٍ كبيرٍ من الأولاد: من الذكور: عشرون، ومن الإناث: ثماني؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 95:94). إسلامه: أَسَلَمَ عبدالرحمن بن عوف على يد أبي بكر الصديق، وكان أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 92). هجرته: هاجر عبدالرحمن بن عوف إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعًا، ثم هاجر إلى المدينة، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 92). روى البخاريُّ عَنْ إبراهيمَ بنِ عَبْدالرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، قَالَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَزَوَّجْتَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "وَمَنْ؟" قَالَ: امْرَأَةً مِن الْأَنْصَارِ، قَالَ: "كَمْ سُقْتَ؟" قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"؛ (البخاري، حديث: 2048). أحاديث ابن عوف: روى عبدالرحمن بن عوف خمسةً وستينَ حديثًا، له في "الصحيحين" حديثان، وانفرد له البخاري بخمسة أحاديث. روى عنه من الصحابة ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وجُبير بن مُطعم، وجابر بن عبدالله، والمسور بن مخرمة، وعبدالله بن عامر بن ربيعة، وروى عنه أيضًا عدد من التابعين؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 69:68). (1) روى البخاريُّ عن مُصْعَب بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ؛ (البخاري، حديث: 3157:3156). (2) روى أحمدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا غُلَامُ، هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ؟ قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: سَأَلْتُ هَذَا الْغُلَامَ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا شَكَّ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَمْ ثِنْتَيْنِ، فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلَاثًا فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ يَسْجُد إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ سَجْدَتَيْنِ؛ (حديث حسن لغيره) (مسند أحمد، جـ3، صـ194، حديث1656). جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم: (1) شهد عبدالرحمن بن عوف بدرًا وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت يومَ أُحدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فَرَّ الناس وأصيب يوم أحد فهتم (انكسرت ثناياه من أصلها) وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج؛ (الطبقات لابن سعد، جـ3، صـ 95) (صفة الصفوة لابن الجوزي، جـ1، صـ 350). (2) روى ابنُ سعدٍ عن عطاء بن أبي رباح عن عبدالله بن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن بن عوف في سبعمائة إلى دُومة الجندل (اسم مكان) وذلك في شعبان سنة ست من الهجرة فَنَقَضَ عمامته بيده، ثم عَمَّمَه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها فَقدِمَ دومة الجندل، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا (رفضوا) ثلاثًا، ثم أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيًّا، وكان رأسهم، فبعث عبدالرحمن، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فكتب إليه أن تزوج تماضر بنت الأصبغ، فتزوجها عبدالرحمن، وبنى بها، وأقبل بها وهي أم أبي سلمة بن عبدالرحمن؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ7، صـ96). صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف ابن عوف: روى مسلمٌ عَن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟" فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ وَقَدْ قَامُوا فِي الصَّلَاةِ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ يَتَأَخَّرُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُمْتُ فَرَكَعْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي سَبَقَتْنَا؛ (مسلم، كتاب الطهارة، حديث: 81). ابن عوف أحد المبشرين بالجنة: روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدٌ (ابن أبي وقاص) فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدٌ (ابن زيد) فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ؛ (حديث صحيح) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2946). عبدالرحمن بن عوف هو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد أصحاب الشورى الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، وهو أحد الثلاثة الذين انتهى إليهم اختيار الخليفة منهم، وهو الذي اجتهد في تقديم عثمان بن عفان رضي الله عنه للخلافة؛ (البداية والنهاية لابن كثير، جـ 7، صـ 170). قال الإمام الذهبي (رحمه الله): من أفضل أعمال عبدالرحمن بن عوف عَزْله نفسه من الأمر (الخلافة) وقت الشورى، واختياره للأمة مَن أشار به أهل الحَلِّ والعَقْدِ، فنهض في ذلك أتم نهوض على جَمْع الأمة على عثمان، ولو كان محابيًا فيها، لأخذها لنفسه، أو لولَّاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه: سعد بن أبي وقاص؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 86). وفاء ابن عوف للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته: روى أحمدُ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بنت المسْوَر بن مَخْرَمَة أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بَاعَ أَرْضًا لَهُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَسَمَهُ فِي فُقَرَاءِ بَنِي زُهْرَةَ، وَفِي ذِي الْحَاجَةِ مِنْ النَّاسِ، وَفِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْمِسْوَرُ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ بِنَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحِنُّ عَلَيْكُمْ بَعْدِي إِلَّا الصَّابِرُونَ، سَقَى اللَّهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ"؛ (حديث حسن) (مسند أحمد، جـ 41، صـ 484، حديث 23883). روى الترمذيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَوْصَى بِحَدِيقَةٍ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِيعَتْ بِأَرْبَعِ مِائَةِ أَلْفٍ؛ (حديث حسن) (صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث 2949). إمارة ابن عوف على الحج في خلافة عمر: قال ابنُ سعد: لما اسْتُخْلِفَ عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة بعث تلك السنة على الحج عبدالرحمن بن عوف، فحَجَّ بالناس، وحَجَّ مع عمر أيضًا آخر حجة حجها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر تلك السنة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج فَحُمِلْنَ في الهوادج، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف، فكان عثمان يسير على راحلته أمامهن فلا يدع أحدًا يدنو منهن، وكان عبدالرحمن بن عوف يسير من ورائهن على راحلته فلا يدع أحدًا يدنو منهن، وينزلن مع عمر كل منزل، فكان عثمان وعبدالرحمن ينزلان بهن في الشِّعاب فيُقْبلانهن (يُوَصِلُّونهن) الشِّعاب، وينزلان هما في أول الشِّعب فلا يتركان أحدًا يمر عليهن، فلما استُخلف عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين بعث تلك السنة على الحج عبدالرحمن بن عوف فحَجَّ بالناس؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 99). حرص ابن عوف على الخير: (1) روى البخاريُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدالرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ؛ (البخاري، حديث: 1275). (2) روى أحمدُ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، إِنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، بِعْتُ أَرْضًا لِي بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَتْ: أَنْفِقْ يَا بُنَيَّ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَصْحَابِي مَنْ لَا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أُفَارِقَهُ فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَتَاهَا، فَقَالَ: بِاللَّهِ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا، وَلَنْ أُبَرِّئَ أَحَدًا بَعْدَكَ؛ (حديث صحيح) (مسند أحمد، جـ 44، صـ 290، حديث 26694). (3) قال نوفل بن إياس الهذلي: كان عبدالرحمن بن عوف لنا جليسًا، وكان نعم الجليس، وأنه انقلب بنا ذات يوم حتى إذا دخلنا بيته ودخل، فاغتسل ثم خرج فجلس معنا وأتانا بجفنة (وعاء) فيها خبز ولحم فلما وُضِعت بكى عبدالرحمن، فقلت: يا أبا محمد، ما يبكيك؟ فقال: فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا ولم يشبع هو ولا أهل بيته من خبز الشعير؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ1، صـ100:99). كان عبدالرحمن بن عوف من أغنياء المسلمين الذين يشكرون الله تعالى على نِعمه الكثيرة، وذلك ببذل الكثير من ماله في سبيل الله تعالى. (1) روى أبو نعيم عن الزُّهْري قال: تصدَّق عبدالرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدَّق بأربعين ألف، ثم تصدَّق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 99). الدينار: يُعادل أربعة جرامات وربع من الذهب الخالص. (2) روى ابنُ جرير الطبريُّ عن قتادة قال: تصدَّق عبدالرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية آلاف دينار، فتصدَّق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبدالرحمن بن عوف لعظيم الرياء! فقال الله: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 79]؛ (تفسير الطبري، جـ 14، صـ 385). (3) قال جعفر بن بُرقان: بلغني أن عبدالرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بيت؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ 1، صـ 99). منزلة ابن عوف عند السلف: (1) قال إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف: كنا نسير مع عثمان بن عفان في طريق مكة، إذ رأى عبدالرحمن بن عوف، فقال عثمان: ما يستطيع أحدٌ أن يتعدَّى على هذا الشيخ فضلًا في الهجرتين جميعًا؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 75). (2) قال إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف: سمعتُ عليَّ بن أبي طالب يقول- يوم مات عبدالرحمن بن عوف-: اذهب يا بن عوف، فقد أدركت صفوها، وسبقت رَنْقَهَا (كدرها)؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، جـ1، صـ100). (3) قال سعيد بن المسيب: كان بين طلحة بن عبدالله وابن عوف تباعُد (خلاف بينهما) فمرض طلحة، فجاء عبدالرحمن يعوده، فقال طلحة: أنت والله يا أخي خيرٌ مني، قال: لا تقل يا أخي، قال: بلى والله؛ لأنك لو مرضت ما عُدتك؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 88). (4) قال سعد بن الحسن: كان عبدالرحمن بن عوف لا يُعرَف من بين عبيده؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 89). وصية ابن عوف قبل وفاته: قال عُروة بن الزبير: أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 3، صـ 379). وقال الزهري: أوصى عبدالرحمن لمن بقي ممَّن شهد بَدْرًا لكل رجل أربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها وأخذها عثمان بن عفان فيمن أخذ، وأوصى بألف فرس في سبيل الله؛ (أسد الغابة لابن الأثير، جـ 3، صـ 379). ميراث ابن عوف عند وفاته: تَرَكَ عبدالرحمن بن عوف عند وفاته ذَهَبًا قُطِّعَ بالفؤوس حتى مَجَلت أيدي الرجال (ظهرت فيها الجروح) منه، وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة مِن ثُمُنها بثمانين ألفًا؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ101). وقال عثمان بن الشريد: ترك عبدالرحمن بن عوف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاة بالبقيع، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف (اسم مكان) على عشرين ناضحًا (بعيرًا)، وكان يُدخِل قوت أهله من ذلك سَنة؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد، جـ3، صـ 101). تُوفِّي الصحابي الكريم عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، ودُفِن بالبقيع، وعاش خمسًا وسبعين سنة؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي، جـ 1، صـ 89). ختامًا: أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْـحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْعَمَلَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وأن ينفعَ به طلابَ العِلْمِ الكرام، وأرجو من كُلِّ قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ سُبحانه لي بالإخلاصِ والتوفيقِ والثباتِ على الحق، وَحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ الله تعالى: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وآخرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبيِّنا مُـحَمَّدٍ وَآلهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَـهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
فضل مجالس العلم وحلق الذكر وآدابها لعبدالله بن أحمد لمح الخولاني صدر حديثًا كتاب "فضل مجالس العلم وحلق الذكر وآدابها" ، جمعه: "أبي محمد عبدالله بن أحمد لمح الخولاني" ، توزيع: "دار طيبة الخضراء للنشر والتوزيع" . وفي هذا الكتاب مجالس إيمانية وفوائد علمية حول "مجالس العلم" و"حلق الذكر" وفضلها، وأثرها في إرساء الأخوة الإيمانية، والآداب الواجب التحلي بها في مجلس العلم لكي تنزل السكينة على الحاضرين، وتغشاهم الرحمة، وتحف بهم الملائكة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ تَعالى يَتلونَ كِتابَ اللهِ وَيَتَدارسونَه بَينَهم، إلَّا نَزَلتْ عليهمُ السَّكينةُ، وغَشِيَتهمُ الرَّحمةُ، وحَفَّتهمُ المَلائكةُ، وذكَرَهمُ اللهُ فيمَن عندَه". وقد جمع الكاتب تلك الآداب في مقدمة وأربعة فصول تندرج تحتها عدة مباحث: المقدمة: في بيان موضوع الكتاب ومباحثه. الفصل الأول: فضائل مجالس العلم والذكر: وفيه بيان أمر الشارع بعمارة مجالس العلم وحلق الذكر، وأنه من عمارة بيوت الله. كما أورد الكاتب جملة من فوائد عمارة المساجد بالعلم والوعظ والتذكير، ومنها: 1- سلوك طريق الجنة. 2- نزول السكينة عليهم. 3- الملائكة يحفون مجالس العلم ويستمعون الذكر ويكتبون من يشهدها. 4- غشيانهم الرحمة. وقد بين الكاتب فائدة في سبب إطلاق "حلق الذكر" على مجالس التعليم. كما بين الأجر العظيم في شهودها، ومباهاة الرب سبحانه وتعالى ملائكته بأهل حلق الذكر، وغفران الله تعالى لمن يشهد حلق العلم، والأجر العظيم في المشي إلى مجالس العلم وبيوت الله تعالى. كما أورد فائدة حول فضل جعل حلق العلم في المساجد، وأنه من أتى حلق العلم ليتعلم أو يُعلِّم فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، وأن حلق العلم والذكر رياض الجنة، قد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمستمع العلم وحافظه ومبلِّغه في تلك الحلق والمجالس الخيرية. الفصل الثاني: أثر مجالس العلم والذكر على من شهدها: وفيه بين الكاتب جملة من الفوائد والمكاسب التربوية والإيمانية لطالب العلم الذي يصرف أوقاته في حلق العلم والذكر، ويواظب على حضورها، ومنها: 1- حلق الذكر ترقق القلوب، وتورث الخشية والرقة. 2- حلق الذكر ومجالس العلم تقوي الإيمان. 3- مجالس العلم والذكر ترفع العبد إلى مرتبة الإحسان. 4- نموذج عظيم: غلام يتردد على مجلس علم. الفصل الثالث: فضل التعليم والوعظ والتذكير، وذلك في ثلاثة مباحث فرعية: المبحث الأول: في فضل العلم والتعليم. المبحث الثاني: فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ. المبحث الثالث: نماذج تطبيقية من اهتمام السلف بمجالس العلم وحلق الذكر. الفصل الرابع: آداب حضور حلق العلم والذكر. وفي بيان الآداب والخصال التي يجب أن يحرص عليها طالب العلم، والحاضرين من العوام في المساجد لمجالس العلم والذكر، ومنها آداب تتعلق بالجالس نفسه كالإخلاص لله تعالى وإصلاح هيئته وأخذه زينته، وألا يمنعه من شهودها الكبر أو الحياء، وأن لا يقتصر على الحضور دون الفهم والتدبر وهو ثمرة الجلوس والحضور، وأن يلازم الاستماع والإنصات وملازمة حسن السمت والوقار، وأن لا يشوش على الحاضرين إذا استفهم عن شيء، وقاعدة في كيف يجلس وأين يجلس في مجلس العلم، والترغيب في تقييد العلم، وأن لا يلقن، وأن يذاكر الدرس من حضره معه، والعمل بما يسمع والتأثر به. المبحث الثاني: في آداب فيما بين السامع والمتكلم: وفيه وجوب توقير المعلم والواعظ، بحيث لا يثقل عليه، والإنصاف فيه ونشر علمه والثناء عليه، والاستفادة من خلق وسمت وأدب المعلم، والنصح والتنبيه للمتكلم، ولا يداخل المعلم والواعظ ويقاطعه فيما يعلم وعندما يسأله المعلم. المبحث الثالث: في آداب المعلم أو المتكلم في مجالس العلم والذكر: وفيه جملة من خصال المعلم الواجب اتباعها صيانةً للعلم، وتوقيرًا لمجالس العلم في المساجد، وإيصالًا للعلم في سبيل الله. والكتاب حافل في مبحثه بالأدلة السلوكية والفوائد التربوية والأمثلة التطبيقية على فضل مجالس العلم وآداب حضورها، وهو من باب تهذيب النفس، وتقويم الأخلاق.
هند بنت عتبة • أم الصحابي الجليل وأمير المؤمنين: معاوية بن أبي سفيان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. • كانت من عقلاء النساء، وكانت قبل أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش وفصحائها، وكان له بيت ضيافة خارجًا عن البيوت تغشاه الناس من غير إذن، فحدث ذات يوم أن البيت خلا من الناس واضطجع فيه هو وهند، ثم نهض لحاجة فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فدخله، فلما رأى هندًا رجع هاربًا، فلما نظره الفاكه دخل عليها فضربها برجله، وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدًا قَطُّ وما انتبهت حتى أنبهتني، قال: فارجعي إلى بيت أبيك وتكلَّم الناس فيها. فقال أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيكِ الكلام، فإن يكن الرجل صادقًا دسيت عليه من يقتله لينقطع كلام الناس، وإن يك كاذبًا حاكمته إلى بعض كُهَّان اليمن، فقالت له: لا والله ما هو عليَّ بصادق. فقال له: يا فاكه، إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كُهَّان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج أبوها في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد قالوا: غدًا نَرِد على هذا الرجل، فتغيرت حالة هند، فقال لها أبوها: إني أرى حالك قد تغيَّر، وما هذا إلا لمكروه عندك. فقالت: لا والله، ولكن أعرف أنكم تأتون بشرًا يُخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يصفني بوصف يكون عليَّ سبَّة. فقال لها: لا تخشي فسوف أختبره، فصفَّر لفرسه حتى أدلى، ثم أدخل حبَّةَ بُرٍّ في إحليله وربطه، فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم، ونحر لهم، فلما تغدوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبَّأنا لك خبيئة نختبرك بها. قال: خبَّأتم لي ثمرة في كَمرة. قال: إني أريد أبْيَن من هذا . قال: حبَّة بُرٍّ في إحليل مُهْر. قال: فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها ويقول لها: انهضي، فلما جاء دور هند قال: انهضي غير متهمة بشيء، وستلدين مَلِكًا اسمُه معاوية. وعندما تبيَّنت براءتها نهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني، فو الله، إني لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوَّجها أبو سفيان فولدت منه أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه. • قالت هند بنت عتبة بن ربيعة لأبيها: يا أبتِ، إني قد ملكت أمري -وذلك حين فارقها الفاكة بن المغيرة- فلا تزوِّجني رجلًا حتى تعرضه عليَّ، قال: ذلك لك؛ فقال لها ذات يوم: يا بنية، قد خطبك رجلان من قومك، ولست بمُسَمٍّ لك واحدًا منهما حتى أصِفَه لك. أما الأول: ففي الشرف الصميم، والحسب الكريم، تخالين به هوجًا [متسرعًا] من غفلته، وذلك أسجاح [حسن العفو والسهولة] من شيمته، حسن الصحبة، سريع الإجابة، إن تابعتِهِ تابعك، وإن ملت به كان معك، تقضين عليه في ماله وتكتفين برأيك عن رأيه. وأما الآخر: ففي الحسب والرأي الأريب بدر أرومته [أصله] وعِز عشيرته، يؤدب أهله ولا يؤدبونه [قوي الشخصية يضبط أهله ويفرض عليهم وجوده]، إن اتبعوه أسهل بهم [إن أطاعوه أكرمهم ونمى فيهم جوانب القوة والمجد]، وإن جابوه توعر بهم [إن عصوه قسا عليهم]، شديد الغيرة، سريع الطيرة، صعب حجاب [الحاجز والمانع والساتر] القبة [حريص على ستر نسائه]، إن جاع فغير منزور [جوعه ليس عن فقر، بل عن اقتصاد وربما شح]، وإن نُوزِع فغير مقهور، قد بينت لك أمرهما كليهما. قالت له: أما الأول فسيد مضياع لكريمته، مؤاتٍ لها فيما عسى إن لم تُعتصم أن تلين بعد إبائها وتضيع تحت خبائها [الخيمة، والمقصود لا يثور لخطئها الذي يسيء سمعتها وسمعته]، وإن جاءت له بولد أحمقت، فإن أنجبت فعن خطاء ما أنجبت، اطْوِ ذكر هذا عني، فلا تُسمِّه لي. وأما الآخر فبعل الحرة الكريمة، إني لأخلاق هذا لوامقة [محبة حبًّا شديدًا]، وإني له لموافقة، وإني لآخذ بأدب البعل مع لزومي لقبتي وقلة تلفتي، وإن السليل بيني وبينه [الولد الذي ننجبه] لحريٌّ أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها [القطعة العظيمة من الجيش]، المحامي عن حفيظتها، الزائن لأرومتها، غير مواكل [عاجز، معتمد على غيره] ولا زميل [الضعيف الجبان] عند ضعضعة الحوادث [وقوع المصائب] فمن هو؟ قال: ذلك أبو سفيان بن حرب بن أمية. قالت: زوِّجني منه، ولا تلقني إليه إلقاء المستسلس السلس، ولا تسمه بي سوم [المجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن] المواطس الضرس، واستخر الله في السماء يخر لك بعلمه في القضاء. • ويبدو ذكاء هند الوقَّاد، وحصافة عقلها في حسن سَبْرها للرجال، وتقديرها لهم يوم خُيِّرت بين الرجلين. فالمرأة العادية ترى في النوع الأول من الرجال مُنْيتها، فهو سمح لين جواد، حسن المعاملة لزوجته لدرجة الضعف والانقياد لها. بينما تخشى المرأة العادية من النوع الثاني من الرجال، فهو قاسٍ في معاملته، لا تستطيع أن تصل إلى مآربها لقوة شخصيته التي تقف سدًّا منيعًا دون أهوائها وملذَّاتها، وتعاني من شدة غيرته وتطيره الأمرَّينِ في تأويل كل تصرف لها بسوء، وقمعها عن كل تحرُّك عادي يمكن أن يرى به خروجًا عن الجادة. أما المرأة الحصيفة التي يحركها المجد، وتستهويها السيادة فترفض ذلك المطواع لها زوجها؛ لأن الناس سيتندرون به في مجالسهم، وهي تقبل بسوط ذلك الوعر القاسي الذي يشهد له قومه بعزته ومنعته، وتقبل مراقبته لها حتى لو وجدت في ذلك عنتًا ورهقًا، طمعًا في جانب آخر تعتز فيه، وهو أن يكون حاميًا لنسائه، يذود عنهن بالدم والروح. وكانت هند من الطراز الثاني من النساء، اللاتي يرين في حسن السمعة والأحدوثة وشرف المجد، ما يُضحَّى بكل شيء في سبيلها. • إن عمق تفكيرها وبُعْد نظرها ليبدو يوم تتخيَّل الولد الذي ستنجبه، فعن أولاد النمط الأول تقول: إن جاءت له بولد أحمقت، فإن أنجبت فعن خطاء ما أنجبت. بينما تراها تقول في أولاد النمط الثاني: وإن السليل بيني وبينه [الولد الذي ننجبه] لحريٌّ أن يكون المدافع عن حريم عشيرته، الذائد عن كتيبتها [القطعة العظيمة من الجيش]، المحامي عن حفيظتها، الزائن لأرومتها، غير مواكل [عاجز، معتمد على غيره] ولا زميل [الضعيف الجبان] عند ضعضعة الحوادث [وقوع المصائب]. • ثم هي ترفض القبول السهل لأبي سفيان حتى لا يظن أنه نال فتاة عادية، من غير جهد، فلا يشعر بكرامتها على أبيها. كما ترفض التعنُّت حتى لا ينصرف أبو سفيان عنها، وهي وامقة لخلاله، معجبة بخصاله، فقالت: ولا تلقني إليه إلقاء المستسلس السلس، ولا تسمه بي سوم [المجاذبة بين البائع والمشتري على الثمن] المواطس الضرس. • غير أن ختام حديثها يعطينا جانبًا جديدًا من جوانب شخصيتها فهي تقول: "واستخر الله في السماء يخر لك بعلمه في القضاء" ومعنى الاستخارة في المفهوم الجاهلي هو الاستسقام بالأزلام، وهذا يعني أننا أمام سيدة عريقة في جاهليتها، محافظة على تقاليد دينها، وهذه التقاليد متغلغلة في أعماقها، وهذا ما يضيء لنا معالم الطريق الوعر العنيف الذي سارت به هند وأبو سفيان ضد الدعوة المحمدية الجديدة. • إن هندًا لم تصل إلى هذا المستوى من النضج إلا بعد أن عركتها السنون، وحنكتها التجارب؛ إذ كانت زوجة للفاكه بن المغيرة وقد طعنها في أعز ما تملكه؛ في عرضها وشرفها، واحتكموا إلى كاهن باليمن، فبرَّأ ساحتها من هذا الاتهام الظالم، وأبت بعدها أن تعود لزوجها الفاكه، ومرت ثماني سنين بين زواجها من أبي سفيان وترْكها الفاكه بن المغيرة. • وحادثة كاهن اليمن الذي برَّأها زادت قناعات هند في دين قومها وتقاليدهم، فهي قد لمست في هذا الكاهن صدقًا لا يعتريه الشك يوم كشف الخبء الذي خبَّأه له أبوها عتبة، ويوم برَّأها نظيفة طاهرة من بين العديد من النسوة اللاتي كانت بينهن. • نحن إذن أمام امرأة متمسكة بدين قومها وتقاليدهم أشد التمسُّك، وعاشقة للشرف والشهرة أعظم العشق وأقواه، عكس أبي سفيان الذي يقل عنها تعصبًا، فهو قد أمضى حياته في التجارة والسفر، والتقى مع عصارات الحضارات العالمية. • وقال لها أحد المتفرسين من العرب يومًا: إنني أتوسَّم في ابنك أن يسود قومه، قالت هند: ثكلتُهُ إن لم يَسُدْ إلا قومَه؛ أي : فقدته إن لم يَسُدْ إلا قومه. • وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع، وأرسل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد غزوة بدر، ولم تجِفّ دماء قريش بعد، وكانت هند قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمِّها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوارَ الحرب. وفي الطريق لقِيَتْ زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها، فقالت هند: «أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك! أي ابنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمالٍ تبلغين به إلى أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال». تروي زينب رضي الله عنها ذلك، وتقول: «ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل». ثم يوم خروج زينب تعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط من على ناقتها وكانت حاملًا، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعةً، وتقول لقومها: «أين كانت شجاعتكم يوم بَدْر؟»، وتحُولُ بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى استأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان. • أظهرت هند بنت عتبة مروءتها مع زينب رضي الله عنها برغم بغضها الشديد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وللمسلمين فلم تكن أسلمت بعد لكن لم يمنعها ذلك من إعانة الناس وقضاء حوائجهم. وهذا يعطينا درسًا أن الفطرة السليمة تدعو إلى الخير والفضيلة التي تقود بدورها إلى معرفة الحق والإسلام كما تعلَّمنا مهما كانت درجة العداء بينك وبين الآخر فلا يمنع من مساعدة إن احتاج للمساعدة، فالمبادئ والأخلاق لا تتجزَّأ، وأن هناك أناسًا جُبِلوا على الأخلاق الحميدة، فعندما يسلمون يومًا ينطبق عليهم (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) وقد يهدي الله بك رجلًا من مجرد موقف لبَّيْتَ فيه نداءه وأجبت حاجته؛ فكان سببًا في حُبِّه للدين ودخوله الإسلام، فإذا كان أهل الجاهلية عرفوا المروءة فنحن أهل الإسلام أوْلَى بها. • لما التقى الناس في غزوة أُحُد ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال، ويُحرِّضْنَ على القتال، فقالت هند فيما تقول: إنْ تُقبِلوا نُعانِق ونفرش النَّمارِق [المخدة والوسادة] أو تُدبِروا نُفارِق فِراقَ غير وامِق [الوامق: المحب] وبعد انتهاء المعركة جعلت هند بنت عتبة والنساء معها يجدعن أنوف المسلمين، ويبقرن بطونهم، ويقطعن الآذان إلا حنظلة؛ فإن أباه كان من المشركين، وبقرت هند عن بطن حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها: نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْر وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي من صبر وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وبِكْرِي شَفَيْتُ نَفْسِي وقَضَيْتُ نَذْرِي شَفَيْتَ وَحْشِيٌّ غَلِيلَ صَدْرِي • هند هي قاتلة حمزة رضي الله عنه قبل إسلامها، وكان في غزوة أُحُد بواسطة العبد حبشي، وقد قُتِل لها يوم بدر أبوها عتبة وعمُّها شيبة، قتلهما علي وحمزة، وقُتِل أخوها أيضًا. • ومن الرواة من يرى قصة أنها لاكَتْ كبد "حمزة" رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تستسغه، فيها نظر، والأحاديث فيها ما بين مرسل وإسناده ضعيف ولم يصحَّ منها شيء. • قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدت قريش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت، ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي فذكرت ذلك لأُمِّي هند بنت عتبة، فقالت: إياك أن تخالف أباك، وأن تقطع أمرًا دونه فيقطع عنك القوت، وكان أبي يومئذٍ غائبًا في سوق حباشة. • ويوم فتح مكة خرج أبو سفيان مسلمًا حتى إذا دخل مكة صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به؛ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحَمِيت [وعاء السمن] الدَّسِم الأَحْمَس [الكثير اللحم]، فقال أبو سفيان: لا يغرَنَّكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قبَّحَك الله! وما تغني دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرَّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد . • وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدر دمها يوم الفتح، فجاءته مع بعض النسوة في الأبطح فأعلنت إسلامها، وكان بعد إسلام زوجها أبي سفيان رضي الله عنه، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة، وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير مصافحة؛ فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يصافح النساء، ولا يمسُّ يد امرأة إلا امرأة أحلَّها الله له، أو ذات مَحْرَم منه. • فلما بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء، بايعهن "على ألَّا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئًا"، قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه، وقال في البيعة: "وَلا يَسْرِقْنَ"، قالت: والله، إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر هو لك حلال؛ فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها، فقال لها: "وإنك لهند بنت عتبة؟" قالت: نعم، فاعْفُ عمَّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: "وَلا يَزْنِينَ"، قالت هند: وهل تزني الحرة؟! فلما قال: "وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ"، قالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قُتِل يومَ بَدْر، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى، وتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ" [لا يلحقن بأزواجهن ولدًا من غيرهم] بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ"، فقالت: والله إنَّ البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: "وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ"، فقالت: والله، ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وشكت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجها أبا سفيان أنه شحيح لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك). • وفي رواية أنها أسلمت في فتح مكة بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة واحدة إذ دخلت على زوجها فقالت له: إني أريد أن أبايع محمدًا، قال: لقد رأيتك تُكذبين هذا الحديث بالأمس، فقالت: والله ما رأيت الله عبد حق عبادة في هذا المسجد قبل الليلة، والله إن باتوا إلا مُصلِّين، فذهبت إلى أخيها أبي حذيفة بن عتبة واستأذن لها أن تدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت: "الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه"، وأسلمت لله، وبايعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. • وفي البخاري عن عُرْوَة أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْد بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا: "لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ". • وفي رواية عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالت: جاءت هندٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، لا يعطيني ما يَكفيني وولَدي، إلَّا ما أخذتُ من مالِهِ، وَهوَ لا يعلَمُ، فقال: "خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ"؛ [أخرجه البخاري]. • ولما أسلمت وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنمًا كان عندها في بيتها بالقَدُوم حتى فلذته فلذة فلذة وهي تقول: كنتُ مِنْكَ في غرور. • ويقال: إنها يوم إسلامها أهدت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جديين، واعتذرت من قلة ولادة غنمها، فدعا لها بالبركة في غنمها فكثرت، فكانت تهب وتقول: هذا من بركة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام . • جاء عمر بن الخطاب إلى أبي سفيان، فإذا هند بنت عتبة رضي الله عنها امرأته تهيئ أُهُبه لها في المدينة، فقال: أين أبو سفيان؟ فقالت هند: ها هو ذا، وكان في ناحية من البيت، فقال: احتسبا واصبرا، فقالا: مَن يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد بن أبي سفيان، فقالا: من استعملت على عمله؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، قالا: وصلتك رحم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. • شهدت هند رَضِيَ اللَّهُ عَنْها اليرموك مع زوجها، فلم تترك هند ساحة الجهاد ولكن هذه المرة في سبيل الله، فقد شهدت معركة اليرموك وحرَّضت على قتال الروم، وجعلت تقول "عضدوا الغلفان بسيوفكم معشر المسلمين " . • توفيت في ولاية عمر بن الخطاب في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة سنة أربع عشرة من الهجرة.
مواقف مِن خلال غزوة بدر لماذا لم يخرج عدد أكبر لغزوة بدر؟ كانت الدعوة من أجل التصدي لقافلة أبي سفيان، وظن كثير من المسلمين أن الأمر لا يعدو أن يكون مشابهًا لما سبقه من الخروج للتصدي لتجارة قريش، ولم يكن الأمر ملزمًا - كما صار فيما سيتلو من غزوات، وأن التخلف عنها لغير عذر سيعُدُّ المتخلِّف من المنافقين - لذلك نجد هذا التبرير في قول سعد بن معاذ عندما تكلم باسم الأنصار، فبعد أن تكلم في المضي مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله وأنهم بايعوه على المنشط والمكره وقتال من شاء ومسالمة من شاء، قال: إنا قد خلفنا من قومنا قومًا ما نحن بأشد حبًّا لك منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا يا رسول الله أنك ملاقٍ عدوًّا ما تخلفوا، ولكن ظنوا أنها العير، وقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلَّفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، وقال أسيد بن الحضير عندما استقبل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من غزوة بدر: يا رسول الله، الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك، والله يا رسول الله، ما كان تخلُّفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًّا، ولكني ظننت أنها العير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقتَ)) ، وقال عبدالله بن أنيس حيث لحق بالمسلمين فلقي رسول الله بتربان - مكان - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدًا -: يا رسول الله، الحمد لله على سلامتك وما ظفرك، كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودًا - مصابًا بالحمى - فلم يفارقني حتى كان بالأمس، فأقبلتُ إليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آجرك الله)) . ما حدَث للأعرابي؟ لما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرق الظبية - وهم في طريقهم إلى بدر - لقوا رجلًا من الأعراب، فسألوه عن القافلة، فلم يجدوا عنده خبرًا، فقالوا له: سلم على رسول الله، قال: أوَفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم: فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه، قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل عليَّ، فأنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَهْ! أفحَشْتَ على الرجل)) ، ثم أعرض عن سلمة. هذا الخبرُ فيه دروس عظيمة للمسلمين، منها: أنه ينبغي في وقت الجد البُعد عن المزاح، وأن المزاح لا ينبغي أن يكون مسفًّا لهذه الدرجة بحيث يتهم هذا الأعرابي بإتيان الناقة حتى أسكته النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مَهْ! أفحَشْتَ على الرجل)) ، وأنه أساء التصرف أيضًا؛ حيث تولى هو الإجابة، والأعرابي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي قد تعود مثل هذه الأسئلة، وكان يجيب عليها بحكمته المعروفة، فكان خطأ سلمة من عدة وجوه، وكان عليه أن يدرك الموقف، ويقدر الظرف الذي هم فيه حق التقدير، فالمعركة وشيكة، وفيها تزهق الأرواح، والموقف يتطلب الجد والالتجاء إلى الله، والتقرب بالعمل الصالح، لا الهذر واللغو والكلام القبيح، وكذلك الإصغاء إلى القادة وعدم التدخل والإجابة عنهم، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الحرية لأتباعه، فليس معنى هذا أن تكون مطلقة، وإنما تقف عند حد لا يمكن تجاوزه، فكان الأولى أن يجيب على سؤال الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن سلمة أخطأ ثانية ولم يأبَهْ لما فعل مع الأعرابي، فلما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهنَّأه الصحب بهذا الانتصار، ردَّ سلمة على الناس بقوله: ما الذي تهنئونا به؟ فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((يا بن أخي، أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتَه، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم)) ، فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل مني معرضًا منذ كنا بالروحاء في بدأتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا ما قلتَ للأعرابي: "وقعتَ على ناقتك فهي حبلى منك"، ففحشت، وقلت ما لا علم لك به، وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهِّدها)) ، فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبِل منه معذرته، فكان مِن علية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد. إن التقليلَ من قوة الخصم في المعركة واحتقارها، هو تقليلٌ من قوة المنتصر عليه، فإذا كان الخصم ضعيفًا فما قيمة المنتصر عليه؟ لقد نسِي سلمة أن الله تعالى قد أيَّد نبيه تأييدًا مطلقًا في هذه الغزوة، وأمدَّه بالملائكة، وقذف الرعب في قلوب المشركين، وبهذا يكون ربُّنا قد سلمهم للمسلمين لقمة سائغة ما عليهم إلا أن يمضغوها، وإلا غكيف هزمت هذه القلة في العدد والعدة هذا الجمع المستعد بهذه النتيجة؟ ثم يأتي سلمة، فيقول للناس: ما لقينا إلا عجائز صلعًا، ونسي جبروت أبي جهل ومن كان معه، ونسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويتضرع إلى الله أن ينصر هذه الفئة المؤمنة، وأنه كان يقول: ((إن تَهلِكْ هذه العصابة، فلن تُعبَد في الأرض)) ؛ وذلك لِما يعرف من سطوة قريش. السقاة وضربهم لاستجوابهم: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من الصحابة ليأتوه بخبر قريش، فوجدوا على بئر الروحاء سقاة لقريش، فأخذوا الأسقية وأمسكوا بعدد منهم، وأتوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فأخذوا يسألونهم عن القافلة وهم يجيبون أنهم مع جيش لقريش، فلم يصدقوهم وأخذوا يضربونهم إلى أن قالوا لهم ما يرضيهم، وهو أنهم مع أبي سفيان، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم مِن صلاته قال لهم: ((إذا صدَقوكم ضربتموهم، وإن كذَبوكم تركتموهم)) . هذه الحادثة تبيِّن أن الذين تولوا الاستجواب لم يكونوا على دراية به، وكانوا متأثرين بفكرة الاستيلاء على القافلة، وفي ذهنهم أنه لا يوجد حدث غيرها؛ ولذلك كان اتجاههم في الاستجواب وَفْقَ مفهوم لا محيد عنه، يريدونهم الإقرار به، على الرغم من أن الأمر الذي طرأ أخطر من أمر القافلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليه ومر على آذانهم دون أن يعيروه سمعهم، وكانوا سيفوتون أمرًا مهمًّا لولا أن تداركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفيد هذا أن على من يستجوب أن يعرف طبيعة المتسجوبين وإن كان لهم غرض في إخفاء المعلومات، فهؤلاء سقاة سذَّج ليسوا أصحاب مصلحة، أجراء على سجيتهم، فقالوا ما عندهم بعفوية، وكذلك لا ينبغي استعمال العنف في الاستجواب، بل ابتداع أمور في التحقيق توصل إلى المعلومة من الخصوم، وهذا يتوقف على ذكاء المستجوب. التَّوريَة على الأعداء: لقي النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا قريبًا من بدر، فقال له: من الرجل؟ فقال الرجل: بل من أنتم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرنا ونخبرك)) ، قال: أنا سفيان الضمري، ثم قال: فسلوا ما شئتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبرنا عن قريش)) ، قال الضمري: بلغني أنهم خرجوا يوم كذا وكذا من مكة، فإن كان الذي أخبرني صادقًا فإنهم بجانب هذا الوادي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأخبرنا عن محمد وأصحابه)) ، قال: خبرت أنهم خرجوا من يثرب يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صادقًا، فهم بجانب هذا الوادي، قال الضمري: فمن أنتم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحن من ماء)) ، وأشار بيده جهة العراق، ثم انصرَف. النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا صدقًا، والإنسان مخلوق من ماء، وقد أخذ منه الأخبار التي يريدها، ولم يعطِه شيئًا. الحذر وإخفاء الأثر: ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء عينًا؛ لكي يكتشفا خبر أبي سفيان، ووصلا إلى ماء في بدر، فأناخا ثم سمعا جاريتين تخبر إحداهما الأخرى عن قرب وصول قافلة أبي سفيان غدًا أو بعد غد، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فقال لها: صدقت، فعادا ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر، وأتى أبو سفيان بعد ذلك إلى المكان مستطلعًا، وسأل مجدي بن عمرو الجهني إن كان رأى أحدًا من أصحاب محمد، فأجاب بالنفي، لكنه قال: قد أناخ رجلان هناك، فذهب أبو سفيان وأمسك بعر الناقتين وفركها فرأى فيها نوى، وهو علف أهل يثرب للإبل، فعلم أن محمدًا وأصحابه قرب هذا المكان، فأسرع وغيَّر طريقه. فهذا الخبر يدل على غفلة من قِبل بسبس وعدي، نعم لقد نجحا في أمر وأخفقا في الآخر، نجحا في معرفة خبر القافلة، لكن أغفلا إزالة أثرهما أو أثر بعر ناقتيهما ولم يعيرا لهذا الأمر أهمية، وعليهما أن يعلما أنه مثلما كانا عينًا للمسلمين فإن العدو له عيون أيضًا، وعليه فالعدو استفاد من هذا الأثر فائدة كبرى فغيَّر الطريق ونجا بالقافلة. النزاع الخفي في جيش قريش: من خلال متابعة الأحداث نجد أن هناك نزاعًا بين زعماء قريش؛ فأبو جهل الذي يقود الناس لم يحظَ بالإجماع، وإنما قادهم بالتسلط والتخويف، وكان النزاع ظاهرًا بين أبي جهل وعتبة بن ربيعة؛ مما دفع الأخير إلى طلب المبارزة هو وأخوه وابنه فرارًا من الانضواء تحت قيادة أبي جهل، وقد أثر هذا الخلاف على سير المعركة والتنسيق بين زعماء قريش، إضافة إلى أن خروجهم كان بطرًا ورياءً، فكان الخزي والهزيمة نصيبهم. النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من المقاتلين عدم التعرُّض لأشخاص سماهم: كان هذا الطلب لفتةً كريمة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبعض هؤلاء الأشخاص لم يشاركوا في إيذاء المسلمين، بل كانوا يكرهون ما يفعله القساة من زعماء قريش؛ فأبو البختري بن هشام كان أحد الذين سعوا لتمزيق صحيفة المقاطعة، وعمه العباس أخرج مكرهًا، وهو مع المسلمين قلبًا وقالبًا، لكن خرج مِن بين المسلمين مَن اعترض على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المهاجرين "أبو حذيفة بن عتبة"، فقال: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيتُه لأُلحمنَّه السيف، وهذا موقف ندم عليه أبو حذيفة، وربما كان خفق قلبه مع أبيه وأخيه متمنيًا لهما الإسلام وكانا مع عمه شيبة من أوائل صرعى بدر في المبارزة التي جرت عند بدء المعركة، وعندما نقل قتلى المشركين وألقوا في القليب، وأُخذ عتبة بن ربيعة فسُحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغيَّر، فقال: ((يا أبا حذيفة، لعلك دخلك من شأن أبيك شيء؟)) ، فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيًا وحِلمًا وفضلًا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك. عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: عاد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستُقبل خير استقبال، وكان معه الأسرى، وكان هناك رأي في قتلهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى مفاداتهم، ووزعهم بين أصحابه وقال: ((استوصوا بالأسرى خيرًا)) ، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه بشأنهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرَض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس)) ، فقام عمر فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء، وأنزل الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾} [الأنفال: 67 - 69]، فكان الوحي مؤيدًا رأي عمر، وفيه عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الله قد كتب أنه سيحل المفاداة لكان مس مَن قبِل العفوَ عن الأسرى بالعذاب، وأنه لا يعذب على الاجتهاد فيما لم يرد به نص، وبعد هذا العتاب الشديد أحل الله ما فعلوه ﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 69]، وفي سورة "القتال" - محمد - قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4]. قتل عدد مِن الأسرى كانوا ممن آذى المسلمين: في منطقة الصفراء وفي طريق العودة إلى المدينة حتى إذا كانوا بعرق الظبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُضرَب عنق عقبة بن أبي معيط، فجعل عقبة يقول: يا ويلي، علامَ أقتل يا معشر قريش مِن بين مَن ها هنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعداوتِك لله ورسوله)) ، وأراد أن يرقق قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من للصبية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((النار)) ، ثم أمر عاصم بن ثابت، فضرب عنقه، وقال: ((بئس الرجل كنت، والله ما علمت كافرًا بالله وبرسوله وبكتابه مؤذيًا لنبيه، فأحمد الله الذي هو قتلك وأقر عيني منك)) ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما فعل هذا بي؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقي، وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران - تخرجان - وجاء مرة أخرى بسلاة شاة - ما يخرج منها بعد الولادة - فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي)) ، ولما نزلوا شعب الصفراء أمر بضرب عنق النضر بن الحارث، ضرب عنقه علي بن أبي طالب، وكان هذان الرجلان من شر عباد الله، وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا، وهجاء للإسلام وأهله، وقد رثته أخته قتيلة: هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه أم كيف يسمع ميِّت لا ينطق أمحمَّدٌ يا خيرَ ضِئْيِ كريمةٍ من قومها والفحل فحل مُعرّق ما كان ضرَّك لو منَنْتَ وربما منَّ الفتى وهو المَغِيظ المُحْنق أو كنتَ قابل فديةٍ فليُنْفَقَنْ بأعزِّ ما يغلو به ما يُنفَقُ والنضرُ أقربُ مَن أسرتَ قرابةً وأحقُّهم إن كان عِتْقٌ يُعتَق وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الأبيات رق لها وقال: ((لو بلغني هذا قبل قتله، لمننتُ عليه)) . نماذج من الأسرى الذين فدوا أنفسهم: كان من بين الأسرى أبو عزيز بن عمير، وهو أخو مصعب لأبيه وأمه، مر به مصعب وهو موثق عند الأنصار، فقال مصعب لأبي اليسر الذي أسره: شد يديك به؛ فإن أمه ذات متاع؛ لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز: يا أخي، هذه وصايتك بي، وقد فادته أمه بأربعة آلاف درهم، وهو أغلى فداء فُدي به قرشي، وكان من بين الأسرى أبو وداعة بن ضبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن له بمكة ابنًا كيسًا تاجرًا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه)) ، وكان أبو سفيان قد طلب التأني في فداء الأسرى؛ كيلا يغالي المسلمون في الفداء، لكن ابن أبي وداعة تسلل إلى المدينة ودفع أربعة آلاف درهم فداء أبيه، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا يؤذي المسلمين بخطابه، فقال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيتيه فلا يقوم عليك خطيبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه)) ، وقد قام خطيبًا فيما بعدُ عندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف، وأما أبو سفيان فقد قتل ابنه حنظلة، وأسر ابنه عمرو، وقال: لا أفديه وأجمع على دم ومال، فليمسكوا به ما بدا لهم، لكنه وجد مخرجًا؛ حيث صادف أن سعد بن النعمان من الأنصار كان في مكة يؤدي العمرة، فأخذه أبو سفيان رهينة مقابل ابنه، مخالفًا أعراف العرب، ففاداه المسلمون بابنه، وكان في الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نعم الزوج لها، وهو ابن خالتها، وكانت قريش قد طلبت منه مفارقة زوجته وتطليقها فأبى، بينما نجد عمه أبا لهب قد أمر ابنه عتبة أن يطلق رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم فطلَّقها بحجة أن يشغَلوا محمدًا بنفسه، وهنا بعثت زينب بمال، وفيه قلادة كانت خديجة قد أهدتها لابنتها بمناسبة زواجها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها وقال: ((إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا)) ، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها مالها، وأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب لتأتي إلى المدينة، وفادى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وابني أخويه عقيلًا ونوفلًا بمائة أوقية ذهبًا، وهناك أسرى مَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم دون فداء، ومنهم أبو عزة، فقال: تعرف أني فقير لا مال لي وعندي بنات، فمنَّ عليه مشترطًا ألا يشارك في القتال مرة أخرى، وروي أنه شارك في أحد ثم قبض عليه وقُتل لمخالفته الشرط، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: ((كيلا تمسح عارضيك في مكة وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) ، وكان مِن بين أسرى بدر وهب بن عمير وأبوه عمير بن وهب من شياطين قريش وممن كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء وهو بمكة، فجلس مع صفوان بن أمية في الحِجر بعد مصابهم في بدر يذكرون أصحاب القليب، وأنه لا خير في العيش بعدهم، فقال لصفوان: لولا دَين عليَّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله؛ فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان وقال له: عليَّ دَينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي، أواسيهم ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال عمير: فاكتم عليَّ شأني وشأنك، قال: سأفعل، وأمر عمير بشحذ سيفه مع سقايته السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ بباب المسجد متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: ((فأدخله عليَّ)) ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها وقال لمن معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذَروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: ((أرسله يا عمر، ادن يا عمير)) ، فدنا، ثم قال: أنعم صباحًا - وهذا سلام الجاهلية - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أكرمنا الله بتحية خيرٍ من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة)) ، قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد، قال: ((فما جاء بك يا عمير؟)) ، قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: ((فما بال السيف في عنقك؟)) ، قال: قبَّحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئًا؟ قال: ((اصدقني، ما الذي جئت له؟)) ، قال: ما جئت إلا لذلك، قال: ((بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دَين عليَّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمَّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك)) ، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وعلموه القُرْآن، وأطلقوا له أسيره)) ، ثم قال: يا رسول الله، كنت جاهدًا في إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام؛ لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، وكان صفوان يأمل في أن ينجح عمير في مهمته ويمني نفسه والآخرين بحدوث شيء عظيم يقوض الإسلام، لكنه فوجئ بإسلام عمير، فأقسم ألا يكلمه ولا ينفعه، ثم قام عمير يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه عدد لا بأس به. ومنَّ النبي صلى الله عليه وسلم على عدد من الأسرى دون فداء، وعلى آخرين يعرفون القراءة والكتابة بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهذه لفتة مهمة لقيمة المتعلم والاستفادة منه. وقع الغزوة على قريش: أما في جانب قريش فقد كانت هناك مناحات، فلم يخلُ بيت من مصاب في قتيل أو أسير، ولما رأى أبو سفيان ما تضج به مكة من النواح والعويل أصدر أمره بمنعه؛ كيلا يبلغ ذلك محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا ترسلوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب - لا يغالي - عليكم محمد وأصحابه في الفداء، وأقسم ألا يمس طيبًا أو امرأة حتى يثأر من المسلمين، وكان الأسود بن المطلب، وهو أعمى، قد أصيب له من ولده ثلاثة، زمعة وعقيل والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، وبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له: انظر هل أحل النحيب؟ هل بكت قريش قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة - زمعة - فإن جوفي قد احترق، فاستطلع له الغلام الأمر ثم عاد ليخبره أن المرأة كانت تنوح على بعير أضلته، وكان هذا تمويه منها لكي تبكي قتلاها فلا تحاسب، فعرف منها هذا، وقال: أتبكي أن يضِلَّ لها بعيرٌ ويمنعها مِن النوم السهودُ فلا تبكي على بكرٍ ولكن على بدرٍ تقاصرتِ الجدودُ وكان أول مَن قدم بالخبر إلى مكة الحيسمان بن عبدالله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قُتل عتبة وشيبة وأبو الحكم - أبو جهل - وأمية بن خلف وزمعة وأبو البختري، وجعل يعدد الكبار، فظنوه يَهذي، فقال صفوان بن أمية وكان جالسًا في الحِجر: اسألوه عني، فقالوا: وما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسًا في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتلا، ويروي أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنت غلامًا للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمَتْ أم الفضل، وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام، وكذلك كانوا يصنعون، لا يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلًا، فلما جاء الخبر عن مصاب قريش في بدر - وكنت في حجرة زمزم أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة وقد سرَّنا ما جاء من الخبر - أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فقال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إليَّ؛ فعندك لعمري الخبر، فجلس والناس يستمعون، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالًا بيضًا على خير بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق - تبقي - شيئًا، ولا يقوم لها شيء، فقال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فوثبت إليه، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك على صدري يضربني، قال: وكنت رجلًا ضعيفًا، فقامت أم الفضل إلى عمود فأخذته وضربت به رأس أبي لهب فشجته شجة منكرة، وقالت: استضعفتَه أن غاب سيده، فقام موليًا ذليلًا، فما عاش بعدها إلا سبع ليال؛ حيث ابتلي بداء العدسة، وهي قرحة كالطاعون، فقتلته.
يوسف الصديق عليه السلام (4) أشرتُ في الفصل السابق إلى نسيانِ الناجي من صاحبي سجن يوسف عليه السلام ذكرَ شأنِ يوسف للملك، وقد أسند الله عز وجل أمرَ هذا النسيانِ إلى الشيطانِ؛ حيث قال: ﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 42]. وهذا الأسلوبُ في إسناد الشرِّ إلى الشيطان قد كَرَّرَ الله تبارك وتعالى ذكره في القرآن العظيم؛ حيث قال في قصة أيوب: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ [ص: 41]؛ وذلك لأن كلَّ شرٍّ وضير يصيب الإنسان إنما هو بسبب الشيطان الذي أخرج أبوينا من الجنة، وهو من الأدب مع الله عز وجل في إسناد الخير إليه وإسناد الشر إلى الشيطان وإلى النفس الأمَّارة بالسوء؛ مع الاعتقاد الجازم بأن كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، وأن الكلَّ من عند الله، ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 141]. وعندما أرادَ اللهُ عز وجل إعلاءَ شأنِ يوسف، وتثبيت كرامته في قلوب ملك مصر وعموم شعبها، رأى الملك في منامه سبعَ بقرات سِمان وسبعَ بقرات هزيلة، وأنَّ السبع البقرات الهزيلة تأكل السبع السمان، كما رأى في منامه سبعَ سُنبلات خضر وسبع سنبلات يابسات، وقد اهتمَّ الملكُ بأمر رؤياه هذه، وطلب من أشراف قومه ومن يظنُّ فيهم المعرفة بتأويلها أن يُؤَوِّلُوها ويعبِّروها له ويفتوه فيما تقتضيه هذه الرؤيا، فقالوا: هذه أخلاط منامات وأضغاث أحلام، وأصل الضغث: قبضةُ الحشيش المختلط الرطب باليابس، أي: هذه رؤيا لا يصحُّ تأويلها لاختلاطها، ونحن غير قادرين على تعبيرها، وغير عارفين بتفسيرها. وعندئذ تذكَّر الناجي مِن صاحبيه في السجن بعد هذه المدة الطويلة، وقال: أنا آتيكم بتفسيرها وتعبيرها من الخبير بذلك يوسف السجين، فأرسِلوني إليه، فأرسلوه إلى يوسف عليه السلام، وبمجرَّد ما عرض عليه الرؤيا سارع إلى تفسيرها، ففسَّر السبعَ البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر بسبع سنوات رغيدة مخاصيب، وفسَّر السبعَ البقرات العجاف الهزيلة والسبع السنبلات اليابسة بسبع سنوات مجدبة، ولم يكتفِ بهذا التفسير العظيم لرؤيا الملك؛ بل وضع لهم خطة تجاوز محنة السبع السنوات المجدبة، فقال: تزرعون السبع السنوات مغتنمين فرصةَ رغدها وجَودة محاصيلها دون تضييع شيء من هذه الفرصة، وإذا نضج الزرعُ فلا تدوسوه واتركوه في سنابله إلا بقدر حاجتكم الضرورية من الطعام منه، ولا تتوسَّعُوا في النفقة وادَّخِروا كلَّ ما يمكنكم ادِّخاره في هذه السنوات المخصبة؛ حتى يبقى لكم ما تحتاجون إليه في السنوات السبع المجدبة، وبشَّرهم بأن الله سيغيثهم في أول عام بعد هذه السبع بخير كثيرٍ يغاثُ الناس ويذهب الجدب عنهم، وتعود معاصر الزيت ونحوه إلى عملها كما كانت قبل هذه السنوات. ولا شك في أن ما أشار به يوسف الصدق عليه السلام مِن حفظِ الحبوب في سنابلها لا يزالُ محلَّ إعجاب وتقدير من علماء الزراعة في القديم والحديث؛ لأنَّ بقاء الحبوب في سنابلها أدعى لصيانتها من السوس والفساد وأبقى لها على طول الزمان دون حاجة إلى صوامع أو نحوها، وعندما سمع الملك بهذا التعبير عَظُمَ يوسفُ في قلبه وظهر له أنه في أمسِّ الحاجة إلى قربه؛ فقال: ائتوني به، فلما جاءه الرسولُ وعرَّفه أن الملك يدعوه لتكريمه وإجلالِه لم يسارعْ إلى الخروج من السجن، بل طلبَ من الرسول أن يرجعَ إلى الملك، ويسأله عن خبر النِّسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهنَّ؛ ليكون ذلك أظهر لبراءته وأعزَّ لمكانته، وقطعًا لألسنة السوء، والله لا تَخفى عليه خافية، وقد ذهب عامَّةُ العلماءِ إلى أنَّ المراد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (( ولو لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ ما لَبِثَ يوسفُ لأجَبْتُ الدَّاعِيَ ))؛ أي: لسارعت إلى الخروج من السجن دون تريُّثٍ، ولأجبتُ رسولَ الملك في الحالِ وخرجت من السجن، وعلى أي حال فإن المقصود من هذا الحديث كما أشرتُ في سرد قصة إبراهيم عليه السلام ولوط عليه السلام هو بيان علوِّ منزلة يوسف عليه السلام، لا أنَّه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ من المتفق عليه عند العقلاء أن تواضُع الرفيع القدر لمن دونه لا يُنزل من قدره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله قاطبة، فهو خاتم المرسلين وإمام الأنبياء، وهو العالي الدرجات المُشار إليه في قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253] فرسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم في المرسلين سماءٌ ما طاولتها سماء. وقد سأل الملكُ النسوةَ اللاتي أُخبر أنهنَّ قطعْنَ أيديهُنَّ: هل رأيتن من يوسف شيئًا يسوء؟ ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ ما رأينا عليه من سوء، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ واتَّضح وبان وانكشف، ﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾، أي: أعترف له بفضله وهو غائب عنِّي، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾، وقالت امرأة العزيز أيضًا: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. وعندما تأكَّد الملكُ أن يوسفَ سُجن ظلمًا، وأنه أحدُ الأمناء الكرام، والعلماء العظام فلم يُطِقِ الملكُ صبرًا، وقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ ﴾؛ ليكون خاصَّتي، فلما جاء يوسف وكلَّمه قال له الملك: ﴿ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ فأراد يوسف عليه السلام نفعَ البلاد والعباد، فقال للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾، فمكَّن الله عز وجل ليوسف في أرض مصر ينزل فيها حيث يشاء حرًّا كريمًا سيدًا مطاعًا من فضل الله عليه وعلى كلِّ محسن، وهذا في الدنيا، ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 57]. وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾؛ "أي: إن إلهي وخالقي وسيدي رب السموات والأرض لا تخفى عليه خافية من كيد النساء ومكرهن الذي أوصلني إلى السجن" ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 43 - 57]. وقد أوردَ بعضُ المفسرين هنا أحاديث باطلة، وأخبارًا مردودة عاطلة في تفسير بعض هذه الآيات، يَحمي الله تعالى أنبياءه ورسله عن مثل ما روي في هذه التفاسير؛ كمثل ما روي في قوله ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ أنه حَلَّ الهِمْيَان، أي: تكة سراويله، وجلس منها مجلس الرجل من زوجته، وهذا ولله الحمد لم يثبتْ بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قولٌ مدسوس من اليهود وأخبار بني إسرائيل، وصريح الآية علق الهمَّ بها على رؤيته برهان ربه بصيغة الماضي، فكأنه قال: ولولا أنه رأى برهان ربِّه لهمَّ بها، ولكنه لم يهم بها؛ لأنه رأى برهانَ ربِّه، وسياق الآية يكذِّب ما زعموا، كقوله تعالى عنها: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ معطوفًا بالفاء الدالَّة على التعقيب، وأنه بمجرد مراودتها له استعصم، وهذا ظاهر. وكذلك تفسيرهم لقوله: ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ بأنه أراد بربه عزيز مصر، وهذا ولله الحمد لم يَثبتْ بخبر صحيح ولا حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسياق يدلُّ على أن الذي رأى يوسف برهانَه وأحسن مثواه هو رب العالمين. كما زعموا أن قوله: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ من كلام يوسف لامرأة العزيز، وأن جبريلَ قال له: ولا حين هممت بها، أو أن امرأة العزيز قالت له حينئذٍ: ولا حين حللت سراويلك يا يوسف. فهذا كلُّه مفترًى على يوسف الصدِّيق، وقد صانَه الله وعصمه من كلِّ سوء كما عصم إخوانه الأنبياء والمرسلين. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
من الدلائل العقلية على صدق النبي صلى الله عليه وسلم الحلقة السادسة (التشريعات الإسلامية ودلالتها على صدق النبوة) تقدم الكلامُ في مقالات سابقة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه قبل البَعثة وبعدها، ودلالة ذلك على صدقه في دعوى النبوة، وتعرضنا كذلك لبعض ما دعا الناس إليه من معتقداتٍ تتنافى مع فرضية كذب نبوته واختلاقها. ونعرض في هذه المقالة للجانب التشريعي ودلالته على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعواه، ولن نتكلم في حديثنا هذا عن الإعجاز التشريعي، ولا عن تماسك البناء التشريعي واطراده وشموله، وكيف يتأتَّى ذلك من رجل أميٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ويسكن البادية بين مجتمع أميٍّ بدائي. وإنما سنتكلم عن التشريعات الإسلامية ودلالتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من جوانبَ أخرى، وهي أمورٌ نرى أنه ليس بمقدور الخصوم أن يكابروا في دلالتها، ولا أن يدفعوا في صدر وجاهتها. ولسوف نطرح حجتنا في دلالة التشريعات الإسلامية على صدق صاحب الرسالة صلوات الله عليه، على وجه الإجمال، وعلى وجه التفصيل : أما وجه الإجمال ؛ فنقول: إن المشاهَد والمحسوس أن أحكام الشريعة الإسلامية وقوانينها متوغِّلة في حياة الناس اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وفي السلوك الفردي والحياة الخاصة كذلك، وهي في ذلك لا يجاريها ولا يعادلها شريعة أخرى، سماوية كانت أو أرضية. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فهل من العقل أن الرجل الذي يقول الخصوم: إنه أفَّاك مدَّعٍ للنبوة، وليس نبيًّا من عند الله، والذي همُّه الأول والأخير أن يصدِّقه الناس في ادعائه الكاذب أنه رسول من عند الله؛ ليرفع بذلك مكانته ومنزلته عندهم، ثم يعمِد هذا الرجل في سبيل الوصول إلى تلك غايته المنشودة، إلى إخراج الناس من مألوفاتهم العقدية والاجتماعية والاقتصادية، وأطْرِهم على نظم جديدة اخترعها من عنده، وتكون هذه النظم متوغلةً في عاداتهم وحياتهم وحرياتهم كل التوغل، وفيها من المشقة والكُلْفة، وتقييد الحريات الخاصة، وكبح شهوات النفوس، والإلزام بوظائف عبادية كثيرة؟! أقول: هل من العقل أن يكون هذا مسلكه ليصدقه الناس، ويلتفوا حوله، ويزداد أتباعه عددًا؟! أليس العقل قاضيًا بأن تكون تشريعاته وقوانينه الجديدة، ووظائف العبادة في دينه المخترَع أشياءَ يسيرة سهلة، بحيث لا يستشعر المصدِّقون له في ادعائه، والداخلون في دينه المزيف، أنهم إزاء مشقة والتزامات، تضيق بها صدورهم، وتضرر بها نفوسهم ومعايشهم ومصالحهم الاقتصادية؟! أليس المنطقي أن يكون لبُّ دعوته للناس أن يصدقوا كونه نبيًّا، بجانب بعض التشريعات التي يحافظ بها على سلطته ومصالحه الشخصية فحسب؟! إننا لنجد الأمر معكوسًا في الحالة المحمدية؛ إننا نجده يمنعهم من شرب الخمر، تلك العادة التي شبَّ عليها الصغير، وهرِم فيها الكبير، ويمنعهم من الزنا واللواط، بل النظر إلى النساء على وجه الاشتهاء، وعن مصافحتهن، وعن الدخول عليهن بلا وجود مَحْرَمٍ، ويحرِّم عليهم نكاح الأمهات، والخالات، والعمات، وبنات الزوجات، ويجعل القرابة بالرضاع كالقرابة بالنسب في تحريم الزواج...؛ إلخ. كما يمنعهم من كثير من المعاملات الاقتصادية المنتشرة في مجتمعهم؛ كبيع السلع قبل حيازتها، وبيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها وأمنها للآفات، وبيع ما لا يملك الإنسان، وبيع الجنين في بطن أمه، وبيع الدم والنجاسات، وبيع القمح بالقمح، أو الشعير بالشعير تفاضلًا...؛ إلى آخر ذلك من تلك المعاملات الكثيرة المنهي عنها. فهل هذا مسلك رجل كاذب، لا غرض له سوى أن يتابعه الناس على كذبه، ويزداد عدد أتباعه؛ ليصل بذلك إلى مآرب نفسه القبيحة، ويستكمل به نقصها الذي دعاه للافتراء على الله، وخداع الناس؟! وأما في التفصيل فنتناول جانبين: الأول: أخلاقية الشريعة. الثاني: الباعث على التشريعات. أما الجانب الأول ، وهو أخلاقية الشريعة ، فلا ريب أن أخلاقية الشريعة من حيث الجملة محل اتفاق بين المناصرين والخصوم، فلا خلاف في ذلك، فإن أبا سفيان بن حرب عندما كان كافرًا لما سأله هرقل ملك الروم عما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، أجاب بأنه يأمرهم بالصدق والعفاف وصلة الرحم...؛ إلى آخره. وليس من ريب أن خصوم اليوم أيضًا لا ينازعون في أخلاقية الشريعة من حيث الجملة، وأنها تدعو إلى الفضائل، وإنما يعيب خصوم اليوم من ذوي التوجه الليبرالي واليساري على الشريعة المحمدية أنها تُؤثِر الأخلاق والفضيلة على الحريات الشخصية، وأنها تُعْلِي القيمة على اللذة الحسية، وأنها تحرم الإنسان من كثير من الشهوات الجسدية، وفي ذلك وصاية على الإنسان وعلى عقله ورشده. أو يعيبون عليها أنها لا تحقق العدل والمساواة - من وجهة نظرهم - في بعض الصور، كما في مساواة المسلم بغيره، أو الرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات جميعًا. وإذا كانت الشريعة بهذه الأخلاقية محل الاتفاق، فالسؤال المطروح حتمًا: ما الذي يجعل رجلًا ارتكب أكبر جريمة أخلاقية - وهي الكذب على الله وعلى الناس بادعاء النبوة - أن يتبنَّى هذا الأنموذج الأخلاقي في تشريعاته تبنيًا صارمًا مطردًا ثابتًا، بحيث لا تنخرم هذه الأخلاقية في تضاعيف التشريعات المختلفة، وبحيث تصبح تلك الأخلاقية بمثابة القواعد الحاكمة لجزئيات التشريعات المختلفة؟! إننا لا ننكر أن الكَذَبة المدَّعِين قد يتمسحون في الفضيلة والأخلاق، ويرفعون لافتاتها لخداع العامة والدهماء، والوصول إلى مآربهم الحقيرة، لكننا في الوقت نفسه نجزم أن استعمال الكذبة المدعين لشعارات الفضيلة والأخلاق لا يكون إلا بالقدر الذي يتمكَّنون به من تحقيق مآربهم، والوصول إلى غاياتهم، وأنهم سرعان ما ينكشفون أمام الناس عند أول اختبار أخلاقي حقيقي، فتجدهم يلقون الشعارات الأخلاقية وراء ظهورهم، ويُظْهِرون الوجه الحقيقي لانتهازيتهم وخِسَّة نفوسهم، وهذا مشاهَد ومسجَّل عند الناس، وأقرب أمثلته الواقعية الشعارات التي يطلقها السَّاسة قبيل الاستحقاقات الانتخابية، وما يفعلونه بعد الوصول إلى السلطة. وأما ما نحن فيه من الأخلاقية في الشريعة المحمدية، فواقع الحال أننا لسنا أمام بعض شعارات رنانة يمكن أن تصدُرَ من أكثر الناس بعدًا عن الأخلاقية، ومن أكثرهم انحطاطًا بغرض التلبيس والمخادعة. كلا، إننا أمام بناء أخلاقي مطرد في التشريعات، يتمكن الفقهاء المسلمون إلى اليوم عبر استقرائه من الحكم على الوقائع بالحل أو الحرمة، بالسواغية أو المنع، بالاستحباب أو الكراهة، عن طريق تلك (الأخلاقية) المنتشرة في جَنَبات الجزئيات التشريعية، التي صارت بمثابة الضابط الكلي لجميع الجزئيات التي لا نصَّ فيها، ولجميع الوقائع التي تستحدثها تغيرات الحياة، واختلاف الأزمنة، وتنوع المجتمعات والبيئات. إننا لسنا أمام رجل قال كلمة يمدح بها الصدق، أو يذم بها الكذب، وانتهى الأمر. كلا، بل إننا أمام شريعة تجعل من تحقق الصدق أو الكذب مناطًا لجواز المعاملات أو تحريمها. إننا أمام شريعة تحرم الكذب في الحديث، وتحرم الغش والخداع في المعاملات والعقود. شريعة تضافرت نصوصها على تحريم الكذب، حتى إن الفقهاء لَيختلفون في حكم الكذب الذي لا يترتب عليه إضرار بأحد، كما في الكذب في المزاح أو الإبداع الأدبي وما شابه ذلك. شريعة قائمة على الصدق، فتتضافر نصوصها على تحريم الغش والتدليس في المعاملات الاقتصادية؛ حتى يكون وجود الغرر - وإن كان عن غير قصد - كفيلًا ببطلان المعاملة، والمنع منها. فما الذي يحمل رجلًا كاذبًا مُدَّعيًا إلى الوصول إلى هذه الدرجة من الأخلاقية الصارمة في دين يخترعه بلا رقيب ولا حسيب عليه من أحد؟! وقبل ذلك كله وبعده يُلزِم نفسه بتلك القواعد إلزامًا صارخًا في حياته الشخصية والعامة، وفي وقت سلمه، ووقت حربه، وفي وقت رضاه، ووقت سخطه، كما تقدم ذلك معنا عند الكلام عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ودلالتها على صدقه. ما الذي يحمل كاذبًا مدعيًا أن يأتي بشريعة تحارب التكبر والتعالي على الناس، ويسوق في ذلك نصوصًا مختلفة، ويحمل نفسه على التواضع الجم الصادق في جميع المواطن، وفي كل الأطوار؟! ماذا يحمل كاذبًا مدعيًا أن يأتي بشريعة تحارب الفخر بالأحساب والأنساب، والاستطالة على الآخرين بذلك، وممارسة العنصرية ضد الضعفاء والمساكين وذوي الأنساب المتواضعة؟! وهذا الرجل نفسه من أشرف العرب نسبًا، وأنبلهم قبيلة، وأرفعهم مكانة اجتماعية، وهو ليس في إعواز من الشرف والنسب، حتى يقول قائل: إنه فعل ذلك لينفرد بالسُّؤْدَد، وليحصل له الاستقلال بالمكانة والوجاهة دون غيره من الوجهاء والأشراف. ما الذي يحمل كاذبًا مدعيًا مخادعًا لله وللناس على الانحياز إلى الفقراء والمساكين والضعفاء، وسرد النصوص التي لا تُحصى كثرة حضًّا على الرفق بهم، ومساعدتهم، والإحسان إليهم، والسعي الحثيث في نفعهم بوجوه النفع المختلفة، والنهي عن إيذائهم ولو بالكلمة والإيماءة، والوعيد على التخلي عنهم، وعدم القيام بالواجب الاجتماعي حيالهم؟ ما حاجة الكذاب المدعي إلى هذا المسلك الأخلاقي، مع إلزام النفس به إلزامًا شديدًا في جميع أحواله وأطواره من سَعَةٍ وضيق، وغنًى وفقر؟! أي نبل أخلاقي أحاط برجل كذَّاب مُدَّعٍ للنبوة بهتانًا وزورًا أن يعاديَ الظلم بجميع صوره وأشكاله معاداةً صارخةً لا هوادة فيها، وأن ينحاز للعدل انحيازًا كاملًا، حتى صار ذلك قاعدة عامة لشريعته، فيحملها طلبها للعدل ومحاربتها للظلم أن تحرم صورًا وأشكالًا من المعاملات الاقتصادية الرائجة في كل الأزمنة؛ لكون تلك المعاملة فيها ظلم لأحد الطرفين، حتى إن كان المظلوم راضيًا عن هذا الظلم، كما في تحريم الربا بصوره المختلفة على نحو لم تأتِ به شريعة سابقة، ولم تتابعها عليه الشرائع البشرية المعاصرة؟! وقبل ذلك وبعده تكون سيرة ذلك الرجل الآتي بهذه الشريعة تعبيرًا صادقًا عن هذا الانحياز إلى العدل، والمجانبة للظلم، في القليل والكثير؟! أنَّى للكذاب المدعي وتلك الشمائل الأخلاقية في سيرته وشريعته على حد السواء تنتشر انتشارًا ظاهرًا مطردًا مُتَّسقًا؟! وأما الجانب الثاني، فهو: الباعث على التشريعات؛ وذلك أن العقل قاضٍ بأن المدعي للنبوة كذبًا أو حتى لغيرها من الدعوات؛ كادعاء المهدوية أو الولاية، لا بد أن يكون همه وشاغله فيما يُحدِثه من تشريعات، ويسُنُّه من قوانين أن تصب هذه التشريعات وتلك القوانين في خدمة دعوته الكاذبة، وأن تزيد في سلطانه وسيطرته على أتباعه، وألَّا يكون في تلك التشريعات والقوانين ما يناقض هذا الهدف الرئيس في صلبه أو في ثمرته؛ أي تصديقه في دعواه الكاذبة، وجذب المزيد من الأتباع إليها. ومن أمثلته أيضًا ما هو مشاهد في عالم السياسة؛ حيث يسعى الديكتاتور أول وصوله إلى السلطة، إلى تدبيج الدساتير والقوانين بما يطيل بقاءه في السلطة، وبما يسمح له بمباشرة البطش بالخصوم؛ حيث يغير من القوانين والتشريعات القائمة ما يمنعه من الوصول إلى تلك الغاية، وتصبح هذه معركته وقضيته، ولا يلتفت إلى ما سواها من القضايا إلا بالقدر الذي يساعده في الوصول إلى غايته، وتحقيقها، والمحافظة عليها إذا تحققت. وكان المفترض في الحالة المحمدية حال صحة زعم الخصوم بكذب محمد في دعواه – حاشاه - أن تتمركز التشريعات المحمدية حول إحكام سيطرة محمد على السلطة، وتقوية دعوته ودولته، وإغراء الناس بالانضمام إليها، والابتعاد عما ينفرهم منها، وعدم الاهتمام بشأنهم الاجتماعي إلا بالقدر الذي يتمكن به محمد من السيطرة عليهم، وإخضاعهم لسلطته ودولته، وأما فيما عدا ذلك؛ فكان ينبغي عليه أن يترك الناس وشأنهم في تلك الأمور، ما دام ذلك لا يؤثر سلبًا على دعوته أو سلطته، فإن شأن كل كذَّاب مُضِل أن يتمركز حول ذاته ومصالحها، ولا يلتفت إلى الآخرين، إلا بالقدر الذي يخدم به نفسه ومصالحها ومنافعها. لكننا إذا نظرنا إلى واقع الحالة المحمدية، لا نجد الأمر على ما يقتضيه هذا التصور المفترض، بل نجد الجانب الأخلاقي على ما تقدمت الإشارة إليه آنفًا، ونجد كذلك تشريعات اجتماعية وشخصية لا طائل منها، ولا محل لوجودها من الإعراب حال افتراض كون محمد كاذبًا - حاشاه - بل إننا نجد تشريعات تُضادُّ السيطرة المحمدية، وقد تنفر من الدعوة المحمدية، وتضر بالأطماع الشخصية لصاحب الدعوة حال كونه كاذبًا. فأما التشريعات المتعلقة بالجانب الأخلاقي، فقد تناولنا ذلك في مطلع هذه المقالة، ونزيد هنا أن نقرر أن كل تشريع أخلاقي في الدعوة المحمدية حال كذب صاحبها – حاشاه - لا مبرر له، ولا معنى منطقيًّا لوجوده، إلا إذا كان وجوده بالقدر الذي يخدم الدعاية الكاذبة، ويوهم الناس بنبوة صاحب الدعوة، وقد قدَّمنا أنه كان يكفي من ذلك النزر اليسير الذي يحصل به تجميل وجه الدعوة وصاحبها، أما التغلغل الأخلاقي في التشريعات المحمدية، وفي سيرة صاحبها، فلا مبرر منطقيًّا له إلا صدق صاحب الدعوة، وأن تلك الدعوة ليست من عند نفسه، وأن صاحبها يرمي إلى تكوين أنموذج أخلاقي في تشريعاته يعيش أبد الدهر، وليس بضعة شعارات يستميل بها رجل كذَّاب معاصريه؛ ليصدقوه فيما يزعمه ويدعيه. وأما الجانب الآخر؛ وهو التشريعات الاجتماعية أو المتعلقة بالحياة الخاصة بالأفراد ؛ فهذا من أظهر ما يكون على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في ادعاء النبوة؛ فإننا لا نعلم باعثًا منطقيًّا لهذه الجملة الكثيرة من التشريعات الاجتماعية والشخصية في الشريعة المحمدية، التي لا تعلق لها بالجانب السياسي، فهي بعيدة كل البعد عن أن يكون لها ثمرة سلطوية، يستفيد بها مدعي النبوة، إن كان كاذبًا في دعواه. ولقد كان يكفي محمدًا صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبًا في دعوى النبوة، أن يترك الناس على ما هم عليه تشريعات متوارثة في الجانب الاجتماعي والشخصي، ولا يقتحم هذا الجانب ليضيق عليهم هذا التضييق؛ فإنه من المعلوم أن الشريعة الإسلامية هي أكثر الشرائع تناولًا للجانب الشخصي والاجتماعي. إن لأصحاب العقول أن يتساءلوا: ما الباعث الذي يحمل رجلًا يدعي النبوة كذبًا أن يضيِّق الخِناقَ على أتباعه، فيُلْزِمهم بالاقتصار على أربع زوجات؟! وما الباعث الذي يجعله يحرمهم من زوجاتهم بعد الطلاق الثالث، وأنه لا سبيل إلى الالتقاء بعد الطلاق الثالث إلا بزواج المرأة برجل آخر، ثم موته أو طلاقها منه؟ وما الباعث المنطقي في تحريم المرأة على زوجها إذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي أو أختي؟ ألَا كان يَسَعُ مدعي النبوة كذبًا أن يترك أمور الزواج والطلاق على ما كانت عليه العرب، وعلى ما يألفه الناس في زمانه؟! ألم يكن الجدير به أن يوسِّع على متبعيه وأصحابه فيما ضيقت عليهم التشريعات القائمة قبله، لا أن يقوم بالعكس ويضيق عليهم فيها؟! من حق صاحب العقل أن يسأل: ما الجدوى السياسية، وما العائد السلطوي على مدعي النبوة كذبًا من تحريمه على أصحابه ومتبعيه إتيان نسائهم إبان الحيض، أو ممارسة الجنس معهن في الدبر؟! وأي ضير كان سيلحق دعوته وسلطته ودولته لو أباح لهم إتيان النساء في المحيض، أو في الأدبار؟! تُرى هل أخبرته الأبحاث الطبية في عصره بالتأثيرات الطبية لهاتين الممارستين فراح يحرمها على أتباعه، أم هل يملك الكاذب المدعي ضميرًا أخلاقيًّا يشفق به على الآخرين ابتداء؟! وأما الجانب الثالث؛ وهو التشريعات التي فيها تنفير عن الدعوة، أو إضرار بها، أو بأتباعها بوجه من الإضرار، فما أكثر ذلك! وما أوسع انتشاره! ولنفتتح أمثلة ذلك بتحريم الخمر، ولقد كان شربها عادة مجتمعية متوارثة ومتأصلة في المجتمع العربي، حتى إن تحريمها في الشريعة الإسلامية لم يحصل دفعة واحدة، بل احتاج إلى تدريج في التشريع وصولًا إلى حصول الاستجابة المجتمعية للتحريم. فنقول: ما الباعث وراء تحريم الخمر عند مدعي النبوة كذبًا؟ وما مصلحته في تحريمها؟ أليس تحريمها - وهي العادة المجتمعية المتأصلة - فيه مشقة على الناس الذين يريدون الدخول في دين هذا الرجل الكاذب؟! أليس في تحريمها تنفيرٌ لهم من دخول هذا الدين لحرمانهم من هذه اللذة؟! إن الواقع يخبرنا أن تحريم الخمر كان بالفعل عائقًا أمام البعض من دخول الإسلام، كما في قصة الشاعر الجاهلي الشهير (الأعشى)، الذي همَّ بالذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، لكنه رجع من الطريق لما علم أن الإسلام يحرم الخمر، وكان الرجل مولعًا بها، مدمنًا إياها. فما الذي حمل محمدًا صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبًا على مثل هذا التشريع المنفِّر عن دعوته؟! ومثل هذا يُقال في تشريع الصوم، فما الجدوى من فرض صيام شهر كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس على الأتباع، وفي الصوم من المشقة على النفوس والأجساد ما هو معلوم، ولا يحتاج إلى التدليل عليه؟! أما كان الأليق بمدعي النبوة كذبًا إن كان لا بد فاعلًا ومشرعًا للصوم، أن يجعله يومين أو ثلاثة، بحيث لا يشق على أصحابه، ولا ينفرهم من دعوته الكاذبة؟! وانظر إلى فرض الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وكيف أن الرجال مطلوب منهم أن يؤدوها في المساجد جماعة، ومعلوم ما في ذلك من مشقة وتعطيل عن العمل لمن كان نظرته للأمور نظرة دنيوية محضة، وهي النظرة المتوجبة على مدعي النبوة كذبًا بلا ريب. وقُلْ مثل ذلك في محظورات الإحرام؛ وهي الأشياء التي يُمنَع المحرِم - وهو الشخص الذي يقوم بأداء العمرة أو الحج - من ممارستها حال إحرامه. فما الضير أو الضرر الواقع على الدعوة المحمدية حال كذب صاحبها من إباحة أن يلبس المحرم في نسك الحج والعمرة ثيابًا مخيطة، أو يقص أظفاره، أو يأخذ من شعره، أو يضع طيبًا قبل أن يفرغ من نسكه أو يستمتع بزوجه؟ بل هناك ما هو أشد من ذلك في أمر الحج: فقد جاء في القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [المائدة: 95]. فالإنسان الْمُحْرِم ممنوع من اصطياد الحيوانات البرية من وقت دخوله في الإحرام، وإلى وقت خروجه منه، وفي الزمن القديم وتبعًا لوسائل المواصلات في ذلك الوقت، كانت مدة الإحرام تستغرق وقتًا من بداية الميقات الذي يدخل الناس فيه في النسك والإحرام إلى وقت انتهائهم من أداء نسك الحج أو العمرة، فكانت الرحلة من ميقات المدينة – مثلًا - إلى مكة تستغرق أكثر من أسبوع كامل، يقطع المسافر فيها الصحراء، ويحتاج إلى الطعام، وكان الصيد في ذلك الزمان مصدرًا رئيسًا من مصادر الطعام عندهم. فنسأل: ما الفائدة التي تعود على الكذاب المدعي وعلى دولته ونفوذه، إذا منع أصحابه من تناول طعام الصيد طوال هذه المدة، وفي تلك المسافة الطويلة؟ إننا نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم يمتنع هو نفسه من تناول الصيد حال الإحرام، مع أن هذا الصيد جاءه في صورة هدية من أحد سكان المناطق التي مَرَّ بها في طريق حجِّه، بل الأغرب من ذلك أن تكون هناك عقوبات مالية كبيرة على من يقتل الصيد ليأكله وينتفع به، فهل يفعل كذاب مُدَّعٍ هذه الأمور، وهل يليق به أن يتصرف بما فيه إعناتٌ لنفسه ولأتباعه في غير طائل ولا فائدة؟! وما سُقْناه من استفهام في أمر الحج نسوقه في أمر الجهاد نفسه، مع أن للمكذب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يدفع بأن في الجهاد وقتال الأعداء فائدة على الدعوة المحمدية؛ ألا وهي حفظ هذه الدعوة، وقيام دولتها، بقطع النظر عن صدق صاحبها أو كذبه. لكننا نقول: إن في تضاعيف هذا التشريع؛ أعني تشريع الجهاد وقتال الكفار، ما يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الدين ليس من عنده، بل من عند الله. ذلك أن الشريعة الإسلامية قد أمرت بالمحافظة على الصلاة حال القتال، وعدم تركها تحت أي ظرف، وجاءت بلزوم أدائها بحسب الحال؛ إما جماعة أو فرادى أو حال المشي حتى! فنسأل: ما المبرر المنطقي والعقلي لرجل كاذب أن يأمر أتباعه بالمحافظة على الصلاة حتى في هذا الموضع؛ موضع القتال، الذي ربما يهزم فيه جيشه، ويضيع فيه سلطانه وملكه؟! أليس المنطقي أن يبادر الكذاب المدعي أن يقول لأتباعه: إن الله وضع عنا الصلاة حال الحرب، ولم يأمر بها، ما دمنا في قتال مع أعداء الله؛ وذلك لنتفرغ للقتال، وبعد ذلك نعود إلى الصلاة والعبادة؟! أليس مثل هذا القول هو أنفع له ولسلطانه ولدعوته من تشريع الصلاة وقت القتال، وإلزام نفسه وأتباعه بها، حتى في حالة الحروب التي قد تتعرض فيها دعوته ودولته للزوال؟! والحق أنه يطول جدًّا تعقُّبُ الأمثلة لجزئيات التشريع التي تصبح بلا معنى ولا فائدة، أو تلك التي تجلب ضررًا وحرجًا على أتباع الدعوة، حال افتراض كذب صاحب الدعوة وانتحاله لصفة الرسالة والنبوة، وإنما أردنا بما ذكرناه من أمثلة التدليلَ على دعوانا أن نفس التشريعات الإسلامية، وما فيها من كُلفة ومشقة، مع تنوعها وتوغلها في حياة الفرد والمجتمع - لا يتأتَّى صدورها عن متنبئ ولا دعِيٍّ أفَّاك؛ إذ الإفك والكذب يتعارض مصلحيًّا ونفعيًّا كل التعارض مع تلك التشريعات الإسلامية المختلفة، التي تأخذ من حياة الناس ومصالحهم الدنيوية في سبيل مصالحهم الأخروية، ومعلوم أن مصلحة الكاذب وهدفه وغايته في معزل وتعارض عن جميع ذلك.
التدين بين الإطلاق والتحجيم مفهوم التدين : هو أن يتخذ الإنسان لنفسه دينًا يعتقده، ويلتزم أحكامه، وهو مصطلح يقابله اللاتدين الذي قد يعني الإلحاد، وهو اعتقاد عدم وجود إله، كما يعني أيضًا العلمانية التي تعني تحجيم الدين، أو إقصاءه، ويحوي مفهوم التدين في اللغة العديدَ من المعاني التي يدل عليها أصل كلمة الدين؛ فالدين: اسم لجميع ما يُعبَد به الله، فالدين والملة والاعتقاد، كلها ألفاظ تدل على ما يؤمن به القلب، ويقر به اللسان، وتعمل به الجوارح من تعاليم دينية، وفي المعجم الوسيط جاء في معنى (دينًا وديانة): "خضع وذل وأطاع، ويُقال: دان له، وبكذا اتخذه دينًا وتعبَّد به فهو دين، والديانة اسم لجميع ما يُعبَد به الله، والملة، والإسلام، والاعتقاد بالجَنان، والإقرار باللسان، وعمل الجوارح بالأركان، والسيرة والعادة، والحال والشأن، والورع، والحساب، والملك والسلطان والحكم، والقضاء والتدبير"؛ [المعجم الوسيط، باب: الدال، ص307]. التدين الصحيح : بحسب تعاليم القرآن الكريم وأحكام الإسلام، فإنه لا يكون الإنسان متدينًا تدينًا صحيحًا، إلا إذا كان مسلمًا؛ لأن التدين الصحيح فرع عن اعتناق دين صحيح، والدين الصحيح هو الإسلام، وقد جاء ذلك صريحًا واضحًا في مواضعَ ثلاثة من القرآن الكريم؛ الموضع الأول والثاني في سورة آل عمران، وهي سورة مدنية نزلت بعد غزوة أُحُد في السنة الثالثة للهجرة؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وأما الموضع الثالث، فهو في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال التابعي الجليل أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل: "المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ"، وعن جبير بن نفير، قال: "دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة نزلت؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه"؛ قال الشوكاني في نيل الأوطار: "رجاله في المسند رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا الحاكم، قال في الفتح: صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف أن سورة المائدة مُحْكَمة"؛ [نيل الأوطار، 8/337]؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فهذه ثلاث آيات تؤكد أن الإسلام هو الدين المقبول عند الله تعالى، وفي الآية: 19 من سورة آل عمران، سياق واضح فيها، وما بعدها من آيات، يدل على أن المقصود بالإسلام ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الآية: 85 من نفس السورة سياق يدل على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يتطابق مع ما جاء به النبيون من قبله، فجميع ذلك هو الإسلام، وأما آية المائدة، فهي تتحدث عن الإسلام في عمومه، وهو ما يقابل الشرك. ثم إن هذا التدين بالإسلام بذلك الوصف الوارد في الآيات الثلاث، لا يكون صحيحًا إلا إذا جاء متطابقًا مع تعاليم الدين، وفق رؤية كاملة وشاملة، تضم السلوك والاعتقاد، وتمثِّل ما أجمع المسلمون عليه في ذلك، مع التحلي بالتسامح فيما لم يُجمَع عليه، فإنه قد استقر العمل لدى العلماء على أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد؛ قال النووي رحمه الله تعالى: "العلماء إنما ينكرون ما أُجمِعَ عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه"؛ وعليه فإن التدين الصحيح يشترط له شرطان: الشرط الأول: متابعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيما جاء به من دين. الشرط الثاني: المتابعة فيما اتفق عليه المسلمون وعُدَّ إجماعًا بلا منازع. أما ما لحقه شكٌّ من حيث نسبتُه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لضعف في سنده، أو اضطراب في متنه، أو تعارض مع ما هو أقوى منه، أو لَحِقَهُ اختلاف في فَهم مدلوله من الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بعدهم مِن العلماء الثقات، فإنه لا إنكار فيه على المخالف، وجميع المختلفين مأجورون وإن لم يكونوا جميعًا على صواب في حقيقة الأمر؛ لِما جاء في الحديث عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر))؛ [متفق عليه]. أهداف الهجوم على التدين : الهجوم على التدين حرب ذات هدفين؛ فهي من جهة تهدم قناعات بسطاء المؤمنين بالدين، ومن جهة أخرى تصد الراغبين في التدين بذلك الدين عن اعتناقه، وتشككهم فيه، فهي حرب هجومية دفاعية؛ تهدم، وهي أيضًا في الوقت ذاته تواجه مسألة انتشار الإسلام، فبحسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية ، فإن الإسلام يعد الدين الأسرع نموًّا في العالم من حيث عدد التحولات في الفترة ما بين 1990 و2000؛ وقدرت الموسوعة المسيحية العالمية رقم المتحولين من المسيحية إلى الإسلام في مصر وحدها سنة 1982 بين 5800 و7000 معتنق للإسلام سنويًّا، ووفقًا لتقدير آخر سنة 1990 كان الرقم حوالي 15 ألف سنويًّا، بينما وفقًا لتقدير آخر سنة 2001 كان الرقم يتراوح بين 12 ألف و15 ألف سنويًّا. الانتقاص وسيلة المهاجمين: وله أقسام ثلاثة: • الانتقاص من المقدسات. • الانتقاص من القيم. • الانتقاص من العلم. القسم الأول : هو الانتقاص من المقدسات؛ وله ثلاثة أساليب: الأسلوب الأول: الهجوم المباشر على مصادر الدين : على القرآن وآياته والتشكيك في مصدره، أو السنة وأحاديثها، وطريقة جمعها وحفظها وتدوينها. ولا يزال هذا الأسلوب المباشر قائمًا يرعاه كبار أعداء الإسلام منذ ظهوره الأول حتى الآن، وقد سجل القرآن الكريم عديدًا من تلك الأقاويل التي ينشرها الكفار في حربهم على الإسلام؛ من مثل قولهم على القرآن: (أساطير الأولين)، وعلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (مجنون) و(ساحر)، وقولهم: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [النحل: 103]، ثم المدهش أن هذه الحرب الشعواء التي قادها كبار قادة الشرك في مكة من أمثال أبي جهل عمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، وأبي بن خلف، وغيرهم، قد باءت بالفشل الذريع، ولم تزد الإسلام إلا تمكينًا وانتشارًا، ولم تزد الناس إلا قناعة بالإسلام إيمانًا ومنهاجًا، غير أن قريحة المجرمين الجدد لم تتفتَّق من بعد أسلافهم عن شيء في حربها، سوى الدوران في ذات الفلك، واستمرار ترديد ذات الأقاويل الهابطة الفاشلة التي كان يقولها أسلافهم، فلا تزيد شبهات حمامي وعبدالصمد والبحيري وعيسى وزيدان وماغي، وأمثالهم من ذباب الشاشات عن شبهات كفار قريش، بل هي في أكثرها أشد غباءً وجهلًا، لكنهم في الإجمال لا ينفكون منهجيًّا عن ترديد نفس الشبهات، وإن جاءت بشكل ركيك مَمْجُوج لا ينطلي على أصغر طفل مؤمن بالإسلام. الأسلوب الثاني: الهجوم غير المباشر : فليس الهجوم المباشر هو الطريقة الوحيدة التي يمارسون بها حربهم ضد التدين، إنما هناك طريقة أخرى أشد ضررًا وأقل جهدًا؛ يعتمدون فيها على وسيلتين: (1) نشر الكذب : حيث ينشرون القصص الكاذبة، والأخبار المخترعة، والأحاديث الموضوعة الملفَّقة، يأتون ببعضها من بطون كتب التراث غير المتخصصة ككتاب الأغاني مثلًا، وبعضها يكون مؤلفًا حديثًا، لا تعثر عليه مطلقًا في أي مرجع، وترمي هذه القصص، وتلك الأحاديث المختلقة إلى أهداف طويلة الأمد، تبدأ بخلق حالة لحظية عابرة من تعظيم المقدس (القرآن، والرسول، وشعائر الدين)، ثم تحطيمه في المستقبل القريب، عند اكتشاف زيف ذلك الخبر، أو كذب ذلك الحديث، كأن ينشر أحدهم - مثلًا - أن فلانًا أساء إلى المصحف الشريف بالحرق فأصابه الله بالشلل، أو مسخه الله قردًا، وينشر صورة لذلك الشخص وهو في حالة المسخ أو الضرر، ويمسك في يده مصحفًا، ثم بعد أشهر قليلة ينشرون صورًا لذات الشخص الذي حرق المصحف أو أهانه وهو صحيح معافًى، مع خبر يكذب إصابته بشيء مما سبق، ومثل ذلك نشر أحاديث موضوعة تفيد أن من قرأ سورة كذا، كتب الله له من الثواب كذا وكذا، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصيغة الفلانية والعدد الفلاني، أدرك من خير الدنيا كذا وكذا، ونحو ذلك مما يتبين بعد ذلك بساعات أو أيام قليلة كَذِبُهُ للبسطاء الذين يصدقون مثل ذلك في حينه؛ والهدف من نشر هذه الأكاذيب هو خلخلة إيمان المتدينين عن طريق إحداث تأثير نفسي لظهور كذب الخبر، أو الحديث، أو عدم حصول ما وعد به المنشور من خير، فتتزعزع العقائد في صمت، ويحصل الشك، أو على أقل تقدير تتبلد المشاعر الإيمانية، وتخفُت حرارتها. (2) النيل من الرموز الإسلامية : فالذين يحاربون التدين تسيِّرهم إما مصالح مالية، أو مشاعر بغض وحَنَقٍ على الدين، وإن تظاهروا بالعقلانية، فتراهم في هجومهم وتجنِّيهم كمن يمسك بيده سلاحًا، وهو في حالة جنون أو سُكْرٍ، ليس له هدف يصوب نحوه فيركز عليه، إنما هو يفرغ طاقته الهجومية ويبعثرها في جميع الاتجاهات، بغير وعي، ولا تركيز، وعلى هذا النهج لا يكتفون بالنيل من الثوابت، لزعزعة المتدينين، والصد عن الدين، ولكن إمعانًا في نشر البغض وانفعالاته، يحاولون زعزعة الثقة في رموز الإسلام أيضًا، علمائه وقدواته الذين يثق الناس بهم، ويأخذون عنهم، بدءًا من محاولة الإساءة إلى شخص رسول الله وبعض أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، ومرورًا بمحاولة النَّيل من شخص الإمام البخاري، أو شخص صلاح الدين الأيوبي، أو عمرو بن العاص رضي الله عنه، أو غيرهم من الرموز؛ لِما يحظَون به من توقير ومحبة وتعظيم، فشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقصَد من محاولة الإساءة إليه ذات الإساءة، ولكن توهين تعظيمه في قلوب أتباعه على المدى البعيد، ومن ثم التشكيك في الإسلام، وألوهية مصدره، فالإساءة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقصد منها تحطيم القدر المقدس في كينونته، باعتباره الحامل والمبلِّغ للرسالة، فالمقدَّس لا يستطيع أحد النَّيل منه، بينما البَشَرِي عرضة للهدم والتحطيم، هذا ما يطمحون إلى تحقيقه، في قلوب المسلمين، والنَّيل من الإمام البخاري رحمه الله كذلك هو نيل من السنة النبوية؛ لأنه إذا كان كتابه هو أصح كتاب سُنَّة، فإن النَّيل منه يغني عن النَّيل مما دونه من كُتُبٍ، والنيل من عمرو بن العاص رضي الله عنه هو نَيل من الحدث الذي يمثله؛ وهو الفتح الإسلامي لمصر، والنيل من صلاح الدين هو نيل من الأمل الذي ينتظره المسلمون، والتاريخ الذي يفخرون به. القسم الثاني: الانتقاص من القيم : هو ما يكون بالنيل من مظاهر التدين، كالانتقاص من قيمة الحجاب، والنيل من أهمية النقاب، والتهوين من شأن اللحية بالنسبة للرجال، والتعالي على بعض السنن الظاهرة، والواجبات العملية؛ كالأذان، وخطبة الجمعة، وصلاة الجماعة، ولا يرمون بذلك إلى هدم الدين كله، فهم ليسوا بهذه البلاهة، إنما يكفيهم أن يثقبوا في جدار الدين كل عام ثقبًا، وأن ينتزعوا من بنيانه لَبِنَة، يستوي عندهم أن تكون اللبنة في مظاهر الدين أو في بواطنه، في أساسه، أو في جدرانه، فكل نيل منه مكسب، وكل خطوة على ذات الطريق تصل بصاحبها لا محالة - مهما طال الأمد - إلى نهاية. القسم الثالث: الانتقاص من العلم : وهو ما يكون بإبراز شيوخ دين يميلون إلى التحرر من قيود الدين، بعضهم باحثون حازوا درجات علمية رفيعة في تخصصات شرعية من جامعات عريقة، وبعضهم من أنصافهم، وبعضهم ممن لا أصل له في العلم ولا فصل، إنما دعت ضرورة كونه مفوهًا أن يكثُرَ لَغَطُهُ، ويعظُم خطره، ويتكرر ظهوره، وهؤلاء جميعًا قد رفعوا شعار التحرر والتحلل، من قيود الشرع، بعضهم قد انتهج مبدأ التخليط والتدليس، فهو يعرض الآراء الفقهية في مسائل كالخمر مثلًا، فيبرز الأقوال الشاذة فيها ويلمعها، ويؤكد على أن الأمانة العلمية تحتم عدم إخفاء ذلك عن الناس، وأن الاختلاف الفقهي فائدته أن يختار كل إنسان ما يناسبه منها، لا فرق عنده بين دليل ودليل، ولا رأي ورأي، إلا بمقدار ما يحقق الأخذ بهذا القول أو ذاك من مصلحة دنيوية شخصية، وبعضهم قد انتهج مبدأ التكذيب والتجهيل للعلماء الكبار، من منطلق أنهم قد عرضوا الدين بغير أمانة، وأن الله قد وفَّقه لكشفهم، وفضح ألاعيبهم، فالخمر مكروهة وليست محرمة؛ لأنه ليس لها حدٌّ في القرآن، ولأن الله تعالى قال عن الخمر: ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [المائدة: 90]، ولم يقل: لا تشربوه، ولا تبحث عن ذلك الفسل وأضرابه، ولا تسأل: من أين ظهروا؟ فإن كثرة استضافتهم على الشاشات المشبوهة تنُمُّ عن حجم الحرب وأبعادها، وحقيقة من يديرونها ويدعمونها. كيفية المواجهة : مما سبق يظهر أن المقصود من هذه الحرب هي الأمة بأسرها، باستقطاب ذوي الأغراض الشخصية من الباحثين في العلوم الشرعية الذين يوظِّفون جهدهم لخدمة من يقدر جهودهم بسخاء، فإذا به مع الوقت قد صار جنديًّا في معسكر الباطل، وأما العامة الذين لا يملكون من الحجج والبراهين ما يمكنهم من الدفاع عن تدينهم الصحيح، فإن هؤلاء هم الغنيمة الكبرى، لا يُعَدُّ استقطابهم مع انتشار الجهل وضعف الإيمان سوى نزهة صيد في بحيرة بطٍّ، وإن واجبنا تجاه هؤلاء وأولئك يتمثل في أمرين: الأول: التحصين، والثاني: نفي الخبيث. فأما الواجب الأول: فيكون بإزالة الشبهات أولًا بأول، وإبراز الحقائق الدينية مدعمة بالدليل، فإنه مهما كانت وسائل تحقيق ذلك متواضعة، فإنها كثيرة بفضل الله؛ إذ لم تعد قاصرة على وسيلة ولا اثنتين، بل وسائل الوصول إلى الجماهير أصبحت أكثر يسرًا، ولكنها فقط تحتاج إلى المتجردين، الذين يعملون لله لا لأنفسهم، وللدين لا للدنيا، وإن تأهيل الدعاة لمواجهة الشبهات والرد عليها أمرٌ يحتاج إلى خطة إعداد متكاملة في كل مؤسسة دعوية، ولو تم إنشاء مراكز دعوية رسمية تعمل على تحقيق الكفاية من ذلك، ونشر تلك المواجهات، وإبرازها في مظانها، لكان ذلك من أوجب الواجبات، وأكثرها إلحاحًا، وأما الواجب الثاني فهو نفي الخبيث، إما باحتواء أشخاص المهاجمين، بعرض الحق عليهم بأساليب علمية ونفسية مدروسة مخطط لها، تعمِد للوصول إلى قناعاتهم وإزالة الغشاوة عن قلوبهم، أو على أقل تقدير تحييدهم، على فرض أنهم مضللين، وإلا فإن الخيار الثاني ينبغي أن يكون كشفهم، وتعرية انتماءاتهم المشبوهة وأغراضهم الخبيثة، فإن هؤلاء لا ينطلقون من أنفسهم، فمن الذين يموِّلونهم؟ ومن الذين يبرزون ظهورهم، ويدعمون استمرارهم؟ ومن الذين يخططون لهم؟ ثم تبقى دعوة الناس إلى مقاطعتهم، والحذر منهم، ومقاطعة وسائل الإعلام التي يظهرون فيها، هي أكثر وسائل المواجهة نفعًا، فما أنجعها من وسيلة لو أمكن تحقيقها، بيد أن فضول الشباب وشغفهم بالوقوف على ما يُقال قد يقلل من أهمية ذلك!
غرس محبة الله في الطفل (دليل عملي للمربين) من إصدار مركز دلائل صدر حديثًا كتاب "غرس محبة الله في الطفل (دليل عملي للمربين)"، تأليف: "هدى إبراهيم بخاري - عفاف سالم الثمالي - نورة مسفر القرني - أسماء محمد الجراد"، نشر: "مركز دلائل". يتناول الكتاب أبرز النصائح والتوجيهات للمربين المهتمين بغرس العقيدة الصحيحة في أطفالهم بناء على نفسية الطفل ومراحل نموه، وكذلك شرح كيفية توصيل المعلومة له بطرق جذابة من واقع بيئته وما يراه حوله من أشياء ومواقف، ثم يختم الكتاب بتطبيق عملي لتعريف الطفل بالكثير من أسماء الله الحسنى وتحبيبه فيها وربطه بها قلبيًا وعقليًا. ولأهمية مرحلة الطفولة، لزم أن تتوحد الجهود لتقديم العقيدة للطفل وتقريبها من عالمه ليتعرف الطفل على الله تعالى بأسلوب علمي سهل يفهمه وينجذب له، تقول المؤلفات: "في هذا الكتاب سيتعلم المربي كيف يعرّف الطفل بالله تعالى، من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [الحجر: 86] فيرى عظمة السماء وعلوها، وانبساط الأرض وثباتها، ويرى ذرات الهواء وانتشارها، ويرى الحياة التي يحملها في داخله، ويرى المخلوقات حوله ويشاركها التسبيح لله تعالى، ليتعرف عليه سبحانه ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102] وإن عرف الطفل الله أحبه، وإن أحبه أطاعه. ويتعرف الطفل على الله من قوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180] فيؤمن بوحدانيته سبحانه، وتطمئن نفسه لما يراه من لطفه ورحمته بعباده، ويُعظم الله في نفسه لما يراه من قوته تعالى وقدرته، ويلزم شعور مراقبته له سبحانه إن علم أنه سميع بصر عليم به، فتخالط العقيدة حياته، وتقوم أخلاقه". وقد ارتبط هذا الكتاب باستبيان نشر على مستوى العالم، شارك فيه قرابة تسعة آلاف مربٍ، وتميزت المشاركات الواردة بالجدية والحرص على نفع جهة الاستبيان بما لدى المربي من خبرة وتجربة ثرية في تربية الأطفال، واستطاع المربون أن ينقلونا لتربيتهم العقدية بدقة وصفهم واهتمامهم بالتفاصيل البسيطة، وقد حفظت آراؤهم في فصل بعنوان (قالوا عن تجربتهم). وترى الكاتبة أن أفضل زمن لبدء التربية العقدية هو من شهور الطفل الأولى، وأن تأخر الحديث عن الله مع الطفل يكلف الوالدين مشقة أكبر في إيصال المعلومة، فالتبكير يجعل الحديث تلقائيًا ينبع من واقع ما يشاهده الطفل من دعاء الوالدين وصلاتهم وذكرهم. وأنه كلما بكر المربون في الحديث مع الطفل عن الله، كان أسهل وأسرع في تعلق الطفل به سبحانه، واستجابته للأمر والنهي، والطفل مهما كان عمره فإن لديه قابلية لتبني المعتقد مبكرًا جدًا. كما أن ظهور أثر التربية الإيمانية في مرحلة الطفولة يختلف من طفل إلى آخر، ومما يؤثر على وضوح الأثر طريقة المربين في ربط العقيدة بواقع الطفل، وقدرتهم على جعل المواضيع العقدية ممتعة وقريبة من حياته، وتكرار المعاني العقدية بعدة طرق تناسبه. وجاء الكتاب في مقدمة وثلاثة فصول رسمت المحاور الرئيسة في الكتاب، وبينت المؤلفات في المقدمة أهمية غرس العقيدة الإيمانية في الطفل منذ بواكير سني حياته، والمنهج المتبع في بيان محاور تلك العقيدة، ثم تلتها عدة فصول على النحو التالي: الفصل الأول: إضاءات قبل البدء، وفيه: • خصائص الطفولة المبكرة. • خصائص الطفولة المتأخرة. • قواعد في أسلوب المربي. • قواعد تأصيلية في باب العقائد. • قواعد في أسماء الله تعالى وصفاته. الفصل الثاني: طرق ابتكار الوسيلة العملية مع الطفل، وفيه عدة مباحث: كيف نصمم برنامجًا عمليًا لتعريف الطفل بالله تعالى: الخطوة 1: تحديد المجالات. الخطوة 2: اختيار المادة العلمية الخطوة 3: تصنيف المادة العقدية. الخطوة 4: معرفة القدرات الخطوة 5: معرفة الفرص والتحديات. الخطوة 6: اقتراح طرق عملية. أفكار عملية لمجالات مقترحة من بيئة الطفل: ♦ مجال القرآن والسنة. ♦ مجال المخلوقات. ♦ مجال النفس. ♦ مجال اللعب. ♦ مجال القصة. ♦ مجال المنهج الدراسي. ♦ مجال التقنية مجال العائلة. الفصل الثالث: نماذج عملية تطبيقية على غرس عقيدة محبة الله في نفسية الطفل، وذلك من خلال عدة أقسام: القسم الأول: اسمه تعالى: الله. القسم الثاني والثالث: ثم ننتقل إلى نماذج عملية لتعريف الطفل بأسماء الله وصفاته كاسم: الحي القيوم، الأحد الصمد، الشافي، الخالق، الغفور، الستير.. وغيرها. وبيَّنَ الكتاب كيف تغرس محبة الله في الطفل؟ وذلك عبر طرق عملية مجربة: • كالقصة. • والحوار. • والمقتضى التعبدي لأسماء الله الحسنى. • والتفكر. • والتطبيق العملي في الحياة. قال ابن قيم الجوزية: "فَإِذا كَانَ وَقت نطقهم فليلقنوا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَليكن أول مَا يقرع مسامعهم معرفَة الله سُبْحَانَهُ وتوحيده، وَأَنه سُبْحَانَهُ فَوق عَرْشه ينظر إِلَيْهِم وَيسمع كَلَامهم وَهُوَ مَعَهم أَيْنمَاَ كَانُوا وَكَانَ بَنو إِسْرائِيل كثيرًا مَا يسمون أَوْلادهم بـ "عمانويل" وَمعنى هَذِه الْكَلِمَة إلهنا مَعنا وَلَِذَا كَانَ أحب الأسْماَء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمن بِحَيْثُ إِذا وعى الطِّفْل وعقل علم أَنه عبد الله وَأَن الله هُوَ سَيّده ومولاه".
إصدار موسوعة المصنفات العربية تُعَدُّ ( موسوعة المصنفات العربية ) الموسوعة الشاملة للتراث العربي الإسلامي خلال ثلاثة عشر قرنًا هجرية، ومداخل المؤلفين، من إعداد وإشراف الأستاذ سليمان بن مُسلَّم الحرش- مرجعًا وقاعدةَ بيانات للمكتبات والجامعات والمراكز العلمية والبحثية، وستُسهم في مساعدة الدارسين والباحثين وطلَّاب العلم، بادِّخار الجهد والوقت في البحث والدراسة، وتقريب تصانيف العلوم العربية والإسلامية ومؤلفيها إليهم. وإن المكتبات العربية لتزخر بمصنفات وتآليف في علوم الدين، والتربية، والأدب واللغة والشعر، والتاريخ، والطب، والفلك، والحساب، وعلم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية. وقد بذلتُ الجهد في هذه الموسوعة؛ لتقريب عناوين المصنفات في تلك العلوم والفنون كلِّها، التي توفِّيَ مؤلِّفوها على مدار ثلاثة عشر قرنًا، وجعلها موطَّأةً للباحثين تبلِّغهم مرادهم بأيسر سبيل وأقصر وقت. منهج الموسوعة: 1. ترجمة موجَزة للأعلام: اسمه، واسم أبيه، ونسبه، وكنيته، ولقبه، وتاريخ وفاته. وإن كان من تباين فيُشار إليه في جدول خاص بذلك. 2. حصر جميع عناوين الكتب، من المصنفات، والشروحات، والمختصرات، ودواوين الشعر والنثر. 3. توثيق نسبة الكتب إلى مصنفيها. 4. تصنيف عناوين الكتب حسَب الفهرس العربي الموحَّد (الترتيب العالمي). 5. الإشارة إلى الكتب التي طُبعت بغير أسمائها الأصلية، أو طُبعت بأكثرَ من اسم، أو نُسِبَت إلى غير مؤلِّفيها، أو تصحَّفَت عند طباعتها. 6. إتاحة الوصول إلى المؤلف من طريق معرفة أيِّ جزء من اسمه، أو معرفة تاريخ وفاته، أو طبقته، أو معرفة عنوان الكتاب، أو أي جزء منه. 7. إتاحة الوصول إلى أي عنوان من طريق معرفة موضوع الكتاب، أو مادَّته العلمية (الفنون). مضمون الموسوعة: اشتملت الموسوعة حتى الآن على: أكثر من 29944 من العناوين. وأكثر من 5931 من المصنِّفين. وأكثر من 63 من العلوم والفنون. ونسأل الله لها مزيدًا من التطوير والغنى والارتقاء، لتلبِّيَ حاجات جميع طلاب العلم والباحثين والمهتمين في كل مكان. ونرجو من الجميع الاطلاع عليها وإفادتنا بأي ملحوظة أو فكرة ترتقي بها وتزيد النفع بمادتها ومحتواها. والحمد لله تعالى من قبلُ ومن بعدُ. ودونكم رابطها: www.arabic-dic.com
من أساليب الممارسات الخطابية ( Discursive practices ) التنبُّه للممارسات الخطابية في حياتنا العامة أمرٌ لا غِنًى لنا عنه؛ لِما لبعض هذه الممارسات من أثر سلبي على نفوسنا ورؤانا في الحياة، إنْ كان بعض الممارسين من إعلاميين، وأدباء، ومفكرين، وغيرهم، لا يألون جهدًا في تمرير رؤاهم السلبية بطرق سَلِسة ناعمة، فالأَولَى بنا معرفة أساليب تمريرها والتصدي لتأثيرها السلبي علينا، وإثراء المحتوى العربي الذي يبدو أنه يفتقر لمثل هذه المواضيع مقارنة بالمحتوى المكتوب باللغة الإنجليزية. أساليب الممارسات الخطابية كثيرة ومراوِغة، إلا أن هذا المقال سيتطرق لمثال واحد منها. تمرير بعض الأمور في ثنايا أحداث رئيسية: في سياق بعض الأحداث الرئيسية المهمة والمرغوبة في حياة الإنسان؛ كالخدمات الأساسية؛ مثل: خدمات الصحة والتعليم، والأمن والتقدم والنجاح؛ إلخ، بعض الأمور تلفت الانتباه، إلا أن وجودها يكون لطيفًا وخاطفًا ضمن سياق تقديم تلك الخدمات؛ لذلك أي محاولة للاعتراض ولتسليط الضوء على أمر جاء خاطفًا، ضمن حدث رئيسي مهمٍّ ومرغوب، سيُظهِر صاحبه مغردًا خارج السرب؛ مثلًا: تعليق أحد ما على أمر غير مقبول دينيًّا؛ كالتبرج (ظهور بعض مفاتن جسد المرأة) أثناء لقاء مهم يُعرَض على وسيلة إعلامية، عن محاولة مساعدة ضحايا الحروب وذوي الأمراض المزمنة. ملخص المثال: الحدث الرئيسي: الملاحظة الخاطفة: لقاء تلفزيوني يعرض الخدمات التي تُقدَّم لضحايا الحروب والأمراض المزمنة. ظهور مذيعة عصرية في لباسها، لبقة في كلامها، ومتعاطفة مع الحدث. إن أهمية الحدث الرئيسي في المثال أعلاه واضحة؛ عرض خدمات إنسانية ضرورية، ومن ثَمَّ جذب الانتباه لموضوع التبرج للاعتراض عليه، أثناء تسليط الضوء على تلك الخدمات، يَظهَر كأمر ثانوي خارج سياق الحدث الرئيسي؛ لذلك إضاءة موضوع التبرج هنا تجعله يبدو ساذجًا، وتجعل صاحبه شخصًا لا يعي ولا يفهم، ولا يقدِّر الخدمات الإنسانية الأساسية؛ لأنه أهْمَلَ أهمية الحدث الرئيسي، وعَظَّمَ أمرًا صغيرًا ثانويًّا لا يُؤْبَهُ له. هذا التصرف قد يبدو ساذجًا فعلًا؛ لأن فيه تسرعًا في طرح فكرة هامشية - هامشية طبعًا في تلك اللحظة - ضمن سياق فكرة أكبر منها، وأكثر حضورًا وإلحاحًا، وأهمية وجودية ماسَّة في أذهان المتلقين؛ وهي فكرة الخدمات الضرورية المُلِحَّة في حياة الناس المباشرة. إلا أنه نظرًا لأهمية ذلك الأمر الخاطف أيضًا، ولتعديل خلل تسليط الضوء عليه ضمن سياق أكثر أهمية منه في نفس اللحظة، يكون من فقه الواقع تناوله بشكل منفصل، في سياق يكون هو محور الحدث - أي يكون هو الحدث الرئيسي - لإعطاء أذهان المتلقين فرصة رؤيته كحدث رئيسي، وليس كملاحظة اعتراضية عابرة أثناء انشغال الأذهان بشيء أكثر إلحاحًا في وقته. بداهةً ، أذهان الناس لا تستسيغ إلغاء حدث رئيسي حيوي مهم، وتتعاطف مع موضوع يَظهَر ثانويًّا، ولو كان ذا أهمية بالغة ضمن الرؤية الشاملة للإنسان في الحياة، لا بد من إدراك حقيقة أن ذهن المتلقي ينشغل بالحدث الرئيسي، وغالبًا لا يأبه أثناء ذلك لأي موضوع آخر، مهما كانت أهميته في فكر ورؤية الإنسان العقائدية، أو أي رؤية أخرى مهمة له. لذلك ، إعلاميًّا وأدبيًّا وفكريًّا ، يتم تمرير - أو استغلال - مواضيع أو أفكار كأمور ثانوية يُرَاد لها أن تمر ضمن أحداث رئيسية لفعالية سياق هذه الأحداث لهذا الغرض، وهنا يكون تفويت الفرصة كبيرًا على المعترضين على تلك المواضيع أو الأفكار التي تَظهَر ثانوية؛ لأن المعترض عليها يظهر بمظهر من يغرِّد خارج السرب، وربما خارج الزمن أو يعيش في الماضي، ومن ثَمَّ يُنَفِّرُ المتلقين من ملاحظته ومنطلقها أكثر مما يلفت انتباههم ويجذبهم لها، وغالبًا ما يشعر المعترض - أو لافت الانتباه للخلل - بالامتعاض من نفور الناس منه، وعدم رؤيتهم لِما يلفت نظرهم له؛ وهو لا يدري أن سبب نفور الناس من الملاحظة - أو التنبيه - هو قوة تأثير سياق الحدث الرئيسي وأهميته المباشرة في حياتهم. إن موضوع الممارسات الخطابية ( Discursive practices ) يناقَش في أدبيات الأبحاث اللغوية والأدبية الأكاديمية، تحت مفهوم أو مصطلح دراسات/تحليل الخطاب ( Discourse studies/analysis ) ويمكن اعتبار هذا المقال دعوة لزيادة الاهتمام بفنيات أساليب تمرير الممارسات الخطابية، وإضاءتها؛ بهدف المساهمة في إثراء المحتوى العربي في هذا الموضوع، وتجويد حياتنا إعلاميًّا وأدبيًّا وفكريًّا؛ إلخ [1] . [1] لمن يرغب بالاستزادة في هذا الموضوع، يمكنه الرجوع لمقال سابق لنا هنا على موقع شبكة الألوكة بعنوان: ما هو الخطاب Discourse ؟ وما هي الممارسات الخطابية Discursive Practices ؟
تعليمات قُرْآنية للمسلمين وبعد أن عرَف المسلمون فضل الله عليهم بالنصر على المشركين أرادهم أن يعُوا هذا الدرس جيدًا، وأن يكونوا في كافة معاركهم مثال المؤمن الطائع الملتزم بأمر الله وأمر رسوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 45، 46]، هذا هو الأمر الرباني للمسلمين، الطاعة لله ورسوله، وعدم الخصام والمنازعة التي تفشل الوحدة والتضامن والألفة، وإذا حل الجدال والخصام في أمة أذهب الله بأسها وهيبتها، وأضعف قوتها، ثم عقَّب بعد هذا التوجيه بألا يكونوا مثل قريش: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]، فيها بيانُ حال قريش التي تمثِّل الغطرسة والكِبْر والتعالي بما حشدت من قوة؛ فقد قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرِدَ بدرًا فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزر، ونُطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا. وقد بيَّن الله تعالى في كتابه إصغاء قريش للشيطان الذي زين لهم الباطل، فوقر عندهم أنه الحق، وشجعهم على المضي في ضلالهم، وأنهم يملِكون قوة لا يمكن أن تهزم، ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]، لقد رأى حشد الملائكة، فصغُر وضعُف أمامهم، فتخلى عن أتباعه وأعلن هزيمته، وهذه صورة تحدث في كل زمان ومكان بالنسبة لأتباع الشيطان، الذين ابتعدوا عن الحق، وأصغَوا لوساوس الشيطان؛ فإن أعمالهم العدائية لا تلبث أن تتهاوى أمام أنصار الحق وجنود الإيمان. وأطلَّ النفاق للمرة الأولى، وسلاحهم التثبيط والنقد، وهم دائبون في التجريح، فإن صبَر المسلمون على الأذى يقولون: لماذا لا يقاتلون؟ وإن قاتلوا أعداءهم يقولون: ألقَوا بأيديهم إلى التهلكة؛ فالعدد غير متكافئ: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]، فمَن كان إيمانه بالله قويًّا، ومتوكلًا عليه حق التوكل بأن لا ناصر إلا هو مع الأخذ بالأسباب، فإنه يكون قد استند إلى عظيم قادر عزيز، لا يخذُلُ مَن توكل عليه.
التهذيب المفيد لكتاب التوحيد الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله من الكتب المباركة التي عمَّ نفعُها أرجاءَ الأرض، وقد تناوله العلماء بالشرح والتعليق من جوانب متعددة، وأكرمني المولى بخدمته من خلال بيان أثر القواعد الأصوليَّة على أدلته في استنباط أحكامه، في كتابي ( إرشاد السادة إلى أصول توحيد العبادة ). ومن خلال كتابتي للكتاب المذكور كنت أرغب في مشروعٍ موازٍ معه، يتعلق بتهذيب الكتاب؛ لكنني رأيت أهل التخصص في العقيدة هم أولى وأجدر مني في هذا العمل، والناس لهم فيه تبع فتركتُ الأمر، واكتفيت بهذا المقال لعلَّ منهم من يقوم به. والقصد من هذا التهذيب تسهيله للحفظ، مع تركيز القارئ على مراد المؤلف من عقد الباب، سواء في ضبط المراد من ترجمة الباب، أو الوقوف على الشاهد من الدليل المستدل له، أو في معرفة المسائل المستنبطة من قبل الشيخ المتعلقة بترجمة الباب، فالقصد إذًا إصلاح ما في الكتاب من عيب أو خطأ، وتحسينه، وتقويته، وتنقيته، وتلك هي معاني التهذيب في اللغة. وجاء في المعجم الوسيط (2/ 978): «هذَّب الكتاب: لخَّصه وحذف ما فيه من إضافات مقحمة، أو غير لازمة». قلت: ومن الإصلاح أحيانًا إكمال النقص وإضافته، فالكتاب المهذَّب قد يكون أكبر حجمًا من أصله، كما في كتاب ابن حجر (تهذيب التهذيب)، الذي هذَّب فيه كتاب (التهذيب) للكمال المزي. وإني من خلال عملي في كتابي (إرشاد السادة) رأيت حاجة كتاب التوحيد إلى التهذيب، على ما سيأتي في دواعي التهذيب، وكنت أقول أحيانًا: إن الشيخ ترك الكتاب مسوَّدة، بدليل وجود بياض في الكتاب، في عدد من المواضع، عند عزوه لبعض الأحاديث، أو اسم الراوي. وقال الشيخ سليمان آل الشيخ في كتابه تيسير العزيز الحميد (1/ 494-495) في أحد تلك المواضع: «بيَّض له المؤلف، ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه». وهذا الاحتمال وإن ظهر في البياض فقد يكون في المسوَّدات التي بين أيدينا كذلك؛ لئلا يكثر ما قد يكون معيبًا في التأليف مما سأذكره من دواعي التهذيب. وأنبه إلى مسلَّمة من المسلَّمات؛ وهي أن عمل الإنسان – غير المعصوم - يحوطه النقص، وكُلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرَدُّ. وقد تعلمنا من كتاب التوحيد – ونحن صغار – التحذير من الغلوِّ في الصالحين. دواعي التهذيب: سبقت الإشارة إلى أن مضامين كتاب التوحيد ثلاثة: ترجمة المؤلف للباب، وأدلته، ومسائله، وكل ما سبق هو بحاجة إلى تهذيب، وسأقتصر على بعض الأمثلة الموضحة للمراد. القسم الأول: تهذيب تراجم الأبواب وترتيبها. أولًا: التهذيب بتوحيد ترجمة الأبواب قدر الإمكان؛ لأن الناظر في عنونة الأبواب عند الشيخ يلحظ تنوعًا ظاهرًا، فقد يكون العنوان آية، أو يكون بالصيغة الخبرية أو الإنشائية، وقد تكون بحاجة إلى تقدير كلام ليفهم المراد، فيزاد – مثلًا – في (باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما): (فهو مشرك)، كما بيَّنه الشرَّاح، وهو أفضل من أن تترك، فيكون المقدَّر عامًّا، كأن يقال: (باب [حكم] من تبرك...إلخ)، ولا شك أن الخاص أولى وأبين للمراد. وقد يحصل الغموض في بعض الآيات التي جعلها المصنف عنوانًا للباب، يقول الشيخ العثيمين في القول المفيد (2/ 173) في (باب قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]: «جعل المؤلف – رحمه الله تعالى – الآية هي الترجمة، ويمكن أن يعني بهذه الترجمة: باب المحبَّة». قلت: وهذه الترجمة تشبه في أولها الترجمة التي في (باب قول الله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]، وتسمية الأبواب في ظني أولى، وللشيخ حامد بن محمد حسن في كتابه فتح الله الحميد المجيد، عناية جيدة بضبط العناوين، يمكن الإفادة منه، وهنا يقول الشيخ حامد (348) في ترجمة الباب الأول: «باب ما جاء في بيان المحبة وأنواعها». ثانيًا: ثمة أبواب متداخلة، بينهما عموم وخصوص مطلق، أو من وجه، وربما قلت: ترادف وتطابق، وأقل أحواله أنه يمكن درج بعضها في بعض، ومن أمثلة هذا: 1- عقد المصنف بابًا، بعنوان (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، ثمَّ عقد بابًا بعنوان (من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب)، قال الشيخ السعدي في القول السديد (20): «وهذا الباب تكميل للباب الذي قبله، وتابع له». 2- ذكر الشيخ العثيمين في القول المفيد (2/ 293)، في (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) أن الباب يحتمل أن يكون مكررًا مع الباب الذي قبله، ويحتمل أن يكون أخص منه، ويحتمل أن يكون نوعًا مستقلًّا، ورجَّح الأخير، ورجَّح الشيخ عبدالرحمن آل الشيخ في فتح المجيد (2/ 512)، وذكر أن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا، والباب الذي قبله هو (باب ما جاء في الرياء). 3- ومما يشبه التطابق ما عقده المصنف بعنوان (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك)، مع (باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك)، وإن قيل: إن أحدهما في الأفعال والثاني في الأقوال؛ لكن مقام التهذيب قد يقتضي رفع هذا الإيهام، وعدم تفريق مادتها، مع التغاضي أحيانًا عن سياق ورود الباب في أبواب الأفعال أو الأقوال؛ لأجل المصلحة السابقة. قلت: وإن لم يحسن الدمج بين بعض الأبواب فلا أقل من أن يذكر الخاص بعد العام مباشرةً، حتى يكون العهد والربط أقوى. وأشير إلى بعض الأبواب التي فصل بينهما بباب أو أبواب، وهي محل نظر في التهذيب. 1- يحسن تقديم (باب النشرة)، ليكون بعد (باب ما جاء في السحر)، ويقدم على (باب ما جاء في الكهان ونحوهم). 2- يحسن جعل (باب قول: ما شاء الله وشئت)، بعد (باب قول الله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، قال السعدي في القول السديد (109) عن ترجمة الباب الأول: « هذه الترجمة داخلة في الترجمة السابقة ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، وهذا يظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((جعلتني ندًّا لله))؛ أي فيمن قال: ما شاء الله وشئت. 3- يحسن جعل (باب النهي عن سب الريح) بعد (باب من سب الدهر فقد آذى الله)، قال السعدي في القول السديد (126): «هذا نظير ما سبق في سب الدهر، إلا أن ذلك الباب عام في سب جميع حوادث الدهر، وهذا خاص بالريح...إلخ». القسم الثاني: أدلة الباب: معروف أن الشيخ سار على طريقة مشابهة لطريقة البخاري وأهل الحديث في التصنيف، حتى تكاد تقول إنه كتاب مستل من كتب السنن، إن أخرجت منها مسائل الباب. فالشيخ يذكر أدلة الباب من الكتاب أو السنة، أو منهما، وربما ذكر قول الصحابي أو التابعي – كالشرح والبيان – ومن القليل جدًّا ذكر قول عالم غيرهما، ومن دواعي التهذيب في هذا القسم: أولًا: التهذيب من حيث إظهار المؤلف للشاهد، والاعتناء به، والاقتصار عليه ما استطاع. وهنا أمران: الأول: إظهار المؤلف للشاهد، والاعتناء به. والثاني: الاقتصار على الشاهد. ومن أمثلة الأمر الأول، ما حصل فيه شيء من الخلل في بيان الشاهد، ما يأتي: 1- اقتصر المصنف في (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) على الاستدلال بقوله: ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ ﴾ [العنكبوت: 17] الآية، قال الشيخ العثيمين في القول المفيد (1/ 344): «ولو أتى المؤلف بأول الآية لكان أولى»، وهو قوله: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا ﴾ [العنكبوت: 17]. 2- أورد الشيخ في (باب من الإيمان الصبر على أقدار الله)، قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن: 11] وترك أول الآية: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [التغابن: 11]. 3- أورد الشيخ في (باب ما جاء في الرياء)، قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110] وترك الشاهد في قوله: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110] مع تفسير العمل الصالح. 4- أورد الشيخ في (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله) قول الله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ [الإسراء: 57]، ونبَّه الشيخ سليمان آل الشيخ إلى أن آية الباب يتبين معناها بذكر الآية التي قبلها مع هذه الآية، ومقصوده قوله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 56]، فكان الأولى ذكرها. ومن أمثلة الأمر الثاني: وهو عدم اقتصار المصنف على الشاهد، ما يأتي: وقبل البدء بذكر أمثلة هذا الأمر أشير إلى أن الشيخ يختصر أحيانًا الشاهد في محل قد لا يحسن الاختصار فيه، ومن ذلك: ما ذكر الشيخ في (باب قول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، قال الشيخ: «قوله: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ ﴾ [التوبة: 24]، إلى قوله: ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 24] الآية، ولم يذكر الآية اختصارًا، مع أن الآية بكاملها يستشهد بها على الحكم الشرعي، ومن ذلك قوله فيها: ﴿ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24]. أورد الشيخ في (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول)، قال الشيخ: «وقول الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ [التوبة: 65]الآية» وترك باقي الآية ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]، بناء على قوله «الآية»؛ طلبًا للاختصار. وبعد فإنني أكتفي بموضعين – والمواضع كثيرة – ذكر الشيخ فيها حديثين طويلين، واكتفى بذكر الشاهد منهما، ومن أراد الوقوف عليهما فهما في البابين المذكورين. ذكر الشيخ في (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، حديث ثوبان بطوله، والشاهد منه: (ويسبي بعضهم بعضًا)، فيقدم له بما يدل على المراد، أو يقال: وفيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن ربي قال: يا محمد..إلخ)، ويذكر الحديث. ذكر الشيخ في (باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) حديث بريدة بطوله، والشاهد منه ما في آخره، وهو قوله: «وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيِّه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه»، وأول الحديث وآخره – الوارد بعد الشاهد المذكور - مما يمكن الاستغناء عنه. ثانيًا: التهذيب من حيث ثبوت الأدلة من حيث السند، أو من حيث اللفظ، أو من حيث العزو. وللشيخ سليمان آل الشيخ في كتابه تيسير العزيز الحميد تتبع واعتناء شديد لما وقع في الكتاب من هذا الجانب، أذكر مثالًا واحدًا لكل نوع: 1- مثال ثبوت الأدلة، قال الشيخ سليمان في التيسير (2/ 778) عند عزو المصنف للإمام أحمد حديث: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، قال رحمه الله: «رواه أحمد، وفي إسناده نظر، ورأيت بخط المصنف: فيه رجل مختلف فيه، وفيه انقطاع». 2- مثال الخطأ من حيث اللفظ، ما عزاه المصنف إلى الصحيحين من حديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ....)؛ الحديث، وذكر الشيخ سليمان في التيسير (1/ 651- 652) أنه ليس في الصحيحين بهذا اللفظ، وإلى احتمال أنه عند غيرهما بهذا اللفظ، وأن مراد الشيخ أصله في الصحيحين لا لفظه. قلت: واللفظ الذي في الصحيحين يغني عنه، وفيه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر...)؛ الحديث. 3- مثال للخطأ في العزو، ما نسبه المصنف إلى ابن عباس رضي الله عنه في تفسيره لقوله: ﴿ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾ [الأعراف: 180]، وقال الشيخ سليمان في التيسير (2/ 1128): «وهذا الأثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، إنما رواه عن قتادة، فاعلم ذلك»، ومثله ما عزاه إلى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، قال الشيخ سليمان في التيسير (2/ 1016): «هكذا وقع في الكتاب، وصوابه عن ابن عمر». ثالثًا: التهذيب من حيث إيراد الدليل في الباب المناسب، أو ارتباطه بالباب المندرج تحته، ومن أمثلة هذا ما ذكره الشيخ في (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء)، حيث ذكر حديث أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). ثمَّ أورد حديث مسلم، فقال الشيخ: «وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب)؛ رواه مسلم»، وهذا الحديث لا علاقة له بالباب، وإنما ورد تابعًا للرواية التي قبلها، من كون النياحة من أمر الجاهلية. وهكذا عندما يذكر عامًّا للدلالة على الخاص، مع وجود بابٍ للحكم العام يمكن إدراج الحديث فيه، فتكون دلالته له دلالة مطابقة، كالذي أورده في (باب ما جاء في التنجيم)؛ حيث أورد حديث أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر)، وذلك باعتبار أن التنجيم ضرب من ضروب السحر، مع وجود (باب ما جاء في السحر)، وهو أولى أن يكون فيه. القسم الثالث: مسائل الباب، وتهذيبه يكون بالأمرين الآتيين: الأول: التهذيب برفع الإجمال والتعميم فيها: ومن أمثلته: كقوله: (فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النجم.... الرابعة عشرة: سد الذرائع)، وذلك في (باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما)، وهذ مما يكثر في مسائله، ولم أر الشيخ بسط وشرح – وهذا غير لازم – إلا في (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله). الثاني: التهذيب بحذف المسائل غير المتعلقة بالباب المعقود: ولعلي أشير إلى ما ورد فيما استفتح المؤلف به كتابه، حيث قال المصنف: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب التوحيد..»، ثمَّ ذكر أدلة تدلُّ على أنه أراد من هذه الترجمة بيان حقيقة التوحيد، وهي (عبادة الله وحده والإشراك بما دونه) وذلك من خلال ما ساقه المؤلف من أدلة، ومنها حديث معاذ رضي الله عنه، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)، ثمَّ ذكر المصنف في مسائل الباب أربعًا وعشرين مسألة، جُلُّها خارج مقصود الباب، الذي هو حقيقة التوحيد، بل ساق المصنف فوائدَ وأحكامًا من نصوص الأدلة المذكورة دون نظر في علاقتها بمسألة الباب، فذكر ثماني مسائل من حديث معاذ خارجة عن القصد المعقود له الباب، من المسألة (16-23)؛ كتواضعه صلى الله عليه وسلم، وفضل معاذ، وجواز الإرداف على الدابة...إلخ، فكل ما كان هذا شأنه فإنه داخل في التهذيب المأمول. وأخيرًا : ما ذكرته يشبه معالم التهذيب ومواضعه، وكما سبق أهل الاختصاص أدرى بتلك المواطن، وحاجة الكتاب إلى تهذيب أو لا، وإن كان صوابًا ما قلتُه فهو من الله، ولعلَّ هذا (التهذيب المفيد) المأمول رؤيته، يلحق بكتابي الشيخين، عالمي العصر: الشيخ عبدالعزيز بن باز مؤلف كتاب (التعليق المفيد)، والشيخ العثيمين مؤلف كتاب (القول المفيد)، سائلًا المولى أن ينفع بالكتاب المأمول كما نفع بأصله (كتاب التوحيد)، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يوسف الصديق عليه السلام (3) ذكرتُ في ختام الفصل السابق ما ذكره الله عز وجل من محاولةِ العزيزِ استكتامَ قصَّة مراودة زوجه ليوسف عليه السلام، وأنه طلبَ منها أن تستغفرَ اللهَ لذنبها، وأنها من الخاطئين؛ حيث قال: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 29]. غير أن استكتامَ هذه الحادثة لم يتم، فتناقَلتْه بعضُ الألسن، وتحدَّثتْ به نسوةٌ في المدينة من نساء الأمراء وبنات الكبراء، وطعَنَّ على امرأة العزيز وَعِبْنَها وبشَّعْنَ عملها، وشَنَّعْنَ عليها في مراودتِها فتاها، وحبها الشديد له وتشوَّقْنَ لرؤيته، فلما سمعت بتشنيعهن عليها، والتنقُّص لها، وعيبها ومذمتها بحبِّ مولاها، ولم يعرفن أن جمال يوسف يفتن ذاتَ اللُّب، فأحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتُبيِّن أن هذا الفتى لا وجود لمثله في الفتيان، فأرسلت إليهنَّ فجمعتهنَّ في منزلها، وأعتدت لَهُنَّ ضيافة، وأحضرت في جملة ذلك شيئًا مما يُقطع بالسكاكين كالأترج ونحوه، وآتت كلَّ واحدة منهنَّ سكينًا، فلما بدأْنَ بتقطيع ما بأيديهنَّ بالسكاكين أمرتْه بالخروج عليهنَّ، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة، فلما رأينه أعظمْنَه وأجللْنَه وهِبْنَه واندهَشْنَ لرؤيته وبهرهنَّ حُسنُه حتى اشتغلْنَ عن أنفسهن به، وجعلْنَ يُقَطِّعْنَ ويحززن في أيديهن بالسكاكين بدلَ تقطيعِ الفاكهة ولا يشعرْنَ بالجراح، وظننَّ أنه لا وجود لمثل هذا في بني آدم، ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، أي: معاذ الله أن يكون هذا من بني آدم، ما هذا إلا ملك كريم. وأهلُ مصر يومها وإن كانوا وثنيين فإنهم كانوا يُقِرُّون بربِّ السماوات والأرض كمشركي قريش وغيرهم، وإن كانوا يعبدون غير الله، وعندئذ أَبرزتِ امرأة العزيز مكنونَ ما في قلبها من عشقه والهيام به، و﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ [يوسف: 32]، وأظهرت عِفَّتَه وبراءتَه التامة، وقالت: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ "أي امتنع وأبى" ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]. ولا شك في أنها كانت قد وصلتْ من الهيام به والجنون فيه إلى حدِّ أنها أصبحت تصرِّح بهذا الذي قالته عند هذا الملأ من الناس، فلما سَمِعَ يوسف عليه السلام ما توعدته به من السجن ومَذَلَّتِه إن لم يخضع لما تريده منه ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ "أَمِلْ إِلَيْهِنَّ" ﴿ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]؛ فإنَّه لا يصرف عني السوءَ أحدٌ سواك يا أرحم الراحمين، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن وَكَلْتَنِي لنفسي وَكَلْتَنِي إلى عجزٍ وضعفٍ، ولا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فاعصمني من السوء واحفظني من الشر، وحُطني بحولك وقوَّتك يا رب العالمين، ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34]. واستحقَّ يوسف عليه السلام أن يكون بهذا على رأس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله، فمنهم: (( رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ))، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين. وبعد أن ذاعَت وشاعَت براءة يوسف عليه السلام رأى العزيزُ وزوجته أنه من المصلحة سجن يوسف؛ ليكون ذلك أقلَّ لكلام الناس في تلك القضيَّة، وليغالبوا الناس بأنه هو الذي راودها عن نفسها، فسُجن بسببها، سجنوه ظلمًا وعدوانًا، وكان السجنُ أحبَّ إلى يوسف من مخالطتها، وأبعد له عن معاشرتهم وقربهم. وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 30 - 35]. وقد قيَّض الله عز وجل ليوسف الصديق أن دخل معه السجن فتيان، فلما رأيا يوسفَ في السجن أعجبهما سمته وهديه وما كساه الله عز وجل به من الجلال والبهاء، وأبصرا في سلوكه النجابةَ والكرامةَ وكثرةَ عبادتِه لله وإحسانه إلى خلق الله، فكان سلوكُه أفصحَ دعوة إلى الله، فتعلق قلبهما به، وقد رأى كلُّ واحدٍ منهما رؤيا، ورَأَيا أن خيرَ من يُعَبِّرُ لهما رؤياهما هو يوسف الصديق، فأقبلا عليه وقصَّ كلُّ واحدٍ منهما عليه رؤيا، قال أحدهما: إني أراني أعصر عنبًا لأتخذه خمرًا، وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي سلةَ خبزٍ وأن الطير تأكل من هذا الخبز، ففسِّرْ لنا رؤيانا وعرِّفْنا بحقيقة ما تدلُّ وتؤول إليه هذه الرؤيا، إنا نرى في وجهك الخيرَ والعلم، والمعرفةَ والإحسان. وقبل أن يفسِّر لهما رؤياهما، استغلَّ فرصةَ إقبالهما عليه هذا الإقبالَ الصادقَ، فدعاهما إلى الله عز وجل، إلا أنه قبل دعوتهما إلى الله تعالى بدأ بتعريفهما بنفسه وبمنَّة الله تعالى عليه وعلى آبائه، فأخبرهما أنه عليم بتعبير الرؤى والأحلام، فمهما رأيتما من حلم فإني أعبِّره لكما قبلَ وقوعِه فيكون كما أقولُ، وأخبركما بما يأتيكما من طعام قبل مجيئه، وليس هذا مِّني، إنما هو من الله الذي علَّمنيه، وقبل أن يجرد دعوتهما إلى توحيد الله عز وجل سلكَ أجملَ الطرق في الدعوة إلى الله بتركِ عبادة الأصنام والأوثان، وأنه لا يجوز لأحد أن يتعلَّق بها، فقال: ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [يوسف: 37، 38]، وأن أفضل ما يُعطى العبدُ تركَ عبادة الأصنام والأوثان ومعرفة حقِّ الله عز وجل، ﴿ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 38]. ولما وصلَ إلى هذا المقامِ جرَّدَ دعوتهما إلى توحيد الله عز وجل فقال: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [يوسف: 39، 40]. وبيَّن أن الخلق كله لله، وأن الأمر كله لله، وأنه لا يجوز لأحد أن يحتكم لغير شرع الله، فلله الخلق والأمر، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 40]. وبعد أن دعاهما إلى الله فسَّر لكلِّ واحد منهما رؤياه، وأن الذي رأى أنه يعصر خمرًا سيخرج من السجن ويسقي سيده خمرًا، وأما الآخر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطيرُ منه فإنه يُصلبُ فتأكلُ الطير من رأسِه، ولكنه لم يحدِّدْ لهما مَن الذي يُصلب، بل قال: أحدكما يَسقي ربَّه خمرًا والآخر يُصلب فتأكل الطير منه، وتمَّ تعبير رؤياكما، يعني: فليصبر الذي قُضِي عليه بالصلب، وليشكر الذي سينجو مِن السجن، ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي ﴾ [يوسف: 42]، عند الملك واذكر أني مظلوم، والظنُّ قد يأتي بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ [الحاقة: 20]، وقوله: ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 46]، وقوله: ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [المطففين: 4، 5]. وقد أَنْسَى الشيطانُ الناجِيَ بعد خروجه من السجنِ ذِكْرَ يوسف السجين المظلوم، فمكث يوسفُ عليه السلام في السجن بضعَ سنين، أي: عددًا من السنين، والبِضع قيل: ما بين الثلاث إلى التسع، أو إلى الخمس، أو من أربع إلى تسع، أو هو سبع، وقد قصَّ الله تبارك وتعالى ذلك في كتابه الكريم؛ حيث يقول: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 36 - 42]. هذا، وقول يوسف عليه السلام: ﴿ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ [يوسف: 42] يدلُّ على أن الأخذَ بالأسباب لا ينافي التوكُّلَ على الله، وقد زعم بعضُ الناس أن الضمير في قوله: ﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 42] عائد على يوسف، وأنه إنما عُوقب بلبثه في السجن بضعَ سنين لطلبه الفرج من غير الله، وهذا كذب على الله وعلى يوسف عليه السلام، وأما ما ذكره ابنُ جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن وكيع، حدَّثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لو لم يَقُلْ - يعني يوسف - الكلمةَ التي قالها ما لبثَ في السجن طويلًا؛ حيث يبتغي الفرجَ من عند غير الله ))، فإن هذا الخبر لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا الحديث ضعيف جدًّا؛ لأن سفيان بن وكيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضًا".
ابن بطال المالكي القرطبي الحمد لله رب العالمين مالك يوم المعاد، والصلاة والسلام على صاحب اللواء والمعالي نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد: فإننا نقف اليوم- بإذن علَّام الغيوب- مع عَلَم من الأعلام الأفذاذ، وهرم من الأهرام، وأسد من أسود السنة النبوية المطهرة، وجبل شامخ فَحْل من فحول الحديث النبوي الشريف والعلم والصلاح، عَالِمُنَا هذا حاز قصب السبق، وبرع في العلم والفقه، العالم الجِهْبِذ المُحدِّث رَاوِيَة المغرب (الأندلس) الفقيه. يُعَدُّ عالمنا علي بن خلف بن عبدالملك أبو الحسن القرطبي ابن بطال المالكي ممن نال الشرف وحاز قصب السبق في شرح أحد أعمدة كُتُب الحديث النبوي الشريف وأصحها بعد كلام الله؛ ألا وهو صحيح البخاري، فابن بطال كان مع الأربعة الأوائل ممَّن شرحوا صحيح البخاري؛ وهم على النحو التالي: كتاب شرح البخاري لأبي جعفر الداودي 380 - 402 هجرية، أعلام السُّنَن للخطابي، شرح البخاري للمهلب بن أبي صفرة 435 هجرية وشرح عالمنا النحرير: شرح البخاري لابن بطال 449 هجرية. وهاته الشروح الأربعة السالفة لم يُكتَب لها كلها القبول، ولم يُطبَع منها إلا كتاب الخطابي وكتاب عالمنا الجليل ابن بطال. كما يعتبر شرح ابن بطال من أقدم الشروحات على صحيح البخاري، ويُعَدُّ من بين أجودها وأنفسها قدرًا ومكانةً، فيه تظهر عبقريته وحافظته ونبوغه وسعة تبحُّرِه واطِّلاعه، فهو من أهل الصنعة النبهاء الحُذَّاق القلة، يأتي في شرحه بذكر الآثار والأحاديث النبوية الشريفة (يسوقها ويُعلِّق عليها سواء متنها أو جانب الإسناد؛ مما يظهر معه بجلاء علوِّ كعب عالمنا في الصنعة الحديثية) وأقوال الصحابة والتابعين والمذاهب الفقهية، ويعزو كل قول لصاحبه، وكذا مدلولات الألفاظ، يوثق نصوص وأدلة المذهب المالكي من غير تعصُّب بالإضافة إلى النكت والفوائد. كل من جاء بعده وصنَّف قد اطَّلع على كتابه، واستفاد منه الشيء الكثير والكثير، ومن غزارة علمه ونفاسة شرحه وعجيب منهجه (يظهر هذا جليًّا ممَّا حفظه من المصنفات المفقودة؛ كابن القصار والمهلب وغيرهما). ابن بطال من كِبار أئمة المالكية، كُلُّ مَنْ ترجم له لم يذكر سنة ولادته، أمَّا مصنفاته على قلتها إلا أنها راسخة شامخة عبر التاريخ، أبرزها: شرح البخاري لابن بطال، وله: كتاب غريب الحديث، كتاب الاعتصام في الحديث وكتاب الزهد والرقائق. الأكثرية على أنه تُوفي سنة 449 هجرية إلا أن القاضي عياض ذكر أنه توفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة بلنسية، وشك محمد مخلوف في سنة وفاته فذكر أنه توفي سنة 444 هجرية أو سنة 449 هجرية. الآن نذكر سيرته بإذن الله عز وجل. حياته، شيوخه، وثناء العلماء عليه من كلام مَنْ ترجم له: [علي بن خلف بن عبدالملك بن بطال]، قال ابن بشكوال: "يكنى: أبا الحسن، من أهل قرطبة، يعرف: بابن اللجام. روى عن أبي المطرف القنازعي، وأبي الوليد، يونس بن عبدالله القاضي، وأبي محمد بن بنوش، وأبي عمر بن عفيف وغيرهم، وكان من أهل العلم والمعرفة والفهم، مليح الخط، حسن الضبط، عُنِي بالحديث العناية التامة، وأتقن ما قيد منه، وشرح صحيح البخاري في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستُقْضِيَ بالُوْرَقة، وحدث عنه جماعة من العلماء، وقرأت بخط أبي الحسن المقرئ أنه توفي ليلة الأربعاء، وصُلِّي عليه عند صلاة الظهر آخر يوم من صفر سنة تسع وأربعين وأربعة مائة" [1] . 2. قال القاضي عياض: "[أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري] يُعرف بابن النجام، أصلهم بقرطبة، وأخرجته الفتنة، فخرج إلى بلنسية، أخذ عن الطلمنكي، وابن عفيف، وابن الفرضي، وأبي القاسم الوهراني، وأبي عبدالوارث، وأبي بكر الرازي، وألَّف شرحًا لكتاب البخاري كبيرًا، يتنافس فيه، كثير الفائدة، وله كتاب في الزهد والرقائق، روى عنه أبو داود المقرئ، وعبدالرحمن بن بشر من مدينة سالم، وكان نبيلًا جليلًا متصرفًا، تُوفي سنة أربع وسبعين ببلنسية." [2] . 3. قال الذهبي:" ابْنُ بَطَّالٍ عَلِيُّ بنُ خَلَفِ بنِ بَطَّالٍ القُرْطُبِيُّ، شَارِحُ (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) ، العَلَّامَةُ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ خَلَفِ بنِ بَطَّالٍ البَكْرِيُّ، القُرْطُبِيُّ، ثُمَّ البَلَنْسِيُّ، وَيُعْرَفُ: بِابْنِ اللَّجَّامِ . أَخَذَ عَنْ: أَبِي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِي، (طلمنكة: مدينة بالأندلس، اختصها محمد بن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام الأموي)، وَابْنِ عَفِيْف، وَأَبِي المُطرَّف القَنَازعِي، وَيُوْنُس بنِ مُغِيْث، قَالَ ابْنُ بَشْكُوَال: كَانَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَة، عُنِي بِالحَدِيْثِ العنَايَة التَّامَة؛ شرح (الصَّحِيْح) فِي عِدَّة أَسفَار، رَوَاهُ النَّاس عَنْهُ، وَاسْتُقضِيَ بِحِصْن لُوْرَقَةَ، توُفِّيَ فِي صَفَرٍ، سَنَةَ تِسْع وَأَرْبَعِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَة. قُلْتُ: كَانَ مِنْ كِبَارِ المَالِكِيَّة، ذَكَرَهُ القَاضِي عِيَاض" [3] . 4. قال الذهبي: "وابن بطال مؤلف " شرح البخاري " أبو الحسن علي بن خلف بن عبدالملك بن بطالالقرطبي، روى عن أبي المطرف القنازعي، ويونس بن عبدالله القاضي، تُوفي في صفر" [4] . 5. قال الذهبي أيضًا: "علي بن خَلَف بن عبد الملك بن بطَّال، أبو الحسن القُرْطُبيّ، ويُعْرَف أيضًا بابن اللَّجَّام . روى عن أَبِي المطرِّف القَنَازِعي، ويونس بْن عَبْداللَّه القاضي، وأبي محمد بن بنوش، وأبي عمر بن عفيف، وغيرهم . قَالَ ابن بَشْكُوال: كَانَ من أهل العلم والمعرفة والفهم، مليح الخط، حسن الضبط، عُنِيَ بالحديث العناية التامَّة، وأتقن ما فيه، وشرح " صحيح أبي عبدالله الخلال" في عدة مجلدات، رواه النَّاسُ عنه، وولي قضاء لُورقَة، وقد حدَّث عنهُ جماعة من العلماء، تُوفِّي في سَلْخ صَفَرْ" [5] . 6. قال الصفدي: "ابْن بطال الْأَشْعَرِيُّ عَلي بن خلف بن عبدالْملك بن بطال أَبُو الْحسن الْقُرْطُبِي، وَيعرف أَيْضًا بِابْن اللجَّام بِالْجِيم الْمُشَدَّدَة، قَالَ ابْن بشكوال: كَانَ من أهل الْعلم والمعرفة والفهم، مليح الْخط، حسن الضَّبْط، عُنِي بِالْحَدِيثِ الْعِنَايَة التَّامَّة، وَشرح صَحِيح البُخَارِي فِي عدَّة مجلدات، وَرَوَاهُ النَّاس عَنهُ، وَكَانَ ينتحل الْكَلَام على طَريقَة الْأَشْعَرِي، وَتُوفِّي سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبع مائَة" [6] . 7. قال ابن فرحون: "ومن أهل الأندلس : [ علي أبو الحسن بن خلف بن بطال البكري ] يُعرف بابن اللجام، أصلهم من قرطبة، وأخرجتهم الفتنة إلى بلنسية، روى عن الطلمنكي، وأبي المطرف القنازعي، وأبي الوليد يونس عن عبد الله القاضي، وأبي عمر عفيف، والمهلب بن أبي صفرة، كان من أهل العلم والمعرفة والفهم، عني بالحديث العناية التامة، وأتقن ما قيد منه، واستُقْضِي بلُوْرَقة، وحدَّث عنه جماعة من العلماء، وألف شرح البخاري، تُوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة . " [7] . 8. قال مصطفى حاجي خليفة: " [الاعتصام في الحديث [ للإمام، الحافظ ، أبي الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي، المتوفى: سنة ٤٤٩ [8] . (ذكر حاجي خليفة فقط ترجمة مختصرة له، وذكر أنه صنف كتابًا في الحديث اسمه الاعتصام). 9. قال ابن العماد العكري: "وفيها ابن بطال، مؤلف «شرح البخاري» أبو الحسن علي بن خلف بن عبدالملك بن البطال القرطبي، روى عن أبي المطرف القنازعي، ويونس بن عبدالله القاضي، وتوفي في صفر" [9] . (هو علي بن خلف بن عبدالملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من أهل قرطبة، له «شرح البخاري» مات سنة (٤٤٩ هـ). 10. قال محمد مخلوف: " أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي، يعرف باللجَّام، الإمام العالم الحافظ المحدث الراوية الفقيه، روى عن ابن أبي صفرة، والقنازعي، والقاضي يونس بن عبدالله وغيرهم، أخذ عنه جماعة، ألَّف شرحه المعروف على البخاري والاعتصام في الحديث، مات سنة ٤٤٤هـ أو سنة ٤٤٩هـ ]١٠٥٧ م[ [10] ". 11. قال الزركلي: "ابن بَطَّال (٤٤٩هـ = ١٠٥٧ م) . علي بن خلف بن عبدالملك بن بطال، أبو الحسن عالم بالحديث، من أهل قرطبة، "شرح البخاري - خ " الجزء الأول منه والثالث والرابع في الأزهرية، والثاني (كتب سنة ٧٧٦) في خزانة القرويين بفاس، والخامس ) الأخير منه) في شستربتي (١٧٨٥) ومنه قطعة مخطوطة في إستنبول، أولها: باب زيادة الإيمان ونقصانه" [11] . ختامًا: فإن جهود ابن بطال في خدمة الحديث النبوي الشريف والعلم، والذود عن حياض السنة النبوية المطهرة ظاهرة للعيان، وقد رحل تاركًا وراءه إرثًا ممجدًا، وأعمالًا جليلة مباركة، عظيمة القدر والنفع، لا سيَّما في الصنعة الحديثية، فكتابه الذي شرح به صحيح محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري لخيرُ دليلٍ على ما تقدم بالإضافة لكتابي الاعتصام في الحديث، وغريب الحديث؛ مما يبرز علوَّ كَعْبِ عالمنا ورسوخ قدمه في العلم، وغزارة نُقُوله، وسعة اطلاعه، فقد كتب الله لعمله القبول بين أهل العلم، وغيرها من مميزات حظي بها ابن بطال، فإنه لا غرو في ذلك، فالمدرسة المغربية الأندلسية عُنيت بشتَّى صنوف العلم، أبرزها علم الحديث النبوي منذ العصور الأولى والتاريخ حافل بالأسماء. أما ثناء العلماء عليه فقد مَرَّ معنا، يكفي ما ذكراه ابن بشكوال وابن فرحون: "وكان من أهل العلم والمعرفة والفهم، مليح الخط، حسن الضبط، عُنِي بالحديث العناية التامة، وأتقن ما قيد منه ، وشرح صحيح البخاري في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستُقْضِيَ بالُوْرَقَة ، وحدث عنه جماعة من العلماء". وما ذكره محمد مخلوف بقوله: "الإمام العالم الحافظ، المحدث الراوية الفقيه..."، وحسبنا ما وصفه به القاضي عياض : "وألَّف شرحًا لكتاب البخاري كبيرًا، يتنافس فيه، كثير الفائدة، وله كتاب في الزهد والرقائق، روى عنه أبو داود المقرئ، وعبدالرحمن بن بشر من مدينة سالم، وكان نبيلًا جليلًا متصرفًا". وحسب أهل المغرب والأمة الإسلامية فخرًا من القلادة ما أحاط بالعنق حول عالمنا الجليل وفضائله وإسهاماته القيمة، ولا يسعنا في الأخير إلا أن نسأل المولى الكريم أن يجزي عنا عالمنا الهمام الجِهْبِذ، وحيد زمانه، أحد مفخرة ورَاوِية المغرب، وعن أُمَّتنا العظيمة خير الجزاء. والحمد لله على توفيقه وامتنانه، وفضله وإحسانه على ما أتاح ويسَّر من التعريف ولو بالنَّزْر اليسير عن أحد علمائنا الأجِلَّاء. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلِّم على نبيِّنا العدنان وآله، والصَّحْب الكِرام، أولي الفضل والإحسان. [1] كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس لابن بشكوال. [2] ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض. [3] سير أعلام النبلاء للذهبي. [4] العبر في خير من غبر للذهبي. [5] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي. [6] الوافي بالوفيات الصفدي. [7] الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب لابن فرحون. [8] كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمصطفى حاجي خليفة. [9] شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد العكري. [10] شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمد مخلوف. [11] الأعلام للزركلي.
عنيزة في عهد الملك عبدالعزيز لنوير بنت مبارك العميري صدر حديثًا " عنيزة في عهد الملك عبدالعزيز دراسة تاريخية حضارية (1322 - 1373 هـ/ 1904 - 1953 م) "، تأليف: " نوير بنت مبارك العميري "، نشر: " دار ملامح للنشر والتوزيع " بالإمارات. وأصل هذا الكتاب أطروحة علمية تقدمت بها الكاتبة لنيل درجة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر، بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية- جامعة أم القرى وأشرف على البحث أ.د. "ي وسف بن علي الثقفي "، وذلك عام 1438 هـ - 2017 م. وتتناول هذه الدراسة تاريخ مدينة عنيزة في عهد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - في الفترة (1322 - إلى 1373 هـ) الموافقة (1904 - إلى 1953م) حيث وجدت الكاتبة أن دراسة المدن في المملكة العربية السعودية تستحق أن تكون هدفًا للبحث العلمي الموثق، خاصة مع وجود دراسات تناولت منطقة القصيم بشكل عام، ولكن على الرغم مما قدمته تلك الدراسات من استيعاب للعديد من مظاهر الحياة فيها، إلا أنها أخذت طابع الشمولية والتعميم على كامل مدن وقرى القصيم، دون التعمق في واحدة من تلك المدن لخصوصيتها ببعض الجوانب المميزة في تاريخها، لذا كان هذا البحث عن عنيزة خاصةً وهي من أكبر محافظات منطقة القصيم وأقدمها حيث تقع على هضبة نجد، في وسط المملكة العربية السعودية، ويرجع سبب التسمية باسم عنيزة إلى تل (أكمة) الذي يكتسب اللون الأسود (مثل الجبل الأسود الصغير) والذي كان يقع شرقي عنيزة، لأن التل أو الاكمة السوداء يطلق عليها العرب قديمًا كلمة العنز بضم العين وسكون النون، واسم عنيزة ما هو إلا تصغير لهذه الكلمة لأن التل الأسود الذي أطلق عليه هذا الاسم صغير الحجم، وهي مدينة تاريخية ذات أهمية اكتسبت أهميتها منذ القدم بسبب موقعها الجغرافي المميز فهي تقع في الجزء الشمالي الأوسط من هضبة نجد إلى الجنوب من مجرى وادي الرمه أكبر أودية شبه الجزيرة العربية. وتناولت هذه الدراسة المدينة في سبعة فصول تقدمها تمهيد ببيان جغرافية مدينة عنيزة، وتسميتها، وتاريخ نشأتها، وتطورها السياسي في عهد الدولتين الأولى والثانية. ثم تناول الفصل الأول: عنيزة قبيل حكم الملك عبد العزيز، ودخول عُنيزة تحت حكم الملك عبد العزيز، ثم الحكم والإدارة. وركز الفصل الثاني: على الأوضاع الدينية في عُنيزة في ثلاثة مباحث تمثلت في: المحاكم الشرعية، والمؤسسات الدينية، والمساجد والأوقاف. تناول الفصل الثالث: الأوضاع الثقافية في عُنيزة، وجاء ذلك في خمسة مباحث: الكتاتيب، والتعليم الأهلي والحكومي، والأسر العلمية والأدبية، المكتبات والنوادي، والشعر. أبرز الفصل الرابع: الأوضاع الاجتماعية في عُنيزة، تناول فيه الأسرة، والتركيبة السكانية، والعادات والتقاليد، والأعياد والمناسبات. أما الفصل الخامس فجاء بعنوان: الأوضاع الاقتصادية في عُنيزة، وقد تناول أنشطة الزراعة والتجارة والصناعات والحرف. وتناول الفصل السادس: الأوضاع الرياضية في عُنيزة، حيث تناولت الكاتبة الفنون الشعبية، والألعاب الشعبية. وركز الفصل السابع: على الأوضاع العمرانية في عُنيزة، حيث تناول فيه المنشآت العمرانية والمعالم التاريخية والأثرية. والباحثة "نوير مبارك العميري" أستاذة بجامعة القصيم، لها من البحوث والدراسات: • "الانتهاكات الواقعة على المسجد الحرام خلال الفترة ٩٢٣-١٣٧٣هـ/١٥١٧-١٩٥٣م دراسة تاريخية". • "الهدية في حياة الملك عبد العزيز". • "تاريخنا الوطني في ذاكرة الأمثال الشعبية". • "المرأة في مدينة عنيزة في عهد الملك عبدالعزيز ( ١٣٢٢-١٣٧٣هـ/١٩٠٤-١٩٥٣م) ". • بحث بعنوان "البيوتات التجارية النجدية في البحرين وأثرها خلال القرن مطلع القرن العشرين". • "الليدي فينوس في مكة". • "صورة المرأة في شمال الجزيرة العربية في كتابات الرحالة الأجانب". • "الجوف في رحلة وليم بلجريف". • "تجار نجد في الهند ( عُنيزة نموذجًا)".
من أعلام النساء السيدة أسماء بنت عُمَــيْس رضي الله عنها نسبها: هي أسماء بنت عميس بن مغنم، الخثعمية المعروفة بالبحرية الحبشية. إسلامها: قيل إنها أسلمت مع زوجها جعفر قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكانا من الأربعين السابقين إلى الإسلام [1] . فضلها: إنها مهاجرة الهجرتين، ومصلية القبلتين، وهي إحدى الأخوات المؤمنات الأربع اللائي حصلْنَ على وسام الإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((الأخوات مؤمنات: ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأختها أم الفضل بنت الحارث، وأختها سلمى بنت الحارث امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن)) [2] . وهي أكرم الناس أصهارًا؛ فقد تزوَّجت جعفر الطيار، ولما استشهد تزوَّجت الصديق أبا بكر، ولما لقي ربَّه تزوجت عليَّ بنَ أبي طالب، ويكفيها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم، وعمُّه حمزة، وعمُّه العباس رضي الله عنه من أصهارها [3] . صاحبة الهجرتين: أخرج البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلت أسماء بنت عُميس على أمِّ المؤمنين حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر رضي الله عنه على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: مَن هذه؟، قلت: أسماء بنت عُميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضبت وقالت: كلا والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايْمُ الله، لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكرَ ما قلتَ للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا نبي الله، إِن عمر قال كذا وكذا، قال: ((فما قلتِ له؟))، قالت: قلت كذا وكذا. قال: ((ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان))، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأهل السفينة يأتوني أرسالًا يسألوني عن هذا الحديث: ما من الدنيا شيء هُم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بُردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث: ((ولكم الهجرة مرتين: هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ)) [4] . أسماء مع جعفر : تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب، القرشي الهاشمي الشهيد الطيار، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما هاجر إلى الحبشة أقام في بلاد النجاشي، وأقامت معه زوجه أسماء الوفية الصابرة، تؤازره وتُخفِّف عنه، وتتحمَّل معه أحزان الغريب، وحنين المهاجر إلى بلاده. ولما عاد جعفر، وكان ذلك أثناء فتح خيبر، تلقَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: ((لا أدري بأيهما أفرح؛ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟)) [5] . ويوم مؤتة قاتل جعفر حتى قُطِعت يداه والراية معه، فلم يُلْقِها، ولما قُتِل وُجد به بضع وسبعون جراحةً ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، كلها فيما أقبل من بدنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قادة مؤتة الشهداء "لقد رُفِعُوا في الجنة على سُرُر من ذهبٍ"، وكان عُمْر جعفر لما قُتِل إحدى وأربعين سنة [6] . قال ابن إسحاق: عن عائشة: قالت: لما أتى وفاة جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن، ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه نعي جعفر، دخل على امرأته أسماء بنت عميس، فعزَّاها فيه، ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: واعمَّاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((على مثل جعفر فلتَبْكِ البواكي))، ودخله من ذلك هَمٌّ شديدٌ حتى أتاه جبريل، فأخبره أن الله قد جعل لجعفر جناحين مضرجين بالدم، يطير بهما مع الملائكة [7] . بعد استشهاد جعفر : قال ابن إسحاق: عن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد دبغتُ أربعين منًّا (جلدًا) وعجنت عجيني، وغسلت بَنِيَّ ودهنتُهم ونظَّفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ائتني بِبَني جعفر))، فأتيته بهم، فشمَّهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أَبَلَغَك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: ((نعم، أصيبوا هذا اليوم))، قالت: فقمتُ أصيح، واجتمع إليَّ النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: ((لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا؛ فإنهم قد شُغِلوا بأمر صاحبهم)) [8] ، وقال صلى الله عليه وسلم لأمِّهم أسماء بنت عميس: ((أتخافين عليهم العَيلة وأنا ولِيُّهم في الدنيا والآخرة؟))، ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم" [9] . قال الإمام أحمد: عن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر، فقال: ((لا تحدِّي بعد يومك هذا)) [10] ، فكانت أسماء مخصوصة بذلك؛ لأنه من المعلوم أن المرأة تحدُّ على زوجها أربعة أشهر وعشرًا. أسماء مع أبي بكر : لما انقضت عدة أسماء من جعفر، زوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وكان شديد الغيرة عليها، فأقبل يومًا داخلًا عليها فإذا نفر من بني هاشم جلوس في بيته، فكَرِه ذلك، ووجد في نفسه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وقال: لم أرَ إلا خيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله قد برَّأها من ذلك))، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ((لا يدخلنَّ رجل، بعد يومي هذا، على مُغِيبَة، إلا ومعه رجل أو اثنان)) [11] . ولما مات أبو بكر غسَّلته زوجُه أسماء بوصية منه. وقيل: عزم عليها لما أفطرتْ – وكانت صائمة - وقال: هو أقوى لك. فذكرتْ يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثًا [12] . أسماء مع عليٍّ : قال الشعبي: تزوَّج عليٌّ أسماء بنت عميس - أي بعد وفاة أبي بكر- فولدت له: يحيى، وعَونًا، وتفاخر ابناها محمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر يومًا، فقال كل منهما: أبي خير من أبيك، فقال علي: يا أسماء، اقضي بينهما، فقالت: ما رأيت شابًّا كان خيرًا من جعفر، ولا كهلًا خيرًا من أبي بكر، فقال عليٌّ: ما تركت لنا شيئًا [13] . وفاؤها: كانت بنت عميس مثالًا للزوجة الوفية المخلصة؛ فقد قاست معاناة الهجرة والغربة مع زوجها جعفر؛ وأيدته وآزرته، ثم لمَّا تزوَّجها الصدِّيق رضي الله عنه وقفت إلى جواره تشدُّ من أزْرِه وتسانده في حربه ضد المرتدين كما وقفت إلى جوار زوجها علي بن أبي طالب في مواجهته المحن، فانطبق عليها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ)) [14] . لقد كانت إلى جوار كل زوج في ألفة قلب وروح، تَجاوُرَ اللحمةِ والدم، لا تجاوُر الصور والأجسام. سيدة اجتماعية من الطراز الرفيع : لقد كانت أسماء شديدة التفاعل مع أبناء مجتمعها، هاجرت إلى الحبشة، وهاجرت إلى المدينة، وحضرت الحروب وروت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم الأندلسي في كتابه: ( أسماء الصحابة وما لكل واحد منهم من العدد): لها ستون حديثًا -أي: لأسماء بنت عمَيس- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدَّها الرقم 56 في ترتيب الصحابة من حيث الرواية. ومن مروياتها: عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: ((أنتَ مِنِّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي)) [15] . كما شهدت البيعات المختلفة لخلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تقوم بغسل الموتى من النساء، ومِمَّن غسلتهن: فاطِمَة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم [16] . وكانت أسماء بنت عميس أول من أشار بنعش المرأة؛ ف عن عبدالله بن بريدة، قال: "لبثت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين بين يوم وليلة، فقالت: إني لأستحيي من خلل هذا النعش إذا حُملت فيه، فقالت لها أسماء بنت عميس: إن شئتِ عملتُ لك شيئًا يُعمَل بالحبشة، ويُحمَل فيه النساء، قالت: أجَل فاصنعيه، فصنعتْ النعش، فلما رأته، قالت: سترك الله، قال: فما زالت النعوش تُصنَع بعدها [17] . تشريعات إسلامية بسبب أسماء بنت عميس : الخالة بمنزلة الأم : عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ.. وَمَضَى الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ يَا عَمِّ! فَتَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ. فحملتْها، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي (يقصد زوجه أسماء بنت عميس)، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِخَالَتِهَا (أي: أسماء بنت عميس)، وَقَالَ: ((الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ)) [18] ، فصار تشريعًا. من أحكام المستحاضة: وعلمتْ أسماء يومًا أن فاطمة بنت أبي حُبيش استحيضتْ لمدة طالت أكثر من المعتاد، فلم تُصَلِّ، فسألت أسماء النبي عن حكم ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله، هذا من الشيطان، لِتجلسْ في مِرْكنٍ، فإذا رأت صُفَارة فوق الماء، فلتغتسل للظهر والعصر غسلًا واحدًا، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلًا، ثم توضَّأ فيما بين ذلك)) [19] ، فصار ذلك تشريعًا. النفساء في الحج: ولما خرجت هي وزوجها أبو بكر للحج في السنة العاشرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت في ذي الحليفة، محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال لها صلى الله عليه وسلم: ((اغتسلي ثم استثفري ثم أهِلِّي)) [20] ، فصار ذلك تشريعًا، ومعنى استثفري أي ضعي قطعة قماش عريضة وشُدِّيها بإحكامٍ. غُسل المرأة زوجها : ولما مات الصديق أبو بكر غسَّلَتْه زوجه أسماء بنت عميس بوصية منه، من هنا اتفق الفقهاء على جواز غسل المرأة زوجها؛ قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه [21] . وفاتها: جاء على مسامع أسماء بنت عميس مقتل ولدها محمد بن أبي بكر في مصر حيث كان واليًا عليها، فقتله معاوية بن خديج، ودسَّه في بطن حمار ميت، وأحرقه، فتَلوَّتْ من الحزن عليه، وعكفتْ في مصلاها، وحبست دمعها وحزنها، حتى شخب ثدياها (سال منهما) دمًا، وراحت تكتم أحزانها، وتطوي آلامها إلى أن أسلمت روحها الطاهرة لبارئها عز وجل، وتوفيت نحو سنة 38 من الهجرة رضي الله عنها وأرضاها [22] . [1] سيرة ابن هشام 1 / 257، البداية والنهاية 3 / 49 . [2] المستدرك للحاكم 16 / 55، والمعجم الكبير للطبراني 10 / 107 . [3] أسد الغابة 3 / 311. [4] البخاري 13 / 127. [5] المستدرك 11 / 272، المعجم الكبير 2 / 123. [6] أسد الغابة 1 / 132. [7] السابق 1 / 182. [8] مسند أحمد 55 / 39. [9] السابق 4 / 184. [10] السابق 55 / 36. [11] مسلم 11 / 148. [12] مصنف عبدالرزاق 3 / 410. [13] مصنف ابن أبي شيبة 12 / 106. [14] البخاري 16 / 450، ومسلم 12 / 343. [15] أحمد 55 / 34، والحديث أخرجه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص. [16] الكامل في التاريخ 1 / 365، والبداية والنهاية 5 / 350. [17] سير أعلام النبلاء 2 / 132. [18] البخاري 9 / 204. [19] سنن أبي داود 1 / 366. [20] سنن النسائي 2 / 198. [21] رواه أبو داود 8 / 412. [22] الإصابة 3 / 436 .
المضامين التربوية المستنبَطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن أولًا: توطئة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين؛ محمد بن عبدالله، الْمُرسَل رحمة للعالمين، وعلى أصحابه وآل بيته الأكرمين، وعلى من سار على نهجه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد: فإن عنوان هذا البحث، الذي سيكون مقالًا بحثيًّا بإذن الله على عدة مقالات؛ حتى لا نطيل على القارئ، وكذلك حتى تفتح مجالًا فكريًّا للقارئ للإجابة عن بعض التساؤلات التي ستُطرح بإذن الله في المقالات القادمة لاستكمال جوانب الموضوع؛ فيكون مشاركًا لنا فكريًّا في التحفز لمتابعة ما سيُطرح، ومدى موافقته لتوقعاته؛ ولذا فإن عنوان البحث: (المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن) . والسؤال الرئيس لهذا البحث كما هو متبع في البحث التربوي: ما المضامين التربوية المستنبطة من فترة تواجد يوسف عليه السلام ببيت عزيز مصر إلى خروجه من السجن؟ وهذا السؤال الرئيس يتفرع منه تساؤلات فرعية هي محور البحث والطرح في هذا المنبر للإجابة عن هذا التساؤل الرئيس؛ وهي كالآتي: 1- ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟ 2- ما طبيعة الحياة التي عاشها يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر إلى أن أُودِعَ في السجن ظلمًا وبهتانًا؟ 3- كيف وظَّف يوسف عليه السلام فترة تواجده في سجن عزيز مصر التوظيف الأمثل؟ 4- تعبير يوسف عليه السلام رؤيا الملك، وتعامله الأمثل الراشد مع خبر خروجه من سجن عزيز مصر. وقد بذلت - مستعينًا بالله أولًا وأخيرًا - كل ما بوسعي بذله من جهد عقلي وفكري وتربوي؛ للإجابة عن هذه التساؤلات؛ لعل ما سوف يتم طرحه هنا يُضفي شيئًا من الجِدَّة، أو يكون جمعًا لبعض المتفرقات، أو ترتيبًا لبعض الأفكار والرؤى حول هذه الفترة الزمنية من حياة رسول الله؛ يوسف عليه السلام. فإن حياة الرسل والأنبياء عليهم السلام كلها تربية وتوجيه للأمة المسلمة في كل زمان ومكان، والمضامين التربوية التي يُمعن الباحث فكره لاستنباطها من حياتهم لَهِيَ كفيلة بإذن الله عز وجل للوقاية من كل سلوك غير سويٍّ، في معتقد قلبي، أو تصورٍ فكري، أو سلوكٍ عملي، وكذلك هي علاج وتصحيح مسار لكل من وقع في خطأ عقدي، أو تصور فكري أو سلوكي عملي غير سوي. لذا؛ وجَّه الله رسولَه وحبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن كان قبله من الرسل والأنبياء، صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين؛ قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، ومن هؤلاء الرسل والأنبياء يوسف عليه السلام، الذي سوف نعيش معًا في هذا البحث مع فترة زمنية من فترات حياته المليئة بكل توجيه وتربية، تحتاجه الأمة المسلمة في كل زمان ومكان، لا سيما في هذه الأزمنة العصرية التي تمر بها، ففيها كثير من التحديات في جميع المجالات، لا سيما المجال الأخلاقي، الذي يعتبر الأمان الأول لحماية المجتمعات من الإغراق في الشهوات، والتشبع بالماديات المميتة للقلب والإحساس، وما أجمل ما جادت بها قريحة الشاعر أحمد شوقي رحمه الله بهذه الأبيات الأخلاقية؛ فقال: إنما الأمم الأخلاق ما بقِيَتْ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا [شوقي، 1425هـ، ص: 183]. فالمحافظة على أخلاقيات الأمة المسلمة من خلال تتبع حياة الرسل والأنبياء، والاستفادة منها، وتوظيفها التوظيفَ الإيجابيَّ، تعتبر من "ضروريات العصر للمحافظة على الهوية الإسلامية، وللنهوض بالمجتمع وتقدمه؛ فالأخلاق الحسنة وقِيَمُها النبيلة من عوامل استقرار وأمن وتقدم المجتمع، في جميع الأصعدة، وسوء الأخلاق من أسباب تفكك المجتمع وانهياره وذوبانه في هوية غيره"؛ [الحسني، 1427هـ، ص: 4، 5]، وهذه الفترة المحددة في البحث من حياة يوسف عليه السلام تتعلق بجوانب كبيرة من هذه الجوانب المشار إليها؛ لذا كان اختيار الباحث لهذا الموضوع. وسنكتفي في هذا المقال بالتوطئة السابقة للموضوع، والإجابة عن التساؤل الفرعي الأول: ما الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم؟ سورة يوسف سورة مكية، وآياتها إحدى عشرة ومائة، نزلت هذه السورة في فترة حرجة من فترات مراحل الدعوة المحمدية؛ وهي فترة التحدي الْمُعْلَن من قريش على الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد موت عمه أبي طالب؛ السياجِ المنيع الذي منع كفار قريش من الاعتداء المعلن أو التعرض لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء، أثناء مزاولة الدعوة، فبعد موته اشتد الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ فبلغت الحرب مبلغًا عظيمًا حتى كادت أن تتوقف الدعوة في مكة، حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحدٌ من مكة وما حولها؛ وذلك لشدة وطأة كفار وصناديد قريش على الإسلام وأهله في هذه الفترة الحرجة من فترات الدعوة المكية، وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه بيعة العقبة الأولى ثم الثانية، وفي هذه الفترة الحرجة نزلت هذه السورة التي تضمنت قصة يوسف عليه السلام كاملةً، بعد سورة هود، وكان في ذلك تسلية وتثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام. إن هذه السورة تضمنت قصة من قصص الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، متكاملة في جميع أجزائها، ومحاورها، ومضامينها، لشخصية واحدة من الرسل والأنبياء؛ وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام أجمعين، ووصف الله عز وجل هذه القصة في مطلع السورة بوصف لم يصف به قصة من قصص القرآن الكريم؛ وصفها بأنها أحسن القصص؛ قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]. وحسبُ الباحث أن يقف مع جزء من هذه القصة ابتداءً من الآية الحادية والعشرين؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]، إلى الثالثة والخمسين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]؛ لاستنباط بعض المضامين التربوية من خلال المحاور التي سوف يتعرض لها الباحث ضمن بحثه التربوي لهذه الآيات القرآنية. تميزت قصة سورة يوسف عليه السلام كاملة بأنها أحسن القصص كما وصفها الله عز وجل، وهذا ما جعل الباحث يطرح سؤالًا: لماذا سُمِّيَتْ سورة يوسف التي تضمنت هذه القصة بأحسن القصص؟! فنَقَلَ (ماضي) في كتابه المسمى (سياحة إيمانية في سورة يوسف) عدة إجابات تعليلية لهذا التساؤل المطروح، نوردها [1414هـ، ص: 8-10]: ♦ لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العِبَرِ والحِكَمِ ما تتضمن هذه القصة، وبيان ذلك فيما يقول الإمام القرطبي في [الجامع لأحكام القرآن، ج: 5، ص: 334، دار الريان للتراث]: "قوله تعالى في آخرها: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]. ♦ وقيل: سمَّاها أحسن القصص؛ بحسن مجاوزة يوسف عن إخوته، وصبره على أذاهم، وعفوه عنهم - بعد التقائهم - عن ذكر ما تعاطَوه وفعلوه، وكرمه في العفو عنهم؛ حتى قال: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]. ♦ وقيل: لأن الله تعالى ذكر فيها الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والجن والأنس، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهَّال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، والسير وتعبير الرؤيا، والسياسة والمعاشرة، وتدبير المعاش، وجمل الفوائد التي تصلح للدين والدنيا. ♦ وقال بعض الحكماء: إنما كانت أحسن القصص؛ لأن كل ما ذُكِرَ فيها كان مآله السعادة، وانظر إلى يوسف وأبيه وإخوته وامرأة العزيز، قيل: والملك أيضًا أسلم مع يوسف وحسن إسلامه، والساقي صاحب الرؤيا والشاهد فيما يُقال، فما كان أمر الجميع إلا إلى الخير. وقصص الأنبياء كلها فيها العِبر النافعة، والأحكام الشافية، والتوجيهات الربانية الكافية لكل خير، والمحذِّرة من كل هلاك، ولكن تخصيص هذه السورة بأحسن القصص؛ لأن فيها "آيات وعبر منوعة لكل من يسأل ويريد الهدى والرشاد؛ لِما فيها من التنقلات من حال إلى حال، ومن منحة إلى منحة، ومن منَّة إلى منة، ومن ذلة ورِقٍّ إلى عزٍّ وملك"؛ [السعدي، 1418هـ، ص: 13]. ويستمر السعدي رحمه الله في سرد بعض هذه الحكم والعبر لهذه التسمية قائلًا: "ومن فُرقة وشتات إلى اجتماع وإدراك غايات، ومن حزن وتَرَح إلى سرور وفرح، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه هذه القصة العظيمة، فتبارك من قصَّها ووضحها وبيَّنها"؛ [السابق، ص: 13]. فالملمح البارز لهذه السورة كما اتضح مما سبق أنها تتكلم عن قصة يوسف عليه السلام، بأسلوب قصصي متكامل في الأدوار والأبعاد القصصية، مما يجعل المتابع لها والقارئ متحفزًا لمتابعة القصة بوعي وإدراك، ومتلهفًا لمعرفة النهايات. فالقصة القرآنية "ذات مغزًى تربوي رفيع، دراستها على جانب كبير من الأهمية، خصوصًا من الناحية التربوية؛ فهي قالب تربوي، ومنبر إعلامي، تنفذ من خلاله الدعوة إلى القلوب فتهزها، وإلى النفوس فتنفُضها نفضًا، وفيها تربية شاملة متكاملة تربي الفرد والجيل المسلم على الأخلاق الإسلامية والتعاليم الربانية"؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص ح]. وأخيرًا، فإن المقصود بـ" أحسن القصص " عامة ما في القرآن الكريم، فكلها حسنة؛ لأنها من الله عز وجل، ولكن مقارنة بما يقص القاص، فإن "قصص القرآن الكريم أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العِبر والحِكم، فكل قَصَص في القرآن هو حسن في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن، وليس المراد أحسن قصص القرآن، حتى تكون قصة يوسف عليه السلام أحسن من بقية قصص القرآن"؛ [ابن عاشور، 1420هـ، ج: 12، ص: 10]. وهكذا كانت هذه السورة مسلية ومثبتة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، وكل مَن يأتي مِن أمته إلى أن تقوم الساعة، بأن النصر والتمكين والعلوَّ لأهل الإيمان والتوحيد الصادقين الصابرين، وبأن الفرج آتٍ، والأمل قادم، والمحنة ستزول، مهما كان الظلام دامسًا، فلا بد أن يبزُغ الفجر بنوره، ويشع الدنيا كله بضيائه، فالمهم هو أن يُحسن المسلم الإيمان بالله والتوكل عليه، وأن يثبُت على صراطه المستقيم، كما حصل مع يوسف عليه السلام في محنته وبلائه، في هذه الفترة التي دخل فيها بيت عزيز مصر إلى أُودِعَ السجن وخرج منه. المضامين التربوية المستنبطة من المحور الأول: الملمح العام الذي تميزت به سورة يوسف عليه السلام؛ ما يلي: 1- أسلوب التربية بالقصة عمومًا، وبالقصة القرآنية خصوصًا، من الأساليب التربوية الإسلامية. فهو "من الأساليب التربوية الناجحة في تنمية القيم الأخلاقية؛ حيث يتشرب السامع للقصة بوعي وإدراك للقيم الأخلاقية المبثوثة في ثنايا القصة"؛ [الحسني، 1427ه، ص: 183]، وهذا واضح جليٌّ في هذه القصة المسمَّاة بأحسن القصص، التي تميزت به هذه السورة. وكذلك إذا كان القاصُّ في غير القرآن الكريم "لديه مهارات فن العرض، وتحريك الأوتار الحساسة الفنية أثناء المرور على تلك القيم الأخلاقية، وكذلك إذا كانت خاتمة القصة فوزًا ونجاحًا لبطل القصة الذي تبنَّى القيم الأخلاقية في تعامله وسلوكه، فكان له هذا النجاح"؛ [السابق، ص: 183]، وهذا هو الذي حدث في هذه القصة الموصوفة بأحسن القصص، التي تمثلت في شخصية يوسف عليه السلام. 2- تأثير القصة في النفس الإنسانية، والحاجة إليها في البناء النفسي والفكري والتربوي للشخصية المسلمة في كل زمان ومكان. وهذا التأثير الإيجابي في النفس الإنسانية للقصة، يتحقق بشرط أن تُوضَع في قالب عاطفي مؤثر، فت"عالج آفاق النفس، فتحرك الدوافع الخيرة في الإنسان، وتطرد الدوافع الشريرة منه، فهي قد تجعل القارئ أو السامع يتأثر بما يقرأ أو يسمع، فيميل إلى الخير وينفذه، ويمتعض من الشر فيبتعد عنه"؛ [الصالح، 1424هـ، ص: 124]، وهذه القصة في هذه السورة تحمل كل ما ذُكِرَ وزيادة، فهي من أحسن القصص القرآنية، والإنسانية من باب أولى. 3- التأدب مع الله عز وجل فيما قص في كتابه من قصص، وعدم تجاوز ما ورد عنها في القرآن الكريم. فلا مجال لعقولنا ومداركنا أن نعرف ما لم يتطرق الله لذكره في قصة من القصص القرآنية؛ فهي أحسن القصص، فلا مجال لتجميلها بزيادات عقولنا وأفكارنا القاصرة، ويكفي الالتزام بوصف الله عز وجل لها، فهي أحسن القصص؛ فالحُسن مبنيٌّ على الحق، وكل ما ذكره الله حق، بخلاف ما يرِد في الإسرائيليات والأساطير من عقول البشر المجردة، فهي قاصرة وفاقدة لصفة الحق الصواب. 4- كلما اشتد البلاء على الصالحين بصنوفه وأنواعه المتعددة، زاد ثباتهم ويقينهم بصحة الطريق الذي هم له سالكون، وفي المقابل كلما ازداد عدوهم بثباتهم ضعفًا ووهنًا نفسيًّا لا ينفع معه عدة ولا عتاد. وهذا المضمون التربوي واضح جليٌّ من خلال مناسبة نزول قصة يوسف عليه السلام في الفترة الحرجة من حياة المصطفى عليه الصلاة والتسليم، التي تُعرَف بعام الحزن؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني من تكتُّل كفار قريش وتجمُّعهم عليه، ونبذه صلى الله عليه وسلم، وعزله حتى شعر بالوحشة والغربة والانقطاع، هو وصحابته الكرام رضي الله عنهم في الفترة المكية، واشتدت بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة؛ فسُمِّيَ العام عام الحزن، وفي هذه اللحظات الصعبة من حياته صلى الله عليه وسلم يقص الله عز وجل عليه قصة يوسف عليه السلام، بما فيها من صنوف المحن والابتلاءات التي تعرَّض لها يوسف عليه السلام، وكيف صبر وثبت، وكيف تعامل معها، ثم ماذا كانت النتيجة في خاتمة السورة، من التمكين ليوسف عليه السلام، ومن الانتقال من المحن والابتلاءات إلى المنح الربانية، وأصبح يوسف عليه السلام هو المقدَّم والمحكَّم في أقوات الناس، وفي التعامل مع أحداث تلك المرحلة بعد أن كان رقيقًا، طريدًا، مسجونًا، بعيدًا عن أبويه، وإذا بمصرَ ومُلك مصر بين يديه. فهذه القصة تسلية لرسول لله صلى الله عليه وسلم، وتثبيت له، وبشرى وإضاءة ربانية له بنهاية المطاف، وبأنه النصر والتمكين، وأن هذه الفترة الحرجة من حياته آذنت بالانبلاج والرحيل، وهذا ما حصل فعلًا وواقعًا بأن عقِبتها بيعة العقبة الأولى والثانية، ثم الهجرة للمدينة، وتكوين دولة الإسلام القوية المكينة التي لم يَرَ الوجود، ولن يرى مثلها في التعامل مع النفس البشرية. 5- لا تفضيل بين قصص القرآن الكريم؛ فإن القاص لها الله عز وجل. فهو سبحانه وتعالى "يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعًا للسامعين في أبدع الألفاظ والتركيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح، وابتهاج النفس والذوق، مما لا تأتي بمثله عقول البشر"؛ [ابن عاشور، ج: 12، ص: 203، 204]، والصحيح "والعلم عند الله أن المراد بأحسن القصص؛ أي قصص القرآن عامة"؛ [الرحيلي، 1420هـ، ص: 70]. قال ابن تيمية رحمه الله: "فقوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3] يتناول كل ما قصه في كتابه، فهو أحسن مما لم يقصه، ليس المراد أن قصة يوسف عليه السلام أحسن ما قُصَّ في القرآن"؛ [ج: 17، ص: 22]. هذه بعض المضامين التربوية التي حاولت جاهدًا استنباطها من هذا الملمح التربوي، وعسى أننا وُفِّقنا في عرضها وربطها بمواطن الاستنباط، ولا شك أن هناك دُررًا من الفوائد والمضامين ما زالت في هذا الملمح، عجز عن الوصول إليه عمق تفكيري، وحسبي أنني حاولت أن أستعرض ما ذكرت؛ لعله أن يكون لي عمل صالح أنتفع به في حياتي، وبعد رحيلي؛ فأسأل الله النية الصالحة من القول والفعل. وأرى الاكتفاء في هذا المقال بعرض ما سبق، حتى يستوعب القارئ والمتابع ما تم طرحه، وكذلك ما تم استنباط مضامينه، وكذلك نفتح مجالًا له للإضافة لهذا المحور بما يجُود به فِكره، وكذلك ليستعدَّ معنا ويتشوَّق لاستكمال الموضوع في الملمح الثاني ومضامينه بإذن الله، ونستودعكم الله إلى لقاء قريب بإذن الله، لاستكمال ما بقِيَ في هذا الموضوع.
موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب للشيخ خالد الأزهري (طبعة دار كشيدة) صدر حديثًا كتاب "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، تأليف: العلامة الشيخ "خالد بن عبدالله بن أبي بكر الأزهري" (ت 905 هـ)، سلسلة تراث الأزهريين، نشر: "دار كشيدة للنشر والتوزيع". وهذا الإصدار يتضمن شرح الشيخ "خالد الأزهري" على كتاب "الإعراب عن قواعد الإعراب" لابن هشام الأنصاري. تبرز أهمية كتاب "الإعراب عن قواعد الإعراب" في المنهجية التي اعتمدها العلامة ابن هشام فيه، حيث انصب اهتمامه على تقرير بعض القوانين الكلية العامة، التي تعين الطلاب على تكوين رؤية عامة لمسائل علم النحو. ويكفي للتدليل على أهمية "قواعد الإعراب" أن نعرف أنه كان بمثابة المقدمة أو النواة الأولى لكتاب ابن هشام الأشهر: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب". وفي شرحه "موصل الطلاب" كشف الشيخ خالد الأزهري عما اشتملت عليه "قواعد الإعراب" من أسرار وفوائد، قام بتفصيلها وتقريبها مع اهتمام خاص بالجانب العملي من النحو المتمثل في ممارسة الإعراب، وذلك في شرح ممزوج لا يلحظ القارئ فيه اختلافًا أو تباينًا يذكر بين الأصل والشرح، وكأنهما مؤلَّف واحد كتبه مؤلِّف واحد. ونجد أن كتاب ابن هشام الأنصاري كتاب ذو منهج فريد لم يسبق إليه في التأليف النحوي، فموضوعاته هي الجملة بأحكامها، وشبه الجملة، وبيان معاني واستعمالات طائفة من الكلمات التي يكثر شيوعها في الكلام، وإيضاح أسباب أولية في الإعراب يحتاج إليها المبتدئون. والشارح هو أبو الوليد زين الدين خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن أحمد الجرجاوي الأزهري (838هـ/1434م - 905هـ/1499م)، يُعرَف بالوقاد. هو نحويٌ مصري من جرجا، عاش في القرن التاسع الهجري، درَّس في الأزهر الشريف بالقاهرة، وكان متخصصًا في علوم المنطق والبلاغة والنحو. يَعُدُّه مؤرخو النحو العربي من نحاة المدرسة المصرية الشامية. ولِدَ "خالد الأزهري" في مدينة جرجا بالصعيد، وانتقل بصحبة والده إلى القاهرة وهو لا يزال طفلًا، وفي القاهرة حفظ القرآن ونشأ في الأزهر، وعمل هناك وقَّادًا. بدأ الأزهري دراسته بعد أن أسقط فتيلةً من النار على كراسة أحد طلاب الأزهر، فشتمه الطالب وعيَره بالجهل، فتأثَّر من ذلك وقرَّر أن يترك الوقادة ويشتغل بالعلم بعد أن بلغ من العمر ستًا وثلاثين سنة. أخذ علوم البيان والبديع والنحو والعربية والمنطق عن شمس الدين السخاوي وأبي العباس الشمني، غير أنَه اهتمَ بعلم النحو أكثر من غيره، وبعد تبحُّرِه بعلوم اللغة بدأ بتدريس الطلاب العربية، واشتهر من تلامذته ابن الحاجب النحوي. ذاع صيته بعد ذلك وأصبح من أهمِّ علماء عصره، وألَّف عددًا من الكتب في النحو، وتميزت مؤلفاته النحوي بالعناية الفائقة بالخلاف النحوي، وكان يكثر من ترديد آراء ابن هشام الأنصاري، وهذا لم يمنعه من تخطئته في كثير من الأحيان، ويلاحظ على مؤلفاته أنها لم تتضمن آراء جديدة، فهو قلما يجتهد من عنده، وجهده الأعظم ينصب في تنظيم المسائل الخلافية في النحو وعرضها بصورة متقنة وذكر حجة وتعليل كل المتخالفين بوضوح لم يسبقه أحد. تُوفِّي خالد الأزهري أثناء عودته من رحلة الحج في اليوم الرابع عشر من شهر محرم سنة 905هـ، وعمره آنذاك سبعة وستون عامًا. تنسب إليه المؤلفات التالية: • "الألغاز النحوية" (مطبوع، فرغ من تأليفه يوم عرفة سنة 896). • "التصريح بمضمون التوضيح". • "تمرين الطلاب في صناعة الإعراب" (فرغ من تأليفه سنة 886، يُسَمَّى أيضًا "التركيب" و"إعراب ألفية ابن مالك"). • "الزبدة في شرح البردة". • "شرح الآجرومية". • "المقدمة الأزهرية في علم العربية". • "شرح المقدمة الأزهرية في علم العربية". • "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب". • "إعراب الآجرومية". • "إعراب الكافية". • "تفسير آية: لا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ". • "الحواشي الأزهرية في حل ألفاظ المقدمة الجزرية" (في التجويد، فرغ من تأليفها سنة 867 هـ). • "القول السامي على كلام عبد الرحمن الجامي" (تعليق على كتاب "الفوائد الضيائية" لعبد الرحمن الجامي). • "مختصر الزبدة في شرح البردة".
الاستشراق والقرآن الكريم تقويم جهود الترجمة في وقفات تقويمية لمسار ترجمة معاني القرآن الكريم عقدت ندوات في البلاد العربية والإسلامية لتقويم هذا المسار، ولم تخل هذه الندوات من البحوث التي انصبَّت على جهود المستشرقين في "التعامل" مع القرآن الكريم، من خلال الترجمات أو المقدمات، التي تبيِّن الموقف الاستشراقي من كتاب الله تعالى، مما يعدُّ أشد خطرًا من الأخطاء التي وقع فيها المستشرقون في الترجمة ذاتها. • من تلك الجهود التقويمية ما قامت به جمعية الدعوة الإسلامية العالمية في بنغازي بليبيا سنة 1406هـ / 1986م من عقد ندوة عالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم؛ وذلك في مدينة إسطنبول بتركيا [1] . • ما قام به مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة من عقد ندوة حول عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه، في المدة من 3 - 6 / 7 / 1421هـ الموافق 30 / 9 - 3 / 10 / 2000م [2] . • ما قامت به جمعية الدعوة الإسلامية العالمية من عقد الندوة الدولية حول ترجمة معاني القرآن الكريم، في بنغازي سنة 1422هـ / 2002م [3] . • ما قامت به جامعة آل البيت في عمان بالأردن من عقد ندوة لترجمات معاني القرآن الكريم إلى لغات الشعوب والجماعات الإسلامية، في المدة 21 - 24 محرم 1418هـ الموافق 18 - 21 أيار 1998م [4] . • لعلَّ مِن أحدث هذه الجهود العلمية ندوة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، التي جاءت بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم / تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل، في المدة بين 10 - 12 / 2 / 1423هـ، الموافق 23 - 25 / 4 / 2002 [5] ، وكانت تهدف إلى الآتي: 1- الاطلاع على ما يبذل من جهود في مجال ترجمة معاني القرآن الكريم في مختلف أنحاء العالم. 2- البحث عن وسائل لتطوير ترجمة معاني القرآن الكريم وتحسينها والرقي بها إلى الأفضل. 3- إيجاد تعارف بين العاملين في مجال ترجمة معاني القرآن الكريم. 4- توطيد الروابط بين مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة والهيئات والشخصيات المعنية بترجمة معاني القرآن الكريم" [6] ، بالإضافة إلى أهداف أخرى، بما في ذلك "عناية المملكة العربية السعودية بهذا الأمر من خلال جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" [7] . إن عناية المسلمين بترجمات معاني القرآن الكريم لهي دليل واقعي على السعي إلى إيجاد ترجمة دقيقة معبرة للمعنى القرآني، بعد أن تعذرت وتتعذر الترجمة اللفظية، مهما وصلت بنا الحال في الاضطلاع باللغات، على أن هذه الترجمات لا تغني بحال عن الأصل العربي، الذي جاء القرآن الكريم فيه معجزًا ببيانه، ومن هنا حرص المعنيون بالقرآن الكريم على تعلم اللغة العربية؛ وذلك للمتابعة الدقيقة لتاريخ كتابة المصحف الشريف وطباعته، ومحاولة الغوص في معانيه التي لا تنضب. للوقوف على جدية هذه البحوث التي تقدَّم في مثل هذه الندوات يأتي التمثيل ببحث الأستاذ الدكتور محمد مهر علي: "ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون؛ لمحات تاريخية وتحليلية" [8] ؛ حيث خرج فيه المؤلف بعدد من النتائج، وذلك بعد استعراضه لعدد من الترجمات؛ مثل الترجمة الفرنسية لأندريه دو ريار، وترجمة راعي كنيسة هامبورج أ. هنكلمان سنة 1694م، والترجمة اللاتينيَّة الثانية لمراتشي الإيطالي سنة 1698م، والترجمة الإنجليزية لجورج سيل، وكلها كانت في القرن الحادي عشر الهجري، القرن السابع عشر الميلادي، ثم ترجمة ج. م. رودويل، وترجمة إي. إتش. بالمر، وكلاهما في القرن الثالث عشر الهجري، النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، ثم ترجمة آربري في القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي. ومن أهم ما خرج به الأستاذ الدكتور محمد مهر علي، بعد استعراضه لهذه الترجمات بلغات مختلفة وبأزمان مختلفة كذلك، الآتي: • لجوء المستشرقين إلى الترجمة الحرفية للعبارات الاصطلاحية، وهذه يستحيل ترجمتها من القرآن الكريم إلا بالمعنى [9] . • إعطاء معنى واحد للكلمة في كل مكان، بصرف النظر عن السياق والموضوع، مع تجاهل المعاني الأخرى للكلمة. • نسبة المفردات العربية إلى جذور أجنبية قدر الاستطاعة، وإعطاؤها معاني غير مألوفة. • استخدام مصطلحات نصرانية في الترجمة قدر الإمكان. • التحريف المباشر في المعنى. • إساءة الترجمة باستخدام معان غير صحيحة للمفردات والعبارات. • إعطاء معان خيالية وخاطئة، نتيجة لعدم فهم اللغة العربية. • إدخال عبارات تأويلية وتفسيرية في نص الترجمة، والأصل أنها تكون في الهامش أو يخطر أنها ليست من أصل النص المترجم. • إدخال تعليقات وتفسيرات فاسدة في الهوامش، مبنيَّة على الإسرائيليات والروايات الموضوعة الموجودة في بعض كتب التفاسير [10] . وجد المترجمون كمًّا من هذه الإسرائيليات والأخبار الموضوعة مع الأسف في كتب التفاسير العربية للقرآن الكريم، سردها بعض المفسرين السابقين من باب الأمانة العلمية، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء التعليق عليها، مما جعلها مرتعًا للمترجمين وغيرهم ممن يبحثون عن جوانب نقص في الدين القويم [11] . يقول آرثر جفري: "من التهم التي يسوقها نقاد الإسلام ضد محمد غالبًا هي تهمة استخدامه المدروس لآلية الوحي لخدمة أغراضه الخاصة، تهمة ليس من النادر التأكيد عليها، لكن الحقيقة أن ثمَّة مقاطع في القرآن ذاته يستخدمها أولئك النقاد لدعم آرائهم، وزاد الطين بلَّة أن المفسرين القدامى يعترفون بذلك تمامًا، ولا يبدوا أنهم شعروا بضرورة تقديم تفسير لها يزيل الشكوك" [12] . • عمد بعض المترجمين إلى الإضافة على النص الأصلي أو الحذف منه عند الترجمة. • عمد بعض المترجمين كذلك إلى تبديل العبارة أو الكلمات في الأصل عند الترجمة. • قام بعض المترجمين بإعادة ترتيب القرآن الكريم بحسب نزول السور، أي الترتيب الزمني للنزول، وأدى هذا إلى تجزئة بعض السور إلى (فقرات) حسب ما زعموه أنه يطابق السياق فيه المعاني [13] ، وتلك محاولات لم يحالفها النجاح [14] . يعطي المؤلف أمثلةً لكل هذه الفقرات الاثنتي عشرة، من خلال تحليل عميق من مؤلف مطلع عميق كذلك، مما يستدعي المزيد من التركيز على الترجمات المؤصلة لمعاني القرآن الكريم من فرق علمية، ذات دراية تامة باللغتين والتفسير والأحكام، والقرآن الكريم يستحق ذلك وأكثر. من الجهود الحديثة المعتنية بترجمة معاني القرآن الكريم ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية التي عقدت في رحاب مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية في المدة من 16 - 18 / 10 / 1427هـ الموافق 7 - 9 / 11 / 2006م؛ حيث قُدِّم في هذه الندوة ثلاثة وثلاثون (33) بحثًا. على أن هناك بحوثًا أخرى كثيرة درست ترجمة معاني القرآن الكريم، مما يستدعي رصدها في قائمة وراقية (ببليوجرافية) للاستزادة؛ ذلك أن هذا الموضوع في ازدياد، والرغبة فيه قوية [15] . من هذه البحوث ما جرى التطرُّق إليه في ندوة أخرى قام بها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة كذلك، في المدة من 3 - 6 / 1421هـ الموافق 30 / 9 - 3 / 10 / 2000م، تحت عنوان: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه، ومن بينها بحث للدكتور محمد مهر علي بعنوان: "مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم" [16] ، وبحث آخر للدكتور عبدالراضي بن محمد عبدالمحسن بعنوان: "الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم"، وبحوث أخرى أثرتْ هذا الموضوع ونبَّهت إلى الحاجة إلى المزيد من الدراسة والبحث في هذا المجال [17] . من الجهود العمليَّة للتصدي لهذا النوع من الترجمات إنشاء مركز متخصِّص للترجمات في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة منذ سنة 1416هـ الموافق 1996م، يقوم بأعمال الترجمات ودراسة المشكلات المرتبطة بترجمات المعاني وإجراء البحوث والدراسات في مجال الترجمات، وتسجيل ترجمات معاني القرآن الكريم صوتيًّا، وترجمة بعض العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم [18] . من جهود هذا المركز قيامه بإصدار ترجمات لمعاني القرآن الكريم تخطَّت سبعًا وأربعين ترجمة، حتى نهاية سنة 1425هـ / 2005م على النحو الآتي: • 24 ترجمة إلى اللغات الآسيوية: (الأذرية، والأردية، والإندونيسية، والإيرانوية، والأويغورية،، والبراهوئية، والبشتو، والبنغالية، والبورمية، والتاميلية، والتايلندية، والتركية، والتغالوغ، والتلغو، والروسية، والسندية، والصينية، والفارسية، والفيتنامية، والقازاقية، والكشميرية، والكورية، والمليبارية (الملايالم)، والمندرية). • 11 ترجمة إلى اللغات الأوروبية: (الإسبانية، والألبانية، والألمانية، والإنجليزية، والبرتغالية، والبوسنية، والغجرية، والسويدية، والفرنسية، والمقدونية، واليونانية). • 12 ترجمة إلى اللغات الإفريقية؛ (الأمازيغيَّة، والأمهريَّة، والأنكو، والأوروميَّة، والجاخنكية المندينكية، والزولو، والشيشوا، والصوماليَّة، والفلانية بالحرف العربي، والفلانيَّة بالحرف اللاتيني، والهوسا، واليوربا) [19] . • يعد المجمع ترجمات كاملة لمعاني القرآن الكريم بأربع لغات، هي العبرية والهندية والبولنديَّة والسواحليَّة. • يجري المجمع دراسات لترجمات كاملة لمعاني القرآن الكريم لثلاث لغات، هي البشتو، ترجمةً أخرى، والأورالية والشيشانيَّة، بالإضافة إلى دراسة ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم للغة الملاغاشية [20] ، ليكون مجمل اللغات التي ترجمت إليها معاني القرآن الكريم أربعًا وثلاثين (34) لغةً، في سبع وأربعين (47) ترجمة لمعاني القرآن الكريم. • وحسب موقع المجمع ( www.qurancomplex.org ) "ستصدر قريبًا إن شاء الله ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغات الآتية": 1- الترجمة الأذرية: (الأذرية لغة أذربيجان) - ترجمة سورة الفاتحة وجزء عم. 2- الترجمة الإسبانية: الموافقة لرواية حفص - الترجمة الكاملة، وسبق أن صدرت ترجمة إلى هذه اللغة موافقة لقراءة ورش. 3- الترجمة الألمانية: الترجمة الكاملة بدون النص القرآني، وسبق أن صدرت هذه الترجمة مع النص القرآني. 4- الترجمة الأمازيغية: ترجمة الأجزاء الثلاثة الأخيرة، وهي بأمازيغية الجزائر، ومكتوبة بالحرف العربي. 5- الترجمة البرتغالية - الترجمة الكاملة - وهي ببرتغالية البرازيل. 6- الترجمة التاملية (التاملية لغة ولاية تاملنادو في جنوب الهند) - الترجمة الكاملة. 7- الترجمة الجاخنكية المندنكية (الجاخنكية من لغات غرب إفريقيا) - الترجمة الصوتية الكاملة. 8- الترجمة الروسية - الترجمة الكاملة. 9- الترجمة الصينية - الترجمة الكاملة بدون النص القرآني. 10- الترجمة السويدية - ترجمة سورة الفاتحة وجزء عم. 11- الترجمة الفلانية (الفلانية مِن لغات غرب إفريقيا) - ترجمة سورة الفاتحة وجزء عم بالحرفين العربي واللاتيني. 12- الترجمة الفيتناميَّة - الترجمة الكاملة. 13- الترجمة الكورية الترجمة الكاملة بدون النص القرآني، وسبق أن صدرت هذه الترجمة مع النص القرآني. 14- الترجمة المندرية (المندرية من لغات إندونيسيا) - الترجمة الكاملة [21] . • من جهود المركز الأخيرة أيضًا إصدار دورية نصف سنوية باسم مجلة البحوث والدراسات القرآنية، التي صدر العدد الثالث من السنة الأولى منها غرة محرم 1428هـ الموافق فبراير 2007م، وراعت هيئة التحرير أن يكون ضمن ما تَنشرُه في هذه الدورية الدراسات الاستشراقية حول القرآن الكريم. [1] انظر: جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، (ليبيا). الندوة العالمية حول ترجمات معاني القرآن الكريم، بنغازي: الجمعية، 1986م، 314 ص. [2] مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في الفترة من 3 - 6 رجب 1421هـ، المدينة المنوَّرة: المجمَّع، 1424هـ. [3] انظر: جمعية الدعوة الإسلامية العالمية. الندوة الدولية حول ترجمة معاني القرآن الكريم، بنغازي: الجمعية، 2002م، 272 ص. [4] انظر: جامعة آل البيت. ندوة ترجمات معاني القرآن الكريم إلى لغات الشعوب والجماعات الإسلامية المنعقدة في جامعة آل البيت في المدَّة 21 - 24 محرَّم 1418هـ الموافق 18 - أيَّار 1998م / تحرير محمَّد موفَّق الأرناؤوط، عمَّان: جامعة آل البيت، 1420هـ / 1999م، 409 + 102 ص. [5] انظر: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المدينة المنورة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1423هـ / 2002م. [6] انظر: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل؛ مرجع سابق، دليل الندوة، ص 9. [7] انظر: محمَّد سالم بن شديِّد العوفي. تطوُّر كتابة المصحف الشريف وطباعته وعناية المملكة العربية السعودية بطبعه ونشره وترجمة معانيه.، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في الفترة من 3 - 6 رجب 1421هـ؛ مرجع سابق، (المحور الثالث: عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم)، ص 423 - 464. [8] انظر: محمَّد مهر علي. ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي وتخطيط للمستقبل؛ مرجع سابق، ص 50. [9] انظر: أمين مدني. المستشرقون والقرآن: ليس المستشرقون وحدهم هم الذين تعثَّروا في مجال اللغة، المنهل، مج (4) (4 / 1396هـ - 4 / 1976م)، ص 228 – 244. [10] انظر: موريس بوكاي. الأفكار الخاطئة التي ينشرها المستشرقون خلال ترجمتهم للقرآن الكريم (2)، الأزهر، ع 9 (رمضان 1406هـ - مايو يونيو 1986م)، ص 1368 - 1375. وانظر، أيضًا: موريس بوكاي. الأفكار الخاطئة التي ينشرها المستشرقون خلال ترجمتهم للقرآن الكريم، العروة الوثقى، مج 28 (شتاء 1407هـ)، ص 46 - 55. [11] انظر في مناقشة استغلال المستشرقين للإسرائيليات في كتب التفسير: محمَّد حمادي الفقير التمسماني. تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل؛ مرجع سابق، 51 ص. [12] انظر: آرثر جفري: القرآن ككتاب مقدَّس، ترجمة: نبيل، جونية: دار إجزاكت، 1996م، ص 138، (سلسلة مشروع الدين المقارن 2). [13] انظر: أحمد فؤاد الأهواني: تغيير ترتيب المصحف، زاوية: ما يقال عن الإسلام، الأزهر، مج 41 (1389هـ)، ص 305 - 309. [14] انظر: فصل: فشل كلِّ محاولة لترتيب زماني للقرآن، ص 97 - 115. في: عبدالرحمن بدوي: دفاعٌ عن القرآن ضدَّ منتقديه، ترجمة كمال جاد الله، بيروت: دار الجليل، 1997م، ص 181، (سلسلة نافذة على الغرب؛ 1). [15] يسعى الباحث إلى رصد ما كتبه العرب والمسلمون عن المستشرقين وموقفهم من القرآن الكريم في قائمة وراقية (ببليوجرافية). وكان قد نشر ذلك فصلًا في كتاب: الاستشراق في الأدبيَّات العربية، الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1414هـ / 1993م، ص 241 - 253. وتخضع هذه القائمة الآن للتحديث. [16] انظر: محمَّد مهر علي. مزاعم المستشرقين حول القرآن الكريم، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه؛ مرجع سابق، ص 273 - 321. [17] انظر: عبدالراضي بن محمَّد عبدالمحسن. الغارة التنصيرية على أصالة القرآن الكريم، في: ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن وعلومه، المرجع السابق، ص 113 - 269. [18] انظر: محمَّد سالم بن شديِّد العوفي. كتابة المصحف الشريف وطباعته: تاريخها وأطوارها وعناية المملكة العربية السعودية بطبعه ونشره وترجمة معانيه. – ط 2 – المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة، 1424هـ / 2003م – ص 125 – 127. [19] انظر: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة حتّى نهاية عام 1425هـ، المدينة المنوَّرة: المجمَّع، 1425هـ، 40 ص. [20] انظر: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة حتّى نهاية عام 1425هـ. – المرجع السابق. – ص 40. [21] انظر: موقع مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف www.qurancomplex.org (18 / 1 / 1430هـ الموافق 15 / 1 / 2009م).
منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال للشيخ علي بن محمد الضباع صدر حديثًا كتاب "منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال"، تأليف: العلامة الشيخ "نور الدين علي بن محمد الضباع" (ت 1380 هـ)، سلسلة تراث الأزهريين، نشر: "دار كشيدة للنشر والتوزيع". وهذا الإصدار يتضمن ويجمع بين متن منظومة الشيخ "سليمان الجمزوري" في علم التجويد، وشرح شيخ القراء والمقارئ المصرية سابقًا العلامة "علي محمد الضباع" عليها. وتعد منظومة "تحفة الأطفال" لناظمها العلامة الشيخ سليمان الجمزوري، من أفضل ما يبدأ به الطلاب في تعلم التجويد. وفي هذا الشرح قام العلامة الشيخ نور الدين علي بن محمد الضباع بشرح هذه المنظومة شرحًا ينسجم مع الأصل في اختصاره، مع اشتماله على ما لا بد منه للمبتدئين في علم التجويد من معرفته، وتقديم الشرح بمجموعة من المفاهيم الاساسية في علم التجويد. وطبعت النسخة الأصلية لهذا الشرح غزير الفوائد بمطبعة دار التأليف على نفقة الاتحاد العام لجماعة القراء بمصر، وقدم لها الشيخ الضباع بمقدمة يسيرة في مبادئ التجويد، تشتمل على المبادئ العشرة للتجويد ومخارج الحروف وصفاتها. وجاء شرحه شرحًا مختصرًا موجزًا راعى فيه تسهيل العبارة، وترقيقها لتناسب جموع طلاب علم التجويد. ومنظومة "تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن" لصاحبها الشيخ "سليمان الجمزوري" منظومة شعرية في علم تجويد القرآن، اختصت بأحكام النون الساكنة والتنوين والمدود فقط، بأسلوب مبسط للطلبة المبتدئين في علم التجويد. ومرجعه في ذلك الشيخ الكامل نور الدين بن علي بن عمر بن حمد بن عمر بن ناجي بن فنيش الميهي (1139-1229 هـ). ولشهرة تلك المنظومة شرحها العديد من العلماء منهم: الجمزوري نفسه، وسمى الشرح "فتح الأقفال بشرح تحفة الأطفال". أسامة عبد الوهاب في كتابه "بغية الكمال شرح تحفة الأطفال". محمد الميهي الأحمدي المصري (القرن 13 هـ) في كتابه "فتح الملك المتعال بشرح متن تحفة الأطفال"، مخطوط في مكتبة جامعة محمد بن سعود (رقم 632). خالد عزيز إسماعيل في كتابه "فتح المتعال شرح تحفة الأطفال في علم التجويد". وسليمان الجمزوري (كان حيًا 1208 هـ) هو مقرئ، من أهل مصر. هو سليمان بن حسين بن محمد الجمزوري الشهير بالأفندي، نسبته إلى جمزور من نواحي طنطا. ولد في ربيع الأول سنة بضع وستين بعد المائة والألف هجري. كان شافعي المذهب. لا يعرف بالتحديد سنة وفاته لكن آخر ما عُرف أنه كان حيًا سنة 1208 هـ، وهي سنة التي أتم فيها كتاب "الفتح الرحماني". من مؤلفاته: • "تحفة الأطفال في تجويد القرآن" فرغ من نظمها سنة 1198 هـ. • "فتح الأقفال بشرح تحفة الأطفال". • "نظم كنز المعاني بتحرير حرز الأماني". • "الفتح الرحماني بشرح كنز المعاني". • "منظومة في رواية الإمام ورش". • "جامع المسرة في شواهد الشاطبية". أما الشارح فهو "نور الدين علي بن محمد بن حسن بن إبراهيم بن عبد الله" الملقب بالضباع، ولد بحي القلعة بمدينة القاهرة، في العاشر من نوفمبر عام 1886م، حفظ القرآن الكريم وهو صغير، وظهرت نجابته ونبوغه أثناء حفظه حتى إن شيخ المقارئ آنذاك العلامة محمد بن أحمد المتولي ( 1313 هـ) حين لمس فيه ذلك أوصى صهره الشيخ حسن بن يحيى الكتبي (صهر المتولي) بأن يعتني به ويعلمه القراءات وعلوم القرآن، وأن يحول إليه كل كتبه بعد وفاته فاجتهد الشيخ الضباع في الطلب والتحصيل حتى صار من أعلم أهل عصره في علوم القرآن. وترقى في الوظائف القرآنية حتى أصبح شيخ المقارئ بمسجد السلطان حسن بالقاهرة، ثم بمسجد السيدة رقية رضي الله عنها ثم بمسجد السيدة زينب رضي الله عنها مع شيخ المقارئ في ذلك الوقت العلامة الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني المعروف بالحداد (1357هـ) ثم عينه ملك مصر (الملك فاروق) شيخًا للقراء وعموم المقارئ المصرية بمرسوم ملكي عام (1368 هـ الموافق 1949م). وعين - رحمه الله تعالى- مراجعًا للمصاحف الشريفة بمشيخة المقارئ المصرية قبل توليته لرئاسة هذه المشيخة وبعدها أيضًا فكان يعنى بكتاب الله تعالى ويسهر عليه ويحتاط له حتى تخرج طبعاته دقيقة مطابقة للأحكام المتعلقة بكتابة المصاحف وله دور كبير في هذا المجال يسجله له التاريخ بأحرف من نور ويذكره له عشرات الآلاف من حفاظ القرآن الكريم في أرجاء المعمورة. توفي العلامة الضباع بعد حياة حافلة بالخدمات الجليلة لكتاب الله العزيز في 14 رجب 1380 هـ. قال الشيخ إبراهيم السمنودي مثنيا على الشيخ الضباع في سنة 1944 م: أعطاك ربكُ يا ضباع منزلة هيهات لم يرقها إلا الأماجيدُ أختارك الله للقرآن في زمن فن القراءات فيه اليوم موءودُ نفضت عنه غبار الوأد محتسبًا يشد أزرك تأييد وتسديدُ فأصبحت مصر للأقطار سيدة وللقراءات تحميد وتمجيدُ أما المقاريء فهي اليوم مفخرة وللمشايخ منك العز والجودُ هذا وللعلامة الضباع -رحمه الله تعالى- مؤلفات كثيرة نفع الله بها، منها: 1- أرجوزة فيما يخالف فيه الكسائي حفصًا. 2- إرشاد المريد، إلى مقصود القصيد في القراءات السبع. 3- الإضاءة في بيان أصول القراءة، بالنسبة للقراء العشرة. 4- إعلام الإخوان بأجزاء القرآن. 5- أقرب الأقوال، على فتح الأقفال، في التجويد. 6- بلوغ الأمنية، شرح منظومة إتحاف البرية "بتحرير الشاطبية". 7- البهجة المرضية، في شرح الدرة المضية. 8- تذكرة الإخوان، في بيان أحكام رواية حفص بن سليمان. 9- تقريب النفع، في القراءات السبع. 10- الجوهر المكنون، شرح رسالة قالون. 11- رسالة الضاد. 12- رسالة قالون. 13- سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين. 14- شرح رسالة قالون. 15- الشرح الصغير، أو حاشية على تحفة الأطفال. 16- صريح النص، في بيان الكلمات المختلف فيها عن حفص. 17- الفرائد المدخرة، شرح الفوائد المعتبرة، في قراءات الأربعة الذين بعد العشرة. 18- الفوائد المهذبة، في بيان خلف حفص من طريق الطيبة. 19- الفرائد المرتبة، على الفوائد المهذبة، في بيان خلف حفص من طريق الطيبة. 20- قطف الزهر من القراءات العشر. 21- القول الأصدق، في بيان ما خالف فيه الأصبهاني الأزرق. 22- القول المعتبر في الأوجه التي بين السور. 23- المطلوب، في بيان الكلمات المختلف فيها عن أبي يعقوب. 24- منحة ذي الجلال، في شرح تحفة الأطفال. 25- هداية المريد، إلى رواية أبي سعيد المعروف بورش من طريق القصيد. 26- إتحاف المريد، بشرح فتح المجيد، في قراءة حمزة من طريق القصيد. 27- إرشاد الإخوان، إلى شرح مورد الظمآن، في رسم وضبط القرآن. 28- الأقوال المعربة، عن مقاصد الطيبة، في القراءات العشر. 29- أسرار المطلوب، في بيان الكلمات المختلف بها عن أبي يعقوب. 30- إنشاد الشريد، من معاني القصيد، في القراءات السبع. 31- البدر المنير، في قراءة ابن كثير. 32- تنقيح التحرير. 33- جميل النظم في علمي الابتداء والختم. 34- الدرر الفاخرة، في أسانيد القراءات المتواترة. 35- الدر النظيم، شرح فتح الكريم، في تحرير أوجه القرآن الحكيم، من طريقة الطيبة. 36- عُكاز القاري، في تراجم شيوخ المقاري. 37- فتح الكريم المنان، في آداب حملة القُرآن. 38- قطف الزَّهْر، من ناظمة الزُّهْر في عد الآي (علم الفواصل). 39- مختصر بلوغ الأمنية، في شرح إتحاف البرية، في تحرير الشاطبية. 40- مفردة اليزيدي. 41- المقدمة في علوم القرآن. 42- نظم ما خالف فيه قالون ورشًا، من طريق الحرز. 43- النور الساطع، في قراءة الإمام نافع. 44- نور العصر، في تاريخ رجال النشر.
سير أعلام مسند الإمام [14] أبو هريرة رضي الله عنه (الباسط رداءه لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) • إنه الصحابي الجليل سيد الحُفَّاظ، والإمام الفقيه المجتهد، أبو هريرة الدوسي اليماني -رضي الله عنه- الذي روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين، وبلغت مروياته أكثر من خمسة آلاف حديث، من بركة دعائه صلى الله عليه وسلم له. • كان مولده رضي الله عنه سنة واحد وعشرين قبل الهجرة، وأسلم في السنة السابعة من الهجرة في غزوة خيبر، وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. • قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: (قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال صلى الله عليه وسلم: "ابسط رداءك" فبسطتُه، قال: فغرف بيديه، ثم قال: "ضُمَّه"، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده). نعم فقد غرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيديه الكريمتين (ذلك إشارة)، ثم أمره أن يضمَّه إلى صدره، ففعل أبو هريرة رضي الله عنه ذلك، فما نسي شيئًا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. • اختُلِف في اسمه على أقوال: أرجحها عبدالرحمن بن صخر، ويُقال: كان في الجاهلية اسمه عبد شمس، أبو الأسود، فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدالله، وقد كني بهِرَّة كان يلعب بها، قال: (وجدتها، فأخذتها في كمِّي، فكُنيت بذلك). وقد غلبت عليه كنيته. وأمُّه هي الصحابية الجليلة السيدة ميمونة بنت صبيح رضي الله عنها. من مناقبه رضي الله عنه: فقد روى مسلم وأحمد رحمهما الله عن أبي كثير يزيد بن عبدالرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: والله ما خلق الله مؤمنًا يسمع بي ولا يراني إلَّا أحبَّني، قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى عليَّ، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهْدِ أمَّ أبي هريرة"، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مُجافٌ، فسمِعَت أمي خَشْف قَدَمَيَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خَضْخَضة الماء، قال: فاغتسلتْ ولبستْ درعَها وعَجِلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمَّ أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادعُ الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين» فما خلقٌ مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبَّني. • وروى ابن المبارك أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يُبكيك؟ قال: ما أبكي على دُنْياكم هذه، ولكن على بُعْد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطة على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي؟ • وروي عن ابن سعد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه دخل على أبي هريرة وهو مريض، فقال: اللهم اشفِ أبا هريرة، فقال أبو هريرة: اللهم لا ترجعني، قال: فأعادها مرتين، فقال له أبو هريرة: يا أبا سلمة، إن استطعت أن تموت فمت، فو الذي نفس أبي هريرة بيده، ليوشكنَّ أن يأتي على العلماء زمن يكون الموت أحبَّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر، أو ليوشكن أن يأتي على الناس زمان يأتي الرجل قبر المسلم فيقول: وددتُ أني صاحب هذا القبر. وروى أيضًا مالك عن المقبري قال: قال أبو هريرة في مرضه الذي مات فيه: "اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي". ومات رضي الله عنه سنة سبع وخمسين للهجرة عن ثمانٍ وسبعين سنة، وعاش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم 47 عامًا داعيًا إلى الله، معلمًا للقرآن والسُّنَّة، عاملًا بعلمه، مجتهدًا في عبادة الله ذكرًا وصلاةً وصيامًا وقراءةً للقرآن وتعليمًا، فرحمه الله ورضي عنه، وجزاه عن المسلمين خيرًا بما حفظ من سنة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم. ولنا هنا وقفة: لقد كذب الطاعون في أبي هريرة رضي الله عنه، فقد شهد الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأهل العلم بأبي هريرة رضي الله عنه. وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة: إن الذي يتكلَّم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار إما معطل جهمي، وإما خارجي، أو قدري اعتزل الإسلام وأهله، وكفَّر أهل الإسلام، أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانِّه. اعلم أخي الكريم أنه وجب الدفاع عن الصحابة؛ لأنهم نقلة الشريعة وأمناؤها فإسقاطهم إسقاط للشرع. نسأل الله أن يوفقنا لاتِّباع سبيل المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وجميع الآل والأصحاب، ومَن اتَّبَعهم بإحسان إلى يوم الدين [1] . [1] المراجع: صحيح البخاري/ صحيح مسلم/ مسند الإمام أحمد بن حنبل/ سير أعلام النبلاء/ التاريخ الكبير/ تاريخ دمشق/ الإصابة في تمييز الصحابة.
العلاقة بين عالم الأفكار والواقع إن عالم الأفكار مستوحًى تمامًا من عالمنا الواقعي، واستلهام ما يحتاجه من إمكانيات وتقنيات وغيرها؛ لخدمة المجتمع المدني والسياسي. إن دراسة الواقع بعناية، والتدقيق في مجرياته، مستعينًا بفَهم التاريخ للأمم السابقة هي الوصول إلى عالم الأفكار الجديدة، وتمحيصها بقابليتها ومطابقتها للواقع. إن الأفكار الجديدة التي تمثِّل صرحًا شامخًا في عالم التطور والارتقاء المعرفي ليست منظومة من الخيال، ولا تمتُّ للخيال بأي صلة، قد يظن البعض أن الأفكار الجديدة مستلهَمة من الخيال والتحليق بعيدًا عن الواقع، وهذا خطأ شائع بين الناس، ومغلوطة علمية في فَهم الناس حتى المثقفين. إن عالم الخيال لا يعطي الصورة المناسبة للواقع، فضلًا عن تطبيقه في حياتنا، فهناك فرق شاسع بين واقعنا المعاصر والأفكار الجديدة الخيالية، فكل ما تمَّ تطبيقه من أفكار جديدة باعتقاد البعض أنها خيالية هي مستوحاة من تجارب حيَّة في الواقع مثل تجربة الطيران، كانت في بدايتها تجارب واقعية على أرض الواقع، حتى ارتقت إلى صنع الطائرة، وكذلك صنع النووي كان عبارة عن تجارب كيميائية موادها مستوحاة من الطبيعة في أرض الواقع، وتفاعلاتها الكيميائية الواقعية، أدى إلى صنع النووي. يمكننا القول: إن الأفكار الخيالية هي موجودة في الواقع تحت مِظلَّة غامضة يكتشفها الخبراء، ويعدون جزئياتها لتكون موادَّ صالحةً في أرض الواقع؛ لتكون صرحًا علميًّا مرموقًا، يعتقده البعض من الخيال العلمي، وهو تقدم علمي واقعي نابعةٌ جذوره من الواقع. غرضي من هذا المقال تسخير الجهود العلمية في كشف المزيد من الأفكار الجديدة التي لها صلة بالتقدم المجتمعي في أرض الواقع، والبحث عنها، وإجراء التجارب على جزئيات الواقع، ومعرفة مدى ملاءمتها للواقع من عدمه. إننا في حظٍّ سعيد في هذا الزمان؛ حيث إننا موعودون باكتشافات علمية تسعى إلى راحة المجتمع وخدمته؛ حيث إن كل عناصر التميُّز والارتقاء موجودة ومتكاملة في عصرنا هذا، من مواد طبيعية، وتقنيات علمية، وخبراء فنيين متخصصين. وقد ذكرت في كتابي الجديد " العبقرية في ميزان الإسلام " نقطة مهمة؛ وهي: أن كل تقدم علمي واكتشاف جديد يعتبر عبقرية فذَّة، حتى لو كان بسيطًا؛ لأن البعض يظن أن العبقرية تتمخَّض في الاكتشافات العظيمة، ونسيان الاكتشافات البسيطة التي أثَّرت في تقديم عَجَلَةِ العصر لاكتشافات عظيمة. هذا المقال تنوير للبصائر وخدمة جليلة لإخواني الذين لهم اهتمام كبير، وهِمَّة عالية في الارتقاء المجتمعي على الصعيد الدعوي والخيري، فهو مقال دعويٌّ لاستلهام أفكار جديدة لخدمة ديننا الإسلامي، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، ونفع العالم بتقدمنا العلمي. والله أسأل القبول لي ولكم في خدمة دينه، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الاستشراق والقرآن الكريم إدراك الإعجاز تعرف كثير من المستشرقين الأوائل على النص القرآني من خلال ترجمة المستشرقين أنفسهم لمعانيه إلى اللغات الأوروبية، التي اعتمد لاحقها على سابقها، مما كان سببًا من أسباب الالتِفات عن الإعجاز في القرآن الكريم، ويُمكن القول: إنه مَن تعرَّض لنص القرآن الكريم من المستشرقين والعلماء الغربيين بلغته العربية كانت له مواقف أكثر نزاهةً ممن تعرَّضوا للنص القرآني مترجمًا من مستشرقين. الذين تعرَّضوا للقرآن الكريم من مُنطلَق أدبيٍّ كانوا أكثر تركيزًا على إعجاز القرآن الكريم، ولا تكاد دراسات المستشرقين عن أدب العصر الجاهلي تخلو من التعرُّض للقرآن الكريم، على اعتبار أن القرآن الكريم مُعجز بلاغةً كما أنه معجز من نواح أخرى مختلفة [1] . لا يتوسَّع هذا البحث للحديث عن الإعجاز نفسه، فمنذ أن درس المسلمون الإعجاز البياني في القرآن الكريم منذ علي بن عيسى الرماني الإخشيدي الوراق (276 - 384هـ) في كتابه: الجامع لعلم القرآن، وحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي "الخطابي" (319 - 388هـ) في كتابه: إعجاز القرآن، ومحمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاني (338 - 403هـ)، في كتابه: إعجاز القرآن، والإنتاج العلمي في هذا المجال يزداد مع الزمن [2] . يدخل في ذلك الالتفات إلى الوقفات العلمية الكونية القائمة، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية وقت نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تلك الحقائق التي تحقَّق بعضها بعد نزول الوحي، أو تلك التي لا تزال تخضع للاكتشاف المتواصِل مع التقدم العلمي والتقاني. هذا الالتفات عن هذا الجانب الحيوي في كتاب الله تعالى أسهم في ضعف فهم الإسلام، أو في سوء فهمه من قبل الغربيين، مما كان له تأثيره على الإقبال على هذا الدين، الذي يقوم على المعلومة الشرعية الصحيحة. تنطلِق هذه الوقفة من الإيمان المُطلق بأن هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى، وأن هذا الكون الفسيح بمخلوقاته وبماضيه وبحاضره وبمستقبله هو خلق الله، ومِن ثمَّ فمِن المتحقِّق أن يكون هذا الكتاب العزيز شاهدًا من شواهد الإعجاز في هذا الكون. من سمات الإعجاز في القرآن الكريم إعجازه العلمي، بالمفهوم العلمي العام الذي لا يقتصر على العلوم التطبيقية والبحتة؛ إذ لا بد من التوكيد على توسيع رقعة المفهوم العلمي، من حيث كونه إعجازًا قرآنيًّا ليشمل السمات العلمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والتربوية، التي جاءت إشارات لها في كتاب الله تعالى، دون الاقتصار فقط على العلوم التطبيقية (التجريبية) والبحتة. يختلف التفسير العلمي للقرآن الكريم عن الإعجاز العلمي لكتاب الله؛ إذ إن التفسير العلمي "هو الكشف عن معاني الآية في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية، أما الإعجاز العلمي فهو: إخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرًا، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم" [3] . تعالج هذه الصفحات موقف بعض المستشرقين من الإعجاز في القرآن الكريم، مع التركيز على نقد جهود المستشرقين في التعاطي مع القرآن الكريم بصفته وحيًا منزلًا على سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، بما في ذلك نقد جهود هؤلاء المستشرقين في مصدرية القرآن الكريم، من حيث نزوله وحيًا من عند الله تعالى، في مقابل كونه تأليفًا وتجميعًا من رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وأعانه عليه قوم آخرون. من هذا المنطلَق تتلمس هذه الوقفة ردود المستشرقين والعلماء الأوروبيين المعاصرين على المستشرقين الأوائل في قولهم بأن القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم، ومِن ثمَّ تُفضي هذه الردود إلى الالتفات إلى الجوانب الإعجازية في كتاب الله تعالى [4] . وهذه ديبرا بوتر، الصحفية الأمريكية التي اعتنقت الإسلام سنة 1400هـ / 1980م تقول: "كيف استطاع محمد الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟! لا بدَّ إذًا أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل" [5] . واشتهر الطبيب الفرنسي موريس بوكاي بوقفاته الموضوعية العلمية مع الكتب السماوية، وخرج من دراسته هذه بعدد من النتائج ضمَّنها كتابه المشهور "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم"، أو "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة"؛ إذ يقول: "كيف يمكن لإنسان - كان في بداية أمره أميًّا - ثم أصبح فضلًا عن ذلك سيد الأدب العربي على الإطلاق، أن يصرِّح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكوِّنها؛ وذلك دون أن يكشف تصريحُه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟" [6] . وكتب المستشرق الفرنسي إميل درمنغم عن حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال: "كان محمد، وهو البعيد من إنشاء القرآن وتأليفه ينتظر نزول الوحي أحيانًا على غير جدوى، فيألم من ذلك، كما رأينا في فصل آخر، ويود لو يأتيه الملَك متواترًا" [7] . وتقول يوجينا غيانة ستشيجفسكا الباحثة البولونية المعاصرة في كتابها "تاريخ الدولة الإسلامية": "إن القرآن الكريم مع أنه أُنزل على رجل عربي أمي نشأ في أمة أمِّيَّة، فقد جاء بقوانين لا يمكن أن يتعلمها الإنسان إلا في أرقى الجامعات، كما نجد في القرآن حقائق علميةً لم يعرفها العالم إلا بعد قرون طويلة" [8] . وهذه الليدي إفيلين كوبولد، النبيلة الإنجليزية التي أسلمت، تقول في كتابها "الحج إلى مكة"، أو "البحث عن الله": "وذكرت أيضًا ما جاء في القرآن عن خلق العالم، وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد خلق من كل نوع زوجين، وكيف أن العلم الحديث قد ذهب يؤيد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدت أجيالًا عديدة" [9] . وهذا المستشرق المعاصر القس مونتوجمري واط (1909 - 2006م) يعود عن أقواله السابقة التي ضمنها كتابه، محمد النبي ورجل الدولة من أن "الوحي لم يكن من عند الله، ولكنه كان من الخيال المبدع، وكانت الأفكار مختزنة في اللاوعي عند محمد، وهي أفكار حصلها من المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه قبل البعثة، ولم يكن جبريل إلا خيالًا نقل الأفكار من اللاوعي إلى الوعي، وكان محمد يسمي ذلك وحيًا" [10] . يرجع مونتجمري واط عن قوله هذا فيقول عن القرآن الكريم في كتابه المتأخر: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر: "إن القرآن ليس بأي حال من الأحوال كلام محمد، ولا هو نتاج تفكيره، إنما هو كلام الله وحده، قصد به مخاطبة محمد ومُعاصريه، ومن هنا فإن محمدًا ليس أكثر من "رسول" اختاره الله لحمل هذه الرسالة إلى أهل مكة أولًا، ثم لكلِّ العرب، ومن هنا فهو قرآن عربي مبين، وهناك إشارات في القرآن إلى أنه موجه للجنس البشري قاطبةً، وقد تأكَّد ذلك عمليًّا بانتشار الإسلام في العالم كله، وقَبِلَه بشر من كل الأجناس تقريبًا" [11] ، ويمضي مونتوجمري واط في توكيد ذلك في أكثر من موضع من كتابه سالف الذكر [12] . يذكر وحيد الدين خان في كتابه "الإسلام يتحدى" أن الآية الكريمة؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]، قرئت على الأستاذ جيمس جينز أستاذ الفلك في جامعة كامبردج، "فصرخ السير جيمس قائلًا: ماذا قلتَ؟ إنما يخشى اللهَ مِن عباده العلماء؟ مدهش! وغريب، وعجيب جدًّا! إن الأمر الذي كشفتْ عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، مَن أنبأ محمدًا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله. ويستطرد السير جيمس جينز قائلًا: لقد كان محمد أميًّا، ولا يُمكنه أن يكشف عن هذا السرِّ بنفسه، ولكن "الله" هو الذي أخبره بهذا السر، مدهش! وغريب وعجيب جدًّا" [13] . يقول إبراهيم خليل أحمد، وكان قسًّا عمل على تنصير المسلمين فاهتدى: "القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه؛ من طبٍّ، وفلك، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانون، واجتماع، وتاريخ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف" [14] . وهذا ميلر بروز أستاذ الفقه الديني الإنجيلي بجامعة بيل يقول: "إنه ليس هناك شيء لا ديني في تزايد سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية، هناك آية في القرآن يمكن أن يستنتج منها أنه لعلَّ مِن أهداف خلق المجموعة الشمسيَّة لفت نظر الإنسان لكي يدرس علم الفلك ويستخدمه في حياته؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 5]، وكثيرًا ما يشير القرآن إلى إخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره إحدى الآيات التي تبعث على الشكر والإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 12، 13]، ويذكر القرآن لا تسخير الحيوان واستخدامه فحسب، ولكن يذكر السفن أيضًا، فإذا كان الجمل والسفينة من نعم الله العظيمة، أفلا يصدق هذا أكثر على سكة الحديد والسيارة والطائرة؟" [15] . [1] انظر: عبدالرحمن بدوي. دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي. ط 2، بيروت: دار العلم للملايين، 1986م، 327 ص. وتعرَّض مرجليوث للإعجاز البياني في مقالته: أصول الشعر العربي، كما تعرَّض له جوستاف فون جرونباوم في: دراسات في الأدب العربي، وله، كذلك، نقد الشعر في إعجاز القرآن للباقلَّاني، وأنجليكا نويفرت في مقالتها: طريقة الباقلَّاني في إظهار إعجاز القرآن. [2] انظر: مقدِّمة المحقِّق السيِّد أحمد صقر، ص 5 - 95، في: الباقلَّاني، أبو بكر محمَّد ابن الطيِّب. إعجاز القرآن / تحقيق السيِّد أحمد صقر، ط 5، القاهرة: دار المعارف، 1981م، 395 ص. [3] انظر: عبدالله بن الزبير بن عبدالرحمن. تفسير القرآن الكريم: مصادره واتَّجاهاته، مكَّة المكرَّمة: رابطة العالم الإسلامي، 1423هـ. ص 139، (سلسلة دعوة الحقِّ؛ 202). [4] الاستشهاد بالأقوال الإيجابية للمستشرقين والأوروبيين حول طبيعة القرآن الكريم لا يتنافى مع ما صدر عن هؤلاء المستشرقين والعلماء الأوروبيين من وقفات سلبية للمستشرق أو العالِم الأوروبي نفسه تجاه كتاب الله تعالى وسنة رسوله محَمَّد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ودين الله الإسلام. كما لا يتنافى مع الملحوظات على النصِّ المنقول نفسه، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ معظم النقول جاءت عمَّن لا يؤمنون بهذا الدين، فلا تتوقَّع منهم الإيجابية التامَّة. [5] نقلًا عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام، الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، 1412 هـ / 1992 م، ص 55. [6] انظر: موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة، ط 4، القاهرة: دار المعارف، 1977 م، ص 150. [7] انظر: إميل درمنغم. حياة محَمَّد / نقله إلى العربية عادل زعيتر، ط 2. ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر، 1988 م، ص 277. [8] نقلًا عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام؛ مرجع سابق، ص 68. [9] نقلًا عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام، المرجع السابق، ص 81. [10] انظر: رجب البنَّا. المنصفون للإسلام في الغرب، القاهرة: دار المعارف، 2005، ص 79. [11] انظر: مُحمَّد عمارة: الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء، القاهرة: دار الشروق، 1425هـ / 2005م، ص 162. [12] انظر: مونتجمري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر / ترجمة عبدالرحمن عبدالله الشيخ، القاهرة: مكتبة الأسرة (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م، نقلًا عن مُحمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية؛ مرجع سابق، ص 159 - 178. [13] انظر: وحيد الدين خان: الإسلام يتحدَّى / ترجمة ظفر الإسلام خان، مراجعة وتقديم عبدالصبور شاهين، ط 8، القاهرة: المختار الإسلامي، 1984 م، ص 133 - 134. [14] انظر: إبراهيم خليل أحمد. محَمَّد في التوراة والإنجيل والقرآن، ط 2، القاهرة: مكتبة الوعي العربي، 1965 م، ص 47 - 48. [15] انظر: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام؛ مرجع سابق، ص 51.
قريش تكتفي بما تحقق لها في أُحد جمعت قريش جيشها وأوقفت القتال مكتفية بما حققته من نصر، مع خشيتها من أن يأتي مدد من المدينة فيقلب الموازين، على أن تعيد الكرة ثانية فيما بعد فتُجهِز على المسلمين، واكتفت الآن في رد اعتبارها وكسر الخوف الذي كان قد سيطر عليهم بعد غزوة بدر، فوقف أبو سفيان أسفل الجبل والمسلمون في أعلاه، قال: أفي القوم محمد؟ كررها ثلاثًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا تجيبوه ))، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ كررها ثلاثًا، أفي القوم ابن الخطاب؟ كررها ثلاثًا، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فقال عمر: كذبت أي عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال: اعلُ هبلُ، اعلُ هبلُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قولوا له: الله أعلى وأجلُّ ))، فقال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قولوا له: الله مولانا، ولا مولى لكم ))، فقال أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك، فقال: أنت أصدق من ابن قمئة، ثم قال: هذا بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلًا، والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت، علمًا بأن الحليس بن زبان رأى أبا سفيان وهو يضرب شدق حمزة بزج الرمح ويقول له: ذُقْ عُقَقُ، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. ثم انسحب أبو سفيان، وهو يقول: إن موعدكم العام المقبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (( تابع القوم، فإن جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يقصدون مكة، وإن ركبوا الخيل فسيقصدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأناجزنهم ))، فسار عليٌّ في إثرهم فوجدهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل.
كيف دافع كتاب "الإجابة عن صورة الصحابة؟ بقلم يحيى خوخة باحث في البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب تشكل صورة الصحابة محل خلاف ونزاع في تاريخ الفكر الإسلامي منذ تشكله إلى يوم الناس هذا؛ نظرًا للوظائف العلمية والعقدية والطائفية الحاسمة التي تضطلع بها تلكم الصورة في الساحة الفكرية الإسلامية؛ فطائفة تنزل الصحابة الكرام منزلة التنزيه؛ لكونهم الثمار المباشرة لتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاملي رسالته وسنته، فهم - حسب هذه الفرقة-عدول خيار، وأنهم من أهل الجنان جميعًا، وطائفة أخرى تصوغ هذه الصورة صياغة شك، محاولة إظهار ما يعتري الصحابة من نقائص وزلات وهنات تُخرجهم من دائرة العدول إلى دائرة الاتهام، سالبة منهم بذلك مشروعية حملهم الرسالة النبوية الشريفة. ولكل طائفة من الطائفتين سواء أتعلق الأمر بالمتقدمين أم بالمتأخرين حججها التي تدافع بها عن خطابها، وبذلك نكون أمام خطابين سجاليين متعارضين؛ خطاب ينتصر لعدالة الصحابة ونزاهتهم، وخطاب يتهم عدالتهم وجنابهم. فارتباطًا بهذه القضية نقف عند كتاب من الكتب المعاصرة الحصيفة التي ملأت مساحة مهمة داخل هذا المقام السجالي وفق بنية حجاجية استدلالية متينة، تدافع مجتمعة عن عدالة الصحابة من خلال تفنيد الشبهات المتعلقة بمخالفاتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو الاعتراض عليه، أو رده، وترك امتثاله، أو التردد فيه، أو مراجعته فيما سبيله الامتثال من غير سؤال، أو إساءة الأدب معه، أو مع غيره في حضرته، أو الشك في خبره، أو غير ذلك مما يعده بعض الطوائف قواصم وبوائق يجرحون بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينالون منهم، ويطعنون في عدالتهم، فكل ذلك - حسب المؤلف - له تخريجات مسلمة، وتأويلات حسنة. فما هي الهوية الحجاجية التي تشكل الملامح الكبرى لكتاب " الإجابة عما أُشكل من مخالفات الصحابة "؟! دعوى الكتاب ومنهج الاستدلا ل: أسس الشيخ العلامة محمد أحناش الغماري كتابه ( الإجابة عما أُشكِل من مخالفات الصحابة ) على بنية حجاجية متماسكة ومنسجمة، تؤدي وظيفتها الإقناعية بتفاعل أجزائها وتضافرها أداءً تأثيريًّا مباشرًا؛ حيث تجده خلال فصول الكتاب كلها يستدعي الحديث أو الخبر أو الواقعة التي يأولها الطرف المشكك في صورة الصحابة أو الطاعن فيها بكونها مخالفة غير محمودة للنبي صلى الله عليه وسلم، ناقلًا إياها من مصادر السنة النبوية والسيرة الشريفة نقلًا حرفيًّا من غير تغيير أو تصرف، مع الإحالة الدقيقة للمصدر، ثم يشرع الشيخ في صياغة تأويل ينتصر لصورة الصحابة، ويدحض التأويلات المشككة فيها، الأمر الذي استدعى جملة من الآليات الحجاجية والاستراتيجيات التأثيرية قصد تحقيق دعوى الخطاب. طبيعة المتلقي في كتاب الإجابة: يتجه الكتاب بخطابه الحجاجي نحو صنفين من المتلقين: فأما الصنف الأول فداخل في دائرة أهل السنة والجماعة، لكنه ينظر لأخبار المخالفات نظرة غير المتأمل الرصين، حسب المؤلف نفسه، فتكون المخالفات بالنسبة إليه "شيئًا من الجفاء أو الجهل أو سوء الأدب" أمام جناب النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم. وأما الصنف الثاني فطوائف خارجة عن دائرة أهل السنة والجماعة، حسب المؤلف أيضًا "يجعلون من المخالفات بابًا للتجريح بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنيل منهم، والطعن في عدالتهم"، ولا سيما تلكم الطوائف التي تأسست عقائدها على تجريح فرقة واسعة من صحابة النبي مع سَبِّهم ولعنهم رضي الله عنهم. نحو الهوية الحجاجية لكتاب الإجابة: التعريف بالصحابة بحث عن المشترك داخل الخطاب: انطلقت "الإجابة" في رحلتها صوب الدفاع عن صورة الصحابة الكرام من محطة التعريف بمفهوم "الصحابة"، قصد تأسيس موضع مشترك، يلتقي فيه المرسل بالمتلقي؛ بحيث يقع اتفاق بينهما حول الذي يجعل من الصحابي صحابيًّا، وبذلك يتحدد الملمح الأكبر المحدد لصورة الصحابة؛ ألا وهو الصحابي نفسه، فلقد نجح المؤلف في تحديد مفهوم دقيق ومتأمل استقاه من جملة من تعاريف القدماء، فبناءً على ذلك، يكون الصحابي، حسب صاحب الإجابة: "من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته، بحيث يكون مسلمًا، فإذا ارتدَّ عن الإسلام سقطت عنه صفة الصُّحْبة، وأما إذا ارتدَّ ثم عاد، سواء اجْتمعَ به مرة أخرى أم لم يجتمع به فلم يفقد بذلك تلكم الصفة". لم يكن تعريف الصحابة في مستهل هذا الكتاب تعريفًا معياريًّا وصفيًّا، يقصد به المؤلف نقل معرفة جاهزة للقارئ؛ بل إنه تعريف يروم "بناء واقع قصد المحاججة" بلغة فيليب بروطون، فالصحابة الذين تدافع "الإجابة" عن صورتهم هم الداخلون في دائرة التعريف "المنظم للعالم"؛ لكي لا يسمح المؤلفُ بإقحام أشخاص من خارج هذه الدائرة إقحامًا مغالطًا موجهًا بغية تمهيد المُقحِم الطريق لنفسه لتكسير صورة الصحابة، ولا سيما أن هذا الإقحام قد ينتقي شخصيات تمثل قيمًا رذيلة تدنس صورة الصحابة الفاضلة. الحجاج بالقيم: المخالفة عين الموافقة : امتناع أبي بكر عن الإمامة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم: يمثل امتناع أبي بكر الصديق عن الصلاة إمامًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخالفات التي يعدها أصحاب التشكيك - حسب المؤلف - مدخلًا من مداخل النيل من الصورة السامية للصحابي أبي بكر، لكن هذه المخالفة "ليست لأمره صلى الله عليه وسلم؛ بل هي من الأدب الرفيع الذي لا يعرفه إلا الأكابر من الصلحاء، فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه أن الأمر لا يلزمه، ولا يجب امتثاله؛ وإنما هو محض التكرم من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم لصاحبه ورفيق عمره، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بتصرفاته صلى الله عليه وسلم، فضلًا عن الصديق الذي هو من أعرف الناس بأحوال النبي" [1] ، ففعل المخالفة - كما أوَّله الشيخ - انطلق من خلفية قيمية رفيعة لا يدركها الذين نظروا إلى حدث الامتناع على ظاهره؛ بل امتناعه دليل جلي على كمال تعظيم الصديق للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما يعزز المؤلف دفاعه عن صورة الصديق بالإشارة إلى كون فعل الامتناع في هذا السياق يتأسس على قانون فقهي صريح يُقر بأن "الصلاة بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح بدونه ما لم توجد قرينة الإجازة من جانبه" [2] . اعتراض عمر بن الخطاب وغيره على كتابة الكتاب عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم تحصينًا للإسلام: تثبت "الإجابة" أن المخالفة قد تكون صادرة عن حرص شديد على تحصين دين الإسلام من التحريف، ولعل خير مثال لذلك: اعتراض عمر بن الخطاب وغيره على كتابة كتاب أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته لأصحابه، وذلك بقوله: "إن رسول الله قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله"؛ حيث اعتمد المؤلف في هذا المقام على "حجة السلطة العلمية" التي نزلت مخالفة عمر منزلة المجتهد المحصن لجوهر الإسلام، وذلك تحديدًا الذي قاله ابن بطال مستدلًّا به صاحب الإجابة: "كان عمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذي أكمل الله فيه الدين، ولم يكتفِ بذلك ابن عباس" [3] ، بالإضافة إلى قول النووي الذي قوَّى به المؤلف استدلاله الحجاجي المنافح عن صورة عمر، حيث قال: "اتفق العلماء على أن قول عمر حين قال: حسبنا كتاب الله، من قوة فقهه، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وأراد ألا ينسد باب الاجتهاد على العلماء". على سبيل الختم: خلاصة وآفاق: إن الناظر في إجابات الشيخ العلامة محمد أحناش الغماري في كتابه الإجابة عما أُشكل من مخالفات الصحابة على مجمل المخالفات الواردة في هذا الكتاب يجدها إجابات تكشف "المضمر الأخلاقي" الذي ينطلق منه الصحابة الكرام، فيصدر عنهم جراء ذلك تصرف أو فعل أو رأي يراه غيرُ المنتبه لذلكم المضمر الخفي المذكور مخالفة شنيعة، ليثبت المؤلف، في مقابل ذلك أن المخالفة التي يعدها "أعداء الصحابة" نقيصةً تحط من صورتهم دليل على كمال أخلاقهم، وحرصهم الشديد على عدم مخالفة القوانين الأخلافية والشرعية التي سَنَّها النبي صلى الله عليه وسلم، بعدما يطرأ طارئ يستوجب مخالفة بعض فروعها؛ بحيث تكون تلكم المخالفة غير داخلة في باب سوء التأدب مع حضرته صلى الله عليه وسلم. لقد شيَّد المؤلف الشيخ محمد أحناش الغماري صرحًا حجاجيًّا متماسكًا خصصه للذود عن صورة الصحابة الكرام، انطلاقًا من التأويل العلمي الموجه لمخالفاتهم التي اتخذها أعداؤهم والمشككون في عدالتهم منفذًا من منافذ الطعن في هذه الصورة، وهو صرح مدعم بحجج إقناعية غنية ومختلفة، لكن الحجاج بالاستناد إلى القيم شكل العنصر المهيمن على الخطاب، وهو - حسب صاحب "المصنف في الحجاج"- ينقسم إلى: "الججاج بالقيم المجردة من قبل العدل والصدق، وبين القيم الملموسة التي ترتبط بكائن حي أو مجموعة محددة، أو شيء خاص" [4] ؛ ولذلك عملت تلكم الحجج وفق نسق منسجم على إثبات اندراج تلكم المخالفات ضمن باب الالتزام والإخلاص والوفاء والاقتداء والحرص على تحصين الإسلام من كل شائبة قد تشوبه وهو في طور تشكله. ولا يسعنا في آخر هذه الأسطر التعريفية التي لا ترتقي إلى درجة القراءة المختصرة للكتاب، فضلًا عن أن تكون تحليلًا له، إلا أن ندعوَ الباحثين والمتخصصين في قضايا تحليل الخطاب والفكر الإسلامي إلى الإقبال على هذا الكتاب الغني إقبال الدراسة والتحليل؛ لما فيه من مساحة فكرية تأويلية متميزة اشتغلت على قضية مركزية من قضايا تاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي اشتغالًا مثمرًا وحصيفًا. [1] محمد أحناش الغماري، الإجابة عما أشكل عن مخالفات الصحابة الصحابة، ص 101. [2] نفسه، نقلًا عن فيض الباري للكشميري، 105. [3] نفسه، 124. [4] شاييم بيرلمان ولوسي أولبرخت تيتكا، المصنف في الحجاج، الخطابة الجديدة، ترجمة: محمد الوالي ص 175.
الهجرة وأثرها على الشباب المسلم الحمد لله الذي بسط لنا الأرض فجعلها مستقرًّا ومستودعًا، الحمد لله الذي جعل في الأرض مراغمًا كثيرًا وسَعَة، الحمد لله الذي وسَّع علينا في هذه الأرض ورزقنا من الطيبات ما لم يُؤتِ أحدًا من العالمين، وحثَّ عباده على السعي في طلب الرزق، الحمد لله الذي جعل الهجرة عبادةً يُتقرَّب بها إليه؛ أما بعد: فحديثنا في هذا المقال عن الهجرة وأهميتها في الإسلام، وشروطها وأنواعها وأحكامها؛ حيث تعد الهجرة من أبرز المشاكل التي لمسنا أثرها في عصرنا الحاضر، فقد انتشرت بشكل كبير في بلادنا العربية، فالكثير لا يعرفون متى تكون واجبة ومتي تكون محرَّمة، من هنا وجدتُ أهمية التطرق لموضوع الهجرة، والوقوف على أهم الأسباب والتداعيات التي تجعل الشباب يلجؤون للهجرة، والتحديات التي تواجههم؛ حيث يهدف هذا المقال إلى توضيح مفهوم الهجرة، وموقف الإسلام منها، ويذكر نماذجَ لبعض الأنبياء عليهم السلام الذين اضطروا للهجرة، ويبين متى تكون الهجرة مشروعة، وما أثر ذلك على الشباب، ثم نحاول أن نضع بعض الحلول للحدِّ من الهجرة. أولًا: الهجرة لغة: يعود لفظ الهجرة في جذوره إلى (الهاء والجيم والراء) ، ومن أبرز معانيها في المعاجم، هاجر، هاجر عن، هاجر من يهاجِر، مهاجرةً وهجرةً، فهو مهاجِر، والمفعول مهاجَر (للمتعدي) . 1- هاجر الشباب: خرجوا من بلدهم إلى بلد آخر: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 75]. 2- هاجر القومَ: تركهم وذهب إلى آخرين، "هاجر بلاده". 3- هاجر عن وطنه، هاجر من وطنه: تركه وخرج إلى غيره، "يهاجر العمال من بلادهم بحثًا عن العمل" [1] ، ومما سبق نجد أن المعنى اللغوي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعنى الاصطلاحي من حيث أن الهجرة تعني الخروج من الوطن الذي نشأ فيه إلى بلد آخر، وللتوضيح أكثر لا بد من الوقوف عند المعنى الاصطلاحي؛ فالهجرة اصطلاحًا: هي خروج الإنسان من وطنه الذي نشأ وترعرع فيه إلى بلد آخر؛ من أجل البحث عن الأمن أو الرزق، بقصد الاستقرار والإقامة فيه بصفة دائمة. أما موقف الإسلام من الهجرة، فقد أقرَّ الإسلام الهجرةَ في سبيل الله التي تكون من أجل محاربة الكفار، لا من أجل العيش معهم في أمصارهم؛ فقد ظهر ذلك جليًّا في آيات القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218]؛ قال أبو جعفر: "يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به، وبقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم" [ 2 ] . وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100]، فدلَّتِ الآية على ضرورة الهجرة والخروج من بلاد الكفار ومحاربتهم، وطلب العزة، أو للخروج من أرض ليست تحت حماية الإسلام إلى أرض فيها حكم الإسلام، وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى، إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال، ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قلَّ فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظَّت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مَظِنَّة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين، ففي كل هذه الأحوال فإن المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حِمى الناس إلى حمى الله تعالى، فإذا كان يترك بيته، وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما، وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه ينال إحدى الحسنيين: إما الظَّفَر بالسَّعَة والعزة، والمال، وإما الظَّفَر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق إلى الله؛ وهذا قد قال فيه سبحانه: ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100]؛ أي: فقد حقَّ له الأجر العظيم عند الله تعالى، وقد تفضَّل سبحانه، فاعتبر ذلك الأجر حقًّا عليه سبحانه؛ ولذا عبَّر بـ"على" في قوله: ﴿ عَلَى اللَّهِ ﴾، ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنه صار وثيقة على الله تعالى، وفي ذلك كله تأكيدٌ لتحقق الأجر بهذه الهجرة [3] . قال الشيخ السعدي: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا؛ وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الأُلْفة، وفقرًا بعد الغِنى، وذُلًّا بعد العز، وشدة بعد الرخاء، والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أَظْهُرِ المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك؛ لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يُفتَن عن دينه، خصوصًا إن كان مستضعفًا، فإذا هاجر في سبيل الله تمكَّن من إقامة دين الله، وجهاد أعداء الله، ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى، واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم لما هاجروا في سبيل الله، وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم، وحصل لهم من الإيمان التام، والجهاد العظيم، والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل مَن فَعَلَ فِعْلَهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة" [ 4] ، والهجرة كانت كذلك من أعظم عوامل تمكين دعوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ انتقلت الجماعة المؤمنة حين هاجرت إلى المدينة إلى مرحلة الظهور والتجمُّع، ونزول الشرائع والأحكام عليها، والجهاد وقوة الشوكة والتمكين، والهجرة هي طريقة للتخلص من أذى الأعداء وكيدهم في الأصل، بيد أنها كذلك عامل الظهور والاستقرار والانطلاق لكل دعوة حقٍّ، فهي ثابتة في الأمة لا تنقطع أبدًا، كما أنها عريقة في اقترانها بدعوة الحق منذ القدم، وأحيانًا لا تعدو أن تكون الهجرة مجرد النَّجاء، النجاء بالمؤمنين والفرار بدينهم من فتنة وعذاب الأعداء الحاقدين. وكان هذا جليًّا في قصة أصحاب الكهف، وخروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل من كيد فرعون [5] . كما بيَّن الله سبحانه وتعالى هجرةَ لوط وإبراهيم عليهما السلام؛ فقال تعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]. وهذا يدل على أن أهل الإيمان عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، إذا بلغت الدعوة إلى الله عز وجل غايتها بإقامة الحُجَّة على الخَلْقِ، وبلوغ الحق لكل مكلَّف، فبعد ذلك عليهم أن يفارقوا أهل الباطل، وأن يُنْشِئوا مجتمعًا صالحًا يعيشون فيه، فالله عز وجل يبدلهم بعلاقتهم التي ضحُّوا بها في سبيله خيرًا منها، ويعوِّضهم العلاقة الوطيدة في الله عز وجل، التي بها يجد أهل الإيمان بَرَدَ الوُدِّ، بدلًا من جوٍّ مليء بالحقد والكراهية، والحسد والبغضاء، وهذه العلاقة لا بد أن نحرص عليها، ولا بد أن تكون قوية متينة بين أهل الإيمان، فإذا استجابوا جميعًا لدعوة الحق، فلا بد أن نستثمر هذه العلاقة، وأن نقوِّيَ روابط المحبة بين أهل الإيمان، والاجتماع على طاعته سبحانه وتعالى، وقد تكون الهجرة واجبة لمن لا يستطيع أن يقيم دينه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمره الله سبحانه وتعالى بالهجرة من مكة إلى المدينة، حينما ضيَّق عليه كفار قريش فلم يجد إلا الهجرة سبيلًا للنجاة ولنشر دعوته، فلجأ إلى المدينة؛ حيث وجد من يناصره ويؤازره وينشر دعوته، فكانت هجرته هجرةً من دار الشرك إلى دار الإسلام، وكهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة، فهذه هجرة من دار الخوف إلى دار الأمن، أو تكون هجرة ما نهى الله عنه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) [6] ، فهذه أنواع الهجرة المشروعة التي تُعَدُّ من الأعمال الصالحة؛ لأنها يُقصَد بها الله ورسوله، ويُؤجَر عليها، أما الهجرة التي لا تكون مشروعة هي التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، المتفق عليه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة يَنْكِحُها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ، فالحديث يدل على أن الهجرة المشروعة هي التي تكون ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وإعلاء دين الله التي ذكرناها سابقًا، أما من أراد الهجرة من أجل المال أو الزواج، فسوف يصرفه الله لذلك، فلْيَتَّقِ الله وليجدِّد نيته، ويجعلها خالصة لله تعالى، عندها سوف يجد كل ما يبحث عنه؛ فالحركة والسعي في الأرض لطلب الرزق الحلال ليس فيه حرج، وقد وعد الله من هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى بالرزق والإخلاف، لكن قد تكون هذه الهجرة محرَّمة، كالهجرة التي انعكس اتجاهها الآن، فبدلًا من أن تكون الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، أصبحنا نجد الشباب المسلمين يلهثون من أجل اللجوء إلى بلاد الكفر والاستقرار فيها، والذي يهاجر إلى بلد الكفار، فإنه يتبع هواه، ويعصي الله سبحانه وتعالى، إلا من كان عنده عذر استثنائي، لكن للأسف تجد الفئة الكبيرة من الناس ممن يهاجرون يطلبون عَرَضَ الحياة الدنيا، فلا يجدون بركةً في رزقهم؛ لأن في الغالب يكون رزقهم مشوبًا بالمحرَّمات والشُّبُهات، فمن المعلوم أن بلاد الكفار هي محل فتنة وضياع للدين، ومن الأمور التي تعين على الرزق الحلال كما ذكرها بعض العلماء: الاستغفار والتوبة بالقول والفعل، والتقوى، والتوكل، والتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، والإنفاق في سبيل الله تعالى، والإنفاق على أهل الخير سيما طلبة العلم الشرعي، والإحسان إلى الضعفاء، والمهاجرة في سبيل الله عز وجل، وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان، ابتغاء مرضاة الله تعالى وفق ما شرعه الله عز وجل، هذا وما عند الله لا يُنال بمعصيته، وإنما يُنال بطاعته؛ يقول عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126]. ومما سبق نستخلص شروطَ وجوب الهجرة؛ وهي أن يكون في بلد يغلب فيها حكم الكفر على الإسلام، وألَّا يستطيع المسلم إظهار دينه، وأن يقدر على الارتحال، فلا تجوز الإقامة في بلد يحال فيه بين المسلم وإظهاره شعائر الإسلام وإعلانها، فعلى من يستطيع الهجرة أن يهاجر منه إلى بلد يتمكن فيها من إقامة شعائر دين الإسلام وإعلانها، ويتم له التعاون مع المسلمين على البِرِّ والتقوى، ويكثُر به سواد المسلمين، ولن يُعدَم رزقًا؛ فإنه ﴿ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ومن بقِيَ في تلك الأماكن وأمثالها مما فيه حِجْر على المسلمين في إعلان شعائر دينه بعد قدرته على الهجرة منه فهو آثم [7 ] ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]. هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبِّخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: ﴿ فِيمَ كُنْتُمْ ﴾ [النساء: 97]؛ أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثَّرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم. ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النساء: 97]؛ أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة، وهم غير صادقين في ذلك؛ لأن الله وبَّخهم وتوعَّدهم، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة. ولهذا قالت لهم الملائكة: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾ [النساء: 97]، وهذا استفهام تقرير؛ أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له مُتَّسعًا وفُسْحَةً من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56]، قال الله عن هؤلاء الذين لا عذرَ لهم: ﴿ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97]، وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع. وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل من تُوفِّيَ فقد استكمل واستوفى ما قُدِّر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي"؛ فإنه يدل على ذلك؛ لأنه لو بقِيَ عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا [8] . أما دوافع الهجرة هي: تجنب إيذاء الأعداء والمشركين ليتمكن المؤمنون من وطن يؤدُّون فيه حق الله بحرية، والفرار بالنفس والسلامة من القتل، ولا يكون ذلك إلا بعد الصبر والتحمل كما صبر أنبياء الله عليهم السلام ما دفعهم إلى الهجرة؛ فسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كم تحمل من قومه، وكم صابر مع أبيه! إلى حدِّ أنهم جمعوا له الحطب، وأوقدوا له النيران، وألقَوه فيها، وهو صابر لم يفِرَّ، ويذكر ابن كثير وغيره أنهم حينما صعب عليهم إلقاءه في النار مباشرة لعجزهم وعدم استطاعتهم الدنو منها لشدة لهيبها، جاء الشيطان وأوحى إليهم بعمل المنجنيق، والمنجنيق يرمي بالثقل إلى مسافة بعيدة، إلى أن جِيء بإبراهيمَ ووُضِعَ في المنجنيق وهو صابر ومحتسب، فصبر وتحمَّل وقاوم إلى أقصى حدٍّ، فكانت نتيجة صبره ونتيجة اتكاله على الله: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]؛ كوني بردًا ومع البرد سلام؛ لأن البرد قد يقتل، فتأتي القدرة الإلهية وتسلب النار خاصية إحراقها التي تذيب الحجر وتصهر الحديد؛ لأن الذي خلق إبراهيم وخلق النار واحد، وهو الذي أعطاها قوة الإحراق واللهيب وهو الذي يسلبها منها، بعد هذا خرج هو وسارة وكانت قضيتهما طويلة. أيضًا سيدنا موسى عليه السلام، فإنه لما خرج إلى المدينة، وجد واحدًا من شيعته وآخر من عدوه يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته، فضربه فقتله، ثم خرج وقابل الرجل الصالح أو النبي شعيبًا، وتزوج ثم رجع، وجاء وكان من أمره أن الله سبحانه وتعالى في عودته يناديه ويناجيه ويبعثه إلى فرعون، فماذا كانت النتيجة؟ فرعون يذبح الأبناء، ويستحيي النساء من قبل، والجو جو قاتل، وجاء موسى بالآيات، ولكن فرعون كابر أمام تلك الآيات؛ ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾ [النمل: 14]، فما كان من موسى عليه السلام وبني إسرائيل وقد أدركهم الضغط والتعذيب والتشريد، والإيذاء من فرعون وجنوده، إلا أن أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج، فماذا كانت النتيجة؟ البحر أمامهم وفرعون يكاد يدركهم، فيقول أصحاب موسى: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، ولكن موسى موقِنٌ بالله، فقد خرج بأمر من الله، وهو يعلم بأن الله لن يتخلى عنه؛ ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي ﴾ [الشعراء: 62]، وما دام معه ربُّه، فلِمَ يخاف من فرعون؟ ولِمَ يخشى البحر؟ ﴿ سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]؛ أي: يرشدني ماذا أعمل؛ لأن قوة موسى أمام قوة فرعون ليست بشيء، فتأتي المعجزة والقدرة الإلهية فتتدخل، فأوحى ربك إلى موسى ﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]، ﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ﴾ [طه: 77]، الماء الرَّجْرَاج السيَّال، البحر المتلاطم، فيجمد الماء ويصير طرقًا، والأرض يابسة، وبنو إسرائيل كلهم اثنا عشر سبطًا، كل سبط لهم طريق مستقل يسيرون فيه، والطود الذي بين هذا الطريق وذاك الطريق فيه نوافذ حتى يطمئنَّ بعضهم على بعض، ولا يحدث قلق. إذًا: الرسل هاجروا، وما هاجروا إلا بعد أن أُوذُوا وصبروا، ولم يبقَ من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل، لكن إلى متى؟ فكانت هجرة المؤمنين هربًا من إيذاء المشركين. أيضًا من أسباب الهجرة ودوافعها في الإسلام: إيذاء المشركين للمؤمنين، وكلنا يعلم ما كان عليه بلال وصهيب وعمار وآل ياسر: ((صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)) . بلال يُؤتَى به في الصحراء في القائلة، في شدة الحر على الرَّمْضَاء، لا تقدر أنت أن تَمَسَّها بقدمك، ويُجرَّد هو ويُطرَح عليها، ويُؤتَى بصخرة حارَّة وتُلقى على بطنه، ويُقال له: ارجع عن دين محمد، فيقول: (أَحَدٌ أَحَدٌ) ، هذا يعني أن الإيمان إذا خالط القلوب فلا يمكن أن يُنزَع، ولا تقدر أن تُخْرِجه، ثم اشتدَّ إيذاء المشركين للمسلمين، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سلِم من إيذائهم؛ فقد كانوا يعتدون عليه، ويأتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويدافع عنه، وفي بعض المرات جاء أبو بكر يقول: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾ [غافر: 28]، فتوجهوا إلى أبي بكر وأخذوا يضربونه حتى صُرِع، وأُغمِيَ عليه من كثرة الضرب، كذلك حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة، وعندما يسجد يأتي أشقاهم ويقول: إن بني فلان نحروا جزورًا اليوم، فليذهب أحدكم ويأتي بسلا الجزور، ويضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وتأتي فاطمةُ فترفع الأذى عن كتفيه. إن إيذاء المشركين للمسلمين جعلهم يهاجرون، والإيذاء كما وقع على أفراد المسلمين، كذلك وقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخرَ ذلك الإيذاء التآمُرُ على قتله، فلم تكن الهجرة هروبًا بدون موجب، ولا خروجًا بدون صبر، بل تحملوا وصبروا إلى أقصى ما يمكن، فكانت الهجرة أفضلَ وسيلة للفرار بالدين ونصرته؛ حيث جاء الفرج والتمكين بعدها. إذًا: الهجرة من سُنَنِ الأنبياء، والهجرة سببها الإيذاء، وإذا كان المسلم يعيش في جو إيذاء وإرهاب، فإنه لن يستطيع أن يؤدي عبادة الله، فعليه أن يطلب موطنًا آخر يمكن أن يؤدي فيه حق الله بطمأنينة [ 9 ] . وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة تحدياتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية؛ حيث إن الهجرة من بلد إلى بلد تعتمد كثيرًا على الناحية الاقتصادية؛ لأن موارد البلد حركة أهلها، فإذا استقدمت أشخاصًا واستقبلت العديد من غير أبنائها كان ذلك على حساب مواردها، والعالم اليوم عند هجرة كل شعب ينزل به ضَيمٌ، ويضطر إلى الهجرة إلى جواره، أول ما يفكر فيه أهل البلد المضيف اقتصاداته وتأمين حاجيات المهاجرين؛ هذا أمر طبيعي، فكيف عالجت المدينة استقبال المهاجرين وموارد المدينة آنذاك أغلبها في يد اليهود؛ الصياغة والصرافة، والزراعة والتجارة؟ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهون في شعير عند يهودي، وجابر بن عبدالله مات أبوه وهو مَدِينٌ ليهوديٍّ، فجاء اليهودي يطالب بالدَّين في أوسق من تمر، فقال له: خذ ثمرة البستان هذه، قال له: بل تكيل وترد لي الأوسق التي أخذها أبوك، فبقي جابر كئيبًا، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ومشى في البستان، ودعا بالبركة، فوفى اليهودي، وبقي عنده الكثير، إذا كان اقتصاد الدولة في حكم اليهود ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه المشكلة بالإخاء وصفاء النفس، وعفة المهاجرين، وبذل وإيثار الأنصار؛ فقد بيَّن سبحانه في قسمة فَيْءِ بني النضير: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [الحشر: 8]، أُخرِجوا منها وليس باختيارهم، ولا استطاعوا أن يحملوا منها شيئًا؛ مثال ذلك: لما جاء صهيبٌ مهاجرًا وأدركته قريش، وقالوا: جئتنا صعلوكًا لا مال لك، والآن صرت ذا مال، وتريد أن تفوتنا بنفسك وبمالك، قال: لو دللتكم على مالي، أترجعون إليه وتتركونني، قالوا: نعم، قال: مالي دفنته في المكان الفلاني، ولما وصل بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ربِحَ البيع أبا يحيى)) ، اشترى نفسه. ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ﴾ [الحشر: 8]، يقابلهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9]. كان هذا الموقف مما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم، وتواجه المهاجرون مع الأنصار، فكان مجتمع المدينة قسمين؛ هما: مهاجرون يتعففون، حتى إن الأنصاري كان يقول لأخيه المهاجري: هلم أقاسمك مالي، هلم أنزل لك عن إحدى زوجتي، فابن عوف قال: بارك الله لك في زوجاتك، وبارك الله لك في مالك، دُلَّني على السوق، وذهب يعمل، وهذا الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يمر على امرأة قد جمعت الطين والتبن، وعندها البئر، قالوا: ما بال هذه المرأة؟ قال: ما وجدت من يحمل لها الماء حتى تعجن هذا الطين لتصلح بيتها، قال: علام تؤاجرين الرجل؟ قالت: الدلو بتمرة، فملأ لها عدة دلاء، وأخذ عدة من التمر ورجع بها إلى رسول الله، قال: من أين هذا يا علي؟ قال له: من كذا وكذا، فأكل معه منها، هكذا عالج الإسلام الموقف من الناحية الاقتصادية، أما الناحية السياسية في تلك الطوائف المتعددة، فقد عالجها رسول الله بأقصى حكمة، فجمع الجميع وكتب كتابًا: (هذا ما تعاهد عليه الأوس والخزرج واليهود بالمدينة، كل قبيلة تحمل تبعتها - يتعاونون فيما بينهم - ولا تحمي قبيلة صاحب دخيلة، ولا صاحب جناية، ومن آوى كذا فعليه كذا، والأمر في المدينة كذا، وما اختلفتم فيه فأمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ومما عاهد عليه اليهود: ألَّا يُعِينوا عليه عدوًّا، وأن يعينوه فيما نابه؛ أي: لا يتأخرون في المساعدة إذا لزم الأمر، وهكذا صارت كل الأحزاب والفرق الموجودة في المدينة ضمن معاهدة رسمية يرجع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من الناحية الأخرى بين الأفراد، فقد آخى بين المسلمين [10] . بعدما ذكرنا بعض التحديات التي واجهها النبي نجد أنها لا تنفصل كثيرًا عن تحديات العصر؛ من هنا وجب علينا أن نتطرق لبعض الدوافع التي كان لها دور في جعل الشباب يلجؤون للهجرة بالرغم من كثرة المخاطر التي تحيط بهم. لا شك أن هناك عواملَ كثيرةً؛ منها السياسية والاجتماعية، والبيئية والاقتصادية، التي أبرزها تدني المستوى المعيشي، وكثرة البَطالة، وانعدام الأمن، والفقر المدقِع الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربية، في المقابل ما تتيحه بعض الدول الغربية من تسهيلات ومميزات لمن يلجأ إليها؛ مما يجعل الشباب يأمُلون في تحقيق طموحاتهم التي عجزوا عن تحقيق ولو جزءًا بسيطًا منها في بُلدانهم العربية، لكن الحقيقة في الواقع تختلف تمامًا عما يغرِسه الغرب من أفكار في أدمغة الشباب المسلم؛ فكثير ممن قرروا اللجوء ندِموا أشدَّ ندم على خروجهم من أوطانهم؛ لأنهم واجهوا عدة تحديات؛ حيث يشعر المهاجر أنه يجب عليه الحفاظ على هُوِيَّتِه ووجوده الإسلامي، ووجود أبنائه، والحفاظ على اللغة العربية، فيعمل جاهدًا من أجل البحث عن جاليات إسلامية ينتمي إليها، أو يسعى بنفسه لبناء المؤسسات الإسلامية؛ كالمساجد والمدارس والمعاهد والمراكز، وتصبح هذه بذاتها سببًا لبقائه ليحافظ عليها من جهة، ولأنه قد يعتقد أنها تحافظ على وجود إسلامي مقبول إلى حد ما من جهة أخرى. إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية، التي تشمل كل مسلم في أنحاء العالم أيًّا كان جنسه أو لونه، أو لسانه أو وطنه أو طبقته، وهم - من ناحية أخرى - جزء من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وينتمون إليه، فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فقد نشأت الأقليات المسلمة نتيجة عدة عوامل؛ منها: الهجرة الاختيارية بهدف العمل أو الإقامة، أو بناء على ظروف شخصية، ومن تلك العوامل: الهجرة الإجبارية، وهي تلك التي تنشأ عن أعمال عسكرية وسياسية عدوانية، وهذه تعرف اليوم باسم ظاهرة اللاجئين، فأما الهجرة الاختيارية، فهي في كثير من الأحوال تكون طارئة في حياة المهاجر مع رغبة أكيدة في العودة إلى الوطن، غير أن تمادي أحد أسباب الهجرة، بالنسبة إلى وضعه الخاص، يحوِّل الهجرة مع الزمن إلى استيطان دائم، خاصة إذا نشأت ظروف محلية جديدة في بلد الهجرة كالنجاح في العمل التجاري، أو طمأنينته إلى غدِه وتخوُّفه من التحول في بلده الأصلي إلى مكافح من جديد في طلب العيش، أو إلى ارتباطه في المهجر بنشأة أبنائه وتقلبهم في مراحل الدراسة، مما يلزمه في كثير من الأحوال إلى تمديد حال الهجرة إلى حين تخرجهم، ثم قد تنشأ روابط الزواج من أهل تلك البلاد فتغدو العودة أكثر صعوبة، فيتحول المهاجر إلى مستوطن، خاصة إذا ما اكتسب جنسية الدولة المقيم فيها، وأصبح حائزًا على حقوق المواطن [11] ، مما يعود عليه بأثر سلبي كبير، سواء على الصعيد النفسي أو الأخلاقي والاجتماعي، هذا يدفعنا للتحدث عن بعض الآثار التي تخلِّفها الهجرة على الفرد والمجتمع، ولا أنكر وجود آثار إيجابية تعود على الفرد والمجتمع أحيانًا؛ مثل: تشغيل الأيدي العاملة، والارتقاء بالمستوى المعيشي، وإعطاء بعض الميزات للفرد الذي يملك جنسية الدولة التي لجأ إليها، لكن وجود السلبيات يفوق الإيجابيات بكثير؛ حيث إن المهاجر سواء كان بطريقة مشروعة أو غير مشروعة سينفق كل ما يملك من أجل الوصول للدولة المراد الذهاب إليها، ثم إن أول ما يعيق تواصله مع الآخرين اختلاف اللغات، ومن ثَمَّ سيجد نفسه غريبًا في تلك البلاد، وهذا سيؤثر في نفسيته، وأيضًا يعيق تواصله مع المؤسسات التعليمية والصحية وغيرها، فضلًا عن اختلاف الثقافات والعادات التي لن يستطيع التأقلم معها بسهولة، وإن استطاع أن ينسجم في تلك البلاد، فسيجد نفسه بعيدًا عن دينه، وعما تحلى به من أخلاق؛ حيث سيتأثر بطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه، فضلًا عن ذلك بعده عن أهله وأقاربه، فلن يجد من يؤازره، سواء في السراء أو الضراء، حتى لو توفرت له فرصة عمل جيدة ومسكن وما إلى ذلك، فسيبقى غريبًا تأكله نار الغربة والبعد عن الأهل والأحباب، وللحد من ظاهرة الهجرة لا بد من تقوية الوازع الديني لدى الشباب، وذلك من خلال الدروس والندوات والخطب، حتى يصل بهم لمرحلة الإيمان المطلق بالقضاء والقدر؛ بحيث تكون لديهم قناعه ذاتية بأن ما كتبه الله له من رزق، فهو له، حتى لو جال وصال كل دول العالم، ثم ترسيخ حب الأوطان في النفوس منذ الصغر من خلال المناهج الدراسية والنشاطات المنهجية، حتى نبنيَ جيلًا واعيًا، مدركًا قيمة أرضه ووطنه، كذلك توفير فرص عمل للشباب الخريجين والأيدي العاملة من خلال عمل مشاريع قد تكون صغيرة في البداية، ثم تتطور لتصبح ذات مكانة مرموقة في المجتمع، والاهتمام بفئة الشباب، والاستماع لمقترحاتهم وآرائهم، والاستفادة من طاقاتهم في شتى المجالات، وتحسين مستوى دخل الأفراد من خلال تطوير مشاريع استثمارية، ومحاولة توفير جميع الامتيازات التي تمنحها بعض الدول للاجئين. وفي نهاية هذا المقال الذي أوجزنا فيه مفهوم الهجرة وموقف الإسلام منها، وشروطها ودوافعها، وأهم التحديات التي تواجه المهاجرين، سواء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، ووضحنا أثر ذلك على الفرد والمجتمع، ووضعنا بعض الحلول التي من الممكن أن تساهم في الحد من هذه الظاهرة، فإنني أدعو الله أن يرزق شباب أمَّتِنا الهداية والتوفيق والسداد في أوطانهم، وأدعوهم للعمل جادين من أجل تطوير ذاتهم، والرقي والنهوض بمجتمعاتهم، وعدم الالتفات لما تروِّجه بعض الدول الغربية من الاهتمام باللاجئين، وتقديم مميزات وتسهيلات توفر لهم حياة كريمة، فوالله لن تجدوا الحياة الكريمة إلا في ربوع وأحضان الوطن الذي ترعرعتم فيه، وأكلتم من خيراته، حتى أصبحتم شبابًا يافعين تُعِيدون للأمة الإسلامية مجدها. [1] معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 2325). [ 2 ] تفسير الطبري = جامع البيان، ت: شاكر (4/ 317). [ 3 ] زهرة التفاسير (4/ 1824). [ 4 ] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي (196). [ 5 ] ينظر عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين (ص: 127، بترقيم الشاملة آليا) [ 6 ] صحيح النسائي (ص: 5011). [ 7 ] أرشيف ملتقى أهل الحديث-3(77/ 72) [ 8 ] تفسير السعدي (ص: 195) [ 9 ] ينظر دروس الهجرة - عطية سالم (3/ 16، بترقيم الشاملة آليًّا). [ 10 ] ينظر دروس الهجرة - عطية سالم (8/ 13، بترقيم الشاملة آليًّا). [ 11 ] ينظر: فقه النوازل للأقليات المسلمة (1/112-113).
موسى عليه السلام (1) نتحدَّثُ إليكم عن كبير أنبياء بني إسرائيل، أحد أُولي العزم من المرسلين، كليم الله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وعمران والد موسى عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وليس هو عمران المذكور في سورة آل عمران المسمَّاة باسمه؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، فإن عمران هذا والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقد بيَّن الله عز وجل ذلك في قوله بعد هذه الآية مباشرة: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 34 - 36]. وبين عمران والد موسى وعمران والد مريم قريبٌ من ألفي سنة. وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى الحالة التي كانت سائدةً بمصر عند ميلاد موسى عليه السلام؛ إذ كان ظلم فرعون وبَغيه على بني إسرائيل وفساده في الأرض قد بلغ أقصى حدود الطغيان، فجعل أهلها شيعًا، يقرِّب بعضهم، ويستضعف طائفةً منهم وهم بنو إسرائيل، يَذبح أبناءهم ويَستحيي نساءهم ويستعمل معهم صنوفَ الذلَّة، وأنواع الهوان والعذاب، وأراد الله عز وجل أن يَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض من بني إسرائيل، وكانوا يومها محصورين في مصر، وأن يبدِّل خوفَهم أمنًا، وأن يمكِّنَ لهم في الأرض، وأن يجعلَ منهم أئمَّةَ هدى، ويجعلهم الوارثين، وقد كان الحقد والبُغض لبني إسرائيل قد اشتعل في قلب فرعون وهامان وجنودهما بسبب ما ألقي في روعهم أن زوال ملكهم وتدميرهم سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، ولكن الحذرَ لا ينجي من القدَر، فأراد الله عز وجل أن يُري ﴿ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 6]. فوُلد موسى عليه السلام في هذا الجوِّ الخانق، وخافت أمه أن يذبحه فرعون؛ لأن ميلاد موسى عليه السلام صادفَ إحدى النوبات التي يقوم بها فرعون بتذبيح أطفال بني إسرائيل الذكور، فأوحى الله تعالى إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خشيتِ عليه من فرعون أن يذبحه فاصنعي له صندوقًا محكمًا كأنه سفينة، وضعيه في الصندوق وألقيه في نهر النيل، وأبعدي الخوف عن نفسك فلا تخافي ولا تحزني، فإن الله عز وجل سيحفظه لك، ويردُّه إليك، وسيكون ولدك هذا من المرسَلين، قال بعض أهل العلم: المراد بالوحي هنا وحي إلهام أو منام، قلت: لا مانع من أن يكون الله تبارك وتعالى أرسل لها ملكًا بهذا الوحي فآمنت به وصدقت بوعده، ولا يلزم من مجيء الملَك لها بهذه النصيحة أن تكون نبيَّة؛ فقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا؛ فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره، وأُعطي لونًا حسنًا، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر - شكَّ الراوي - فأُعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأقرعَ فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملًا، قال له: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يُردَّ الله إليَّ بصري فأبصر الناس؛ فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاة والدًا، فأنتج هذان وولد هذا؛ فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأقرعَ في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ ودع ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه لله عز وجل، فقال: أمسك مالَك فإنما ابتُليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)). فهذا الحديث الصحيح المتفق عليه يثبت أنَّ الله قد يبعث ملكًا لأحد من عباده وليس بنبيٍّ ولا برسولٍ، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله تعالى على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أنني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)). فهذا يثبت أن الله تعالى قد يرسل ملَكًا إلى بعض الناس ويخاطبهم وليسوا بأنبياء. وقد أرسل الله تعالى الملائكةَ لمريم حيث يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، ثم يقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، ولم تكن مريم نبيَّةً وإنما كانت امرأة صالحة صدِّيقة من القانتين. وفي ميلادِ موسى عليه السلام وبيان الجوِّ الذي وُلد فيه وما كان من طغيان فرعون وإذلاله لبني إسرائيل والإيحاء إلى أمِّ موسى بإلقائه في اليم مع الوعد بردِّه إليها، يقول الله عز وجل: ﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 3 - 7]. وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الوحي والعقل ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [القلم: 1 - 5]. إن أول ما نزل من الوحي للإنسان من الملأ الأعلى تلك الآيات المباركات إذنًا بتولي هذا الإنسان الخلافة في الأرض بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء الأمر من الله لنا بأن نقرأ في الآية الأولى والآية الثالثة، وهما أمران مختلفان في المنهج والمضمون؛ ففي الأمر الأول أن نقرأ بمعنى: أن نبحث بكل الوسائل العلمية في كل ما خلقه الله، للتوصل إلى علوم الله فيها، مستعينين بالله في هذا العمل وطاعة له سبحانه. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد بل يجبُ أن ينتقل إلى مرحلة أعلى وهي الأمر الثاني بالقراءة، وهو قراءة ما جاء في الوحي من الله بخصوص ما توصل إليه في القراءة الأولى وموقعه مما جاء في كلام الله، فما توصل إليه في القراءة الأولى قد يكون غير صواب، أما ما جاء في الوحي فهو الصواب المطلق، وهنا يتعدَّى تفكير الإنسان ما هو مدرك بالحواس إلى ما وراء القدرة العقلية للإنسان. لأن هذا العقل البشري حين يستقل بنفسه بعيدًا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير. يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدًا، تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة.. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود كله جملة واحدة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكامًا، ويضع على أساسها نظامًا، ملحوظًا فيه الشمول والتوازن. وأنا كأستاذ جامعي في البحث العلمي أدرك ذلك جيدًا، فما نجريه من أبحاث هي مجرد جزئيات تكاد لا تذكر في مجموع علم التخصص، ولكن عندما بحثتُ في القرآن الكريم شعرت بمدى حاجتنا إلى أن نرجع إليه لنصقل عقولنا وفهمنا بما جاء في القران الكريم، وفهم نتائج أبحاثنا في ضوء ذلك الهدى. وللأسف أن من لا يتدبر ما جاء بالوحي في القرآن الكريم من الباحثين والأساتذة في العلوم المختلفة، تجده يغتر في نفسه ويظن أنه عالم، وقد ذكر الله ذلك في كتابه بقوله: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [الروم: 7]. وهؤلاء لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها، وإنما ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، فينظرون إلى الأسباب ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسبابُ وجوده ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئًا، فهم واقفون مع الأسباب غير ناظرين إلى مسببها المتصرف فيها، ﴿ وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾، قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها فعملت لها وسعت وأقبلت بها وأدبرت وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها ولا النار تخافها وتخشاها ولا المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها وهذا علامة الشقاء وعنوان الغفلة عن الآخرة. ومن العجب أن هذا النوع من الناس قد بلغت بكثير منهم الفطنة والذكاء في ظاهر الدنيا إلى أمر يحير العقول ويدهش الألباب. ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله! فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقوم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته. إن الإسلام بالوحي منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات، ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة؛ كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك! والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى. كما أن العقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جدًّا، يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجال الأحداث، ومجالات الحياة جميعًا، فالوحي لا يكف العقل عن شيءٍ إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعًا. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى.
مفاتح إقامة الصلاة وإخلاص العبودية لله لخالد بن عبد الكريم اللاحم صدر حديثًا كتاب " مفاتح إقامة الصلاة وإخلاص العبودية لله "، تأليف: د. " خالد بن عبد الكريم اللاحم "، نشر " مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع "- الرياض. وهذا الكتاب خلاصة في بيان سبل ومقومات إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة كلمة شاملة عامة تتضمن كل ما يتعلق بالصلاة من الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي مراتب ودرجات، أولها أداء ظاهرها، وآخرها المراتب العليا من الخشوع والإخبات فيها لرب العالمين، وقد ورد مصطلح إقامة الصلاة في القرآن أكثر من أربعين مرة. وهذا الكتاب يتحدث عن المفاتيح التي يتحقق بها إقامة الصلاة ظاهرًا وباطنًا، "ويحاول أن يعالج الخلل والنقص الذي يحصل في الصلاة لتكون صلاة كما أرادها الله من عباده، ولتحقق جميع مقاصدها فتكون سببًا للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وضمت هذه الرسالة تمهيدًا يتضمن مقالات في الصلاة، حيث تحدث عن قدر الصلاة، وارتباط الصلاة بالنصر، والصلاة بالرزق، والصلاة بالتدريب. ثم تلاه الكاتب ببيان مفاتيح إقامة الصلاة وهي: المفتاح الأول: حفظ مقاصد الصلاة (لماذا أصلي؟)، وتضم مباحث: • المقصد الأول: الذكر والعلم والإيمان. • المقصد الثاني: المناجاة. • المقصد الثالث: الشكر. • المقصد الرابع: الصبر. • المقصد الخامس: التضرع والافتقار والانكسار. • المقصد السادس: الثواب والعقاب. • فوائد ليست بمقاصد. المفتاح الثاني: حفظ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، وتضم مباحث: 1- القيام. 2- الركوع. 3- الاعتدال. 4- السجود. 5- الجلوس. 6- التشهد. المفتاح الثالث: قراءة القرآن بتدبر. المفتاح الرابع: التوحيد. المفتاح الخامس: التكبير. المفتاح السادس: التسبيح. المفتاح السابع: التحميد. المفتاح الثامن: الاستغفار. المفتاح التاسع: الدعاء. المفتاح العاشر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. المفتاح الحادي عشر: التسليم. المفتاح الثاني عشر: كثرة الصلاة. المفتاح الثالث عشر: الصلاة بقلب، وتضم مباحث: أولًا: مفاتيح التدبر. ثانيًا: مفاتيح الإنجاز. يقول الكاتب: "لابد أن يعرف المصلي لماذا يصلي، عليه أن يستحضر مقاصد الصلاة واحدًا واحدًا ليكمل إخلاصه في صلاته فيعظم نفعها، وأن تكون على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل قول أو فعل، فكلما كانت أفعال الصلاة وأقوالها أقرب إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما كانت أكمل وأعلى". والكاتب هو د. "خالد بن عبد الكريم اللاحم" أستاذ القرآن وعلومه المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه. من مؤلفاته: • "مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة". • " مفاتح تدبر السنة والقوة في الحياة". • "مفاتيح إنجاز الأهداف وبرنامج مواعيد". • "القراءة بقلب قلب النجاح في الحياة". • "الحفظ التربوي للقرآن وصناعة الإنسان".
الاستشراق والقرآن الكريم القرآن الكريم والتنصير يعيد الدارسون ترجمة معاني القرآن الكريم المتقدمة تاريخيًّا إلى دوافع تنصيرية بالدرجة الأولى، وهذا مبني على القول بأن الاستشراق قد انطلق من الدافع التنصيري، والدافع الديني بصورة أعم. يقول بلاشير عن بوادر ترجمة معاني القرآن الكريم التي انطلقت من بطرس المحترم سنة 1141 - 1143م: "كانت المبادرة قد انبثقت عن ذهنية الحروب الصليبية، هذا ما تثبته الرسالة التي وجهها بطرس المحترم إلى القديس برنار، مرفقةً بنسخة من الترجمة التي كانت قد أعدت، كما انبثقت في الوقت ذاته عن الرغبة الشديدة لإزالة كل أثر للإيمان الأول، من أذهان المسلمين المهتدين، وفي رأينا أن الأهمية التي اتخذها القرآن في هذا المجال قد تجلت في الروح العسكرية التي استمرت حميتها حتى بداية القرن الرابع عشر، دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون لول المتوفى في بورجي سنة 1315م" [1] . يقول يوهان فوك حول هذا الارتباط أيضًا: "ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية، فكلما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوة السلاح، بدا واضحًا أن احتلال البقاع المقدَّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم، بقدر ما أدى إلى عكس ذلك، وهو تأثُّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر" [2] . تنطلق ترجمة معاني القرآن الكريم بعد أفول حملات الصليبيين بالتحديد من دير كلوني بأمر من رئيس الدير بطرس المحترم / الموقر، كما مر ذكرُه، ويؤكِّد محمد ياسين عريبي في كتابه: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، ارتباط ترجمات معاني القرآن الكريم بالتنصير [3] ، كما يؤيده في هذا محمد عوني عبدالرؤوف، في أن "الفكرة من الترجمة إذًا قد كانت من الكنيسة بعد أن اقتنعت أن النصر لن يكون بالسلاح" [4] . يؤكده كذلك الباحث الدكتور محمد بن حمادي الفقير التمسماني في بحث له بعنوان: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها، حيث يجعل "حملات التبشير النصرانية أحد أسباب بداية نشأة الاستشراق" [5] . يؤيدهم على هذا التوجه الأستاذ الدكتور محمد مهر علي في بحث له بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخيَّة وتحليلية؛ حيث يؤكد الأستاذ الباحث أن ترجمات معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين لم تلقَ إقبالًا إلا لدى الدوائر التنصيريَّة [6] . يؤيدهم كذلك الدكتور عبد الراضي بن محمد عبدالمحسن في بحث له بعنوان: "مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم، دراسة تاريخية نقدية"، الذي يرى أن التنصير كان وراء ترجمة معاني القرآن الكريم؛ حيث انطلقت الترجمة في رحلتها الأولى والثانية من الأديرة وعلى أيادي القسس، وأن فكرة التنصير كانت وراء ترجمة معاني القرآن الكريم [7] . تأتي هذه البحوث الثلاثة الأخيرة ضمن أكثر من ثمانية وخمسين بحثًا حول ترجمة معاني القرآن الكريم قام بها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. هذا يؤكد أهمية اضطلاع المسلمين أنفسهم بمهمَّة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما قام به بعض أبناء هذه الأمة مؤخرًا، وكما تقوم به مؤسسات علمية عربية وإسلامية، لها اعتباراتها المرجعية، ومنها على سبيل المثال: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة؛ حيث وصلت ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة عن هذا المجمع إلى أكثر من أربعين لغة، وهذا جهد يذكر ويشكر. الأصل أن تكون هناك ترجمة واحدة قابلة للمراجعة معتمَدة لمعاني القرآن الكريم لكل لغة؛ قصدًا إلى الحيلولة دون الاختلاف في المعنى باختلاف اللفظ، وهذا يأتي في ضوء وجود أكثر من مائة وعشرين ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، بعضها مكرر في لغة واحدة، قام بها عدد من المستشرقين وبعض المسلمين كالإنجليزية، التي زادت عدد الترجمات بها عن 80 ترجمة [8] ، وصلت طبعاتها سنة 1423هـ / 2002 م إلى ما يزيد عن 890 ترجمة، بعد أن كانت قد وصلت سنة 1400هـ / 1980م إلى ما يزيد عن 269 ترجمة "سجلت تفاصيلها المرجعية بدقة الببليوجرافيا العالمية لترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة" [9] . ثم تتركز الترجمة في اللغة الواحدة بترجمة واحدة - بفضل مِن الله تعالى - الذي تكفَّل بحفظ هذا الذكر العظيم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ثم إلى هذه الثلَّة من علماء المسلمين، مدعومين من الحكومات العربية والإسلامية، ومن المعنيِّين بالشأن العلمي والثقافي والفكري، ممن أقاموا مراكز الدراسات والبحوث الإسلامية خدمةً لهذا الدين الحنيف، ومنها المملكة العربية السعودية، التي يعدُّ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، مِن مآثرها المحمودة المأجورة. لنا أن نتصوَّر الآثار التي يجنيها المسلمون وغير المسلمين من هذه الجهود المباركة المخلصة في إخراج هذه الترجمات الأصلية البعيدة عن اللمز، الذي اتسمت به ترجمات معاني القرآن الكريم التي قام بها المستشرقون، ثم لنا أن نتصور ما سيناله المعتنون بكتاب الله تعالى من الأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة، كلما اتسع نطاق الإفادة والاستفادة من كتاب الله تعالى الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]. [1] انظر: بلاشير. القرآن: نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره / نقله إلى العربية رضا سعادة، أشرف على الترجمة الأب فريد جبر، حقَّقه وراجعه محمد على الزعبي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1974م، ص 15. [2] انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق؛ مرجع سابق، ص 16 - 17. [3] انظر: محمَّد ياسين عريبي. الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، الرباط: المركز القومي للثقافة، 1411هـ / 1991م، ص 144 - 148. [4] انظر: عبدالرؤوف، محمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي؛ مرجع سابق، ص 67. [5] محمَّد حمادي الفقير التمسماني. تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل؛ مرجع سابق، 51 ص. [6] انظر: محمَّد مهر علي. ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المرجع السابق، 50 ص. [7] عبدالراضي بن محمَّد عبدالمحسن. مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المرجع السابق، 64 ص. [8] انظر: عادل بن محمَّد عطا إلياس. تجربتي مع تقويم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المرجع السابق، 28 ص. [9] انظر: عبدالرحيم القدوائي. مقدِّمة في الاتَّجاهات المعاصرة في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية / ترجمة وليد بن بليهش العمْري، مجلة البحوث والدراسات القرآنية، مج 1 ع 1 (1 / 1427 هـ - 2 / 2006م)، ص 217 - 229. والنصُّ من ص 218.
معيد النعم ومبيد النقم لتاج الدين السبكي صدر حديثًا كتاب "معيد النعم ومبيد النقم"، تأليف: "تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي" (ت 771 هـ) ، تحقيق ودراسة: "خليل إبراهيم خليل"، نشر: "دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع"- بيروت بلبنان. وهذا المؤلف من ذخائر المكتبة السلوكية، ويتعلق مبحثه بالآداب الإسلامية وموضوعه شكر النعم التي أنعم الله بها علينا، ثم تناول فيه المؤلف 113 وظيفة من الوظائف الشائعة: كالسلطنة والمشيخة والدلالة والسياسة وغيرها، حيث ذكر أدب وطريقة العمل في كل منها، وفقه تلك النعم، وكيفية الحفاظ عليها. وقد بنى المؤلِّف كتابه على ذكر ما يحفظ على الإِنسان في هذه الحياة النعمة التي أسدَاها اللَّه إليه، ويدفع عنه السوء والبأساء. ومردُّ ذلك إلى أن يقوم كل امرئٍ بما يجب عليه، ويؤدِّي حقَّ العمل الذي خصَّص نفسه به، ويراعي ما رسمَ الشرع في أمره. وقد استتبع ذلك أن يذكر الأعمال في عصره والوظائف الديوانيّة وغيرها، ويفصِّل ما يطلب في كل عمل ووظيفة، ويذكر ما يقضي به القانون الشرعي حتى يفضي العمل إلى غايته الصحيحة، ويتكوَّن مجتمع صالح في هذه الحياة. وقد أيَّده وأعانه على هذا سعة فقهه، وخبرته بأحوال عصره، وشؤون الدولة وطبقات الناس. وجاء في المقدمة سبب تأليفه حيث قال: "... فقد ورد عليَّ سؤال مضمونه: هل من طريق لمن سلُب نعمة دينية أو دنيوية، إذا سلكها عادت إليه، ورُدَّت عليه؟ فكان الجواب: طريقه أن يعرف: من أين أتى فيتوبُ منه ويعترف بما في المحنة بذلك من الفوائد فيرضى بها، ثم يتضرَّع إلى اللَّه تعالى بالطريق التي تذكرها. هذه ثلاثة أمور هي طريقه التي يحصل بمجموعها دواءُ مرضه ويعقُبها زوال علَّته، بعضها مرتَّب على بعض لا يتقدَّم ثالثها على ثانيها، ولا ثانيها على أولها. فعاد إليّ السائل قائلًا: اشرح لنا هذه الأمور شرحًا مبينًا مختصرًا، وصِف لنا هذا الدواء وصفًا واضحًا؛ لنستعمله. فقلت: هذا سرٌّ غريب، جمهور الخلق لا يحيطون بعلمه، ونبأ عظيم أكثر الناس معرِضون عن فهمه؛ لاستيلاء الغفلة على القلوب، ولغلبة الجهل بما يجب للربّ على المربوب. وأنا أبحث عن هذه الأمور في هذا المجموع الذي سمّيته: (معيد النعم، ومبيد النقم) بحثًا مختصرًا، لا أرخِي فيه عِنان الإِطناب؛ فإنَّه بحر لا ساحل له، لو ركبت فيه الصعب والذلول، وشمَّرت فيه عن ساق البيان، وخضت فيه لجج الدقائق، لذكرت ما يعسر فهمه على أكثر الخلائق، ولانتهينا إلى ما لم يؤذن لنا في إظهاره من الأسرار العلمية. وإنَّما أذكر من ذلك ينبِّهه بها للنعم الأخروية؛ إذ هي غاية الوسائل وأنا أرجو أن من كانت عنده نعمة للَّه تعالى في دينه أو دنياه وزالت، فنظرَ هذا الكتاب نظر معتقد، وفهمه، وعمل بما تضمَّنه بعد الاعتقاد، عادت إليه تلك النعمة أو خير منها، وزالَ همَّه بأجمعه، وانقلبَ فرحًا مسرورًا فمن شكَّ فليستعمل هذا الدواء، لا على قصد التجربة والافتقاد ونظرَ الاختبار والانتقاد، بل بحسن الظنِّ وجميل الاعتقاد، فإنه عند ذلك يظفر بغاية المراد. أسأل اللَّه أن يصرف إليه عزمة مستحقيه ويصرف عنه هِمَّة من لا يستحقه ولا يدريه". ثم بدأ "تاج الدين السبكي" في تعداد تلك النعم، ومنها تدرج لذكر الوظائف الدنيوية، وطرق حفظها، وفائدتها، حيث توسع في موضوعه وتدرج به من الجانب الأخلاقي البحت إلى الصفة العملية، والجانب الإداري من منظور فقهي أيضًا. وقد حقق الكتاب الأستاذ "خليل إبراهيم خليل" على نسختين خطيتين: النسخة الأولى محفوظة في المكتبة الأزهرية، برقم خاص 68، ورقم عام 952، وهي نسخة ملونة تقع في 147 صفحة. والنسخة الثانية نسخة محفوظة في جامعة الملك سعود برقم 4857، وهي نسخة حسنة خطها تعليق تقع في 61 لوحة. وقام المحقق بخدمة نص الكتاب، والترجمة لأعلامه وشواهده، وترقيم النص حسب قواعد الترقيم الحديثة، مع الترجمة لمؤلفه تاج الدين السبكي، والتعليق على المتن في المواضع التي تحتاج زيادة إيضاح أو بسط مسألة أو بيان مشكل. والمؤلف هو الإمام قاضي القضاة شيخ الإسلام تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين أبي الحسن علي بن زين الدين عبد الكافي بن ضياء الدين علي بن تمام بن يوسف بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن سوار بن سليم السبكي الشافعي الأنصاري الخزرجي، ونسبته إلى سبك الأحد قرية من أعمال المنوفية بمصر وكانت تسمى بـ "سبك العبيد وبسبك العويضات" ولد سنة سبع وعشرين وقيل ثمانية وعشرين وقيل تسعة وعشرين وسبعمائة بالقاهرة (727 أو 728 أو 729هـ) . نشأ الإمام تاج الدين في أسرة عرفت بالعلم والمعرفة، فأبوه هو الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت: 756هـ) الفقيه الأصولي صاحب التصانيف المفيدة في فنون عديدة، وجده زين الدين عبد الكافي (ت: 735هـ) ، وأخوه الأكبر بهاء الدين أحمد بن علي (ت: 773هـ) ، وأخوه الآخر جمال الدين الحسين بن علي (ت: 755هـ) وكلهم من العلماء الأكابر، فنشأ تاج الدين رحمه الله تعالى في بيئة علمية، سمع بمصر من جماعة ثم قدم دمشق مع والده وقرأ على الحافظ المزي ولازم الذهبي وتخرج به وطلب بنفسه وأجازه ابن النقيب بالإفتاء والتدريس وهو ابن ثمان عشرة سنة واشتغل بالقضاء وولي الخطابة ثم عزل وحَصَل له فتنة شديدة وسجن بالقلعة نحو ثمانين يومًا، وجرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله وحصل له من المناصب ما لم يحصل لأحد قبله، وحصَّل فنونًا من العلم في الفقه والأصول وكان ماهرًا فيه، والحديث وبرع فيه، وشارك في العربية وكان له يد في النظم والنثر، جيد البديهة، انتهت إليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام. ونزل له الذهبي عن مشيخة دار الحديث الظاهرية قبل وفاته. وقد اشتغل الإمام تاج الدين -رحمه الله- بالتدريس في كثير من مدارس دمشق وغيرها، فقد درس في العزيزية، والعادلية الكبرى، والغزالية، والعذراوية، والناصرية، والأمينية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، والشيخونية والتقوية وغيرها. وتولى القضاء عدة مرات، وتولى الخطابة في الجامع الأموي بدمشق. صنف التاج السبكي - رحمه الله - مصنفات كثيرة تدل على براعته وتقدمه في جل العلوم الإسلامية وبيان تلك المصنفات كالتالي: • "التوشيح على التنبيه والمنهاج والتصحيح". • "ترشيح التوشيح وترجيح التصحيح في اختيارات والده الفقهية". • "أرجوزة في الفقه". • "أوضح المسالك في المناسك". • "تبيين الأحكام في تحليل الحائض". • "الأشباه والنظائر في الفروع الفقهية الشافعية". • "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للغزالي". • "قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين". • "جزء على حديث ((المتبايعان بالخيار) )". • "جزء في الطاعون". • "أحاديث رفع اليدين". • "كتاب الأربعين". • "طبقات الشافعية الصغرى والوسطى والكبرى". • "طبقات الأبدال". • "تكملة الإبهاج في شرح المنهاج". • "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب". • "جمع الجوامع". و قد أصيب الإمام التاج السبكي بالطاعون ليلة السبت، ثم توفي شهيدًا ليلة الثلاثاء من شهر ذي الحجة سنة 771هـ، عن أربعة وأربعين عامًا تقريبًا، ودفن بتربة السبكية، بسفح قاسيون بدمشق.
صحابة منسيون: الصحابي الجليل خُفاف بن ندبة السُّلَميُّ أولًا: حياة خُفاف في الجاهلية : 1- اسمه ونسبه: هو خُفاف بن عُمَيْر بن الحارث بن عمرو - وهو الشَّريد - بن رباح بن يقظة بن عصية بن خُفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار السلمي، وأمه نُدْبَة وإليها يُنسَب. وخُفاف من أغربة العرب، الذين اختُلِف في عددهم وأسمائهم، فقيل: ثلاثة: عنترة، وأمه زبيبة سوداء، وخُفاف بن عمير، وأمه ندبة وإليها يُنسَب، والسُّلَيْك بن عمير السعدي، وأمه سُلَكَة، وإليها يُنسَب، وقيل: هم أكثر من ثلاثة. وهو ابن عم الخنساء، شاعرة بني سليم، وأخويها: صخر ومعاوية، ويُكنى أبا خراشة، وهو المراد بقول العباس بن مرداس، وكان يهاجيه: أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضَّبُعُ 2- مولده: لا يعرف على وجه التحديد متى وُلِدَ خُفاف؛ فالمصادر التي تناولت حياته لا تمُدُّنا بشيء عن مولده، فكل ما تَذْكُرُه أنه شاعر مُخَضْرَم عاش في الجاهلية والإسلام، وأنه قبل إسلامه كان فارسًا مُعلمًا، خاض المعارك مع بني قومه في أيامهم المشهورة، وكل ما يمكن استنتاجه من أخباره وشعره أنه وُلِدَ قبل البعثة المحمدية بنحو من أربعين إلى خمسين سنة. 3- أسرته: أبوه هو: عمير بن الحارث بن عمرو، وأبوَّة عمير له لا شكَّ فيها، ولا خلاف عليها، ومن ثَمَّ نجد الشاعر قد أخذ طريقًا سويًّا في قبيلته؛ فهو لا يُستعبَد، ولا يُغمز في نسبه. ولم تذكر المصادر التاريخية أو الأدبية شيئًا عن أبيه، كما لم يَرِدْ له ذكر في شعر خُفاف الذي بين أيدينا. ولعل في سكوت المصادر عن عُمَير وإغفالها لذكره، ما يدل على أنه - وإن كان غير مغمور في قومه - لم يبلغ فيهم شأوًا، ولم يَنَلْ بينهم زعامة ورياسة، كما أن غلبة نسبة خُفاف إلى أمه لم تجعل لذكر أبيه مكانًا، أما إغفال الشاعر لذكر أبيه، فلربما تركه صغيرًا؛ فلم تَعِ ذاكرته عنه شيئًا، أو لعله تحدث عنه فيما قد ضاع من شعره. أما أمه، فهي ندْبَة (بضم النون، وفتحها، وكسرها، وسكون الدال). وتُجمِع المصادر على أن (ندبة) سبية من بني الحرث؛ فقد أغار الحارث بن الشريد - جد خُفاف - على بني الحرث بن كعب، فسبى ندبة فوهبها لابنه عمير، فولدت له خُفافًا؛ فنُسِبَ إليها. أما نسبها، فقد اختُلِفَ فيه، فقيل هي: بنت الشيطان - وفي بعض المصادر: شيطان - بن قنان بن سلمة بن وهب بن عبدالله بن ربيعة بن الحرث بن كعب، وقيل: بنت أبان بن شيطان بن قنان بن سلمة. وهذا النسب يدل على أنها عربية أصيلة، وليست أَمَةً - كما في بعض المصادر - فقد ذكر صاحب الأغاني أنها أمَةٌ سوداءُ، كما عدَّ الجاحظ خُفافًا من أبناء الزنجيات. وفيما يختص بزواج خُفاف وأولاده، فالواضح من شعره أنه تزوج، وأن له أولادًا، ولكن المصادر التي تناولت حياته لم تذكر شيئًا عن ذلك. 4- حياته ودوره في قبيلته: نشأ خُفاف في بني سليم، وهم بطن من بطون قيس، معروفون بالفروسية، والشجاعة، وقوة الْمِراس، وبهم يُضرَب المثل في ذلك. وقوم خُفاف من أشرف بيوتات سليم، وأسماها منزلة؛ يدل على ذلك اهتمام النسَّابة بآل الشريد، واختصاصهم بذكرهم، مبينين أشهر شخصياتهم، وهم حين يفعلون ذلك، إنما يدللون على ما لآل الشريد من نباهة الذكر. أما عن موقع صاحبنا خُفاف من ذلك، فهو أحد فرسان القبيلة المعدودين، وواحد من أبطالها المغاوير؛ فهو شاعر فارس، جعله ابن سلام في الطبقة الخامسة من الفرسان مع مالك بن نويرة، ومع ابني عمه صخر ومعاوية بني عمرو بن الشريد، ومالك بن حمار الشمخي ، وقال عنه الأصمعي: "خُفاف من فرسان العرب المعدودين"، وقال الثعالبي: "كان شاعرًا شجاعًا، وقلَّما اجتمع الشعر والشجاعة في واحد". كما يعده الجاحظ من مفاخر السودان على البيضان؛ فهو حين يذكر أبناء الزنجيات الذين نزعوا إلى الزنج في البسالة والأَنَفَة، يذكر من بينهم خُفاف بن ندبة، ثم يقول عنهم: "فهؤلاء أشد الرجال أبدانًا، وأشدهم قلوبًا، وأشجعهم بأسًا، وبهم يُضرَب المثل". ولبسالة خُفاف وجسارته؛ عَلَتْ مكانته في القبيلة، وتطلَّع إلى زعامتها، ونافس أقرانه في سبيل هذه الزعامة، هذا على الرغم من سواده الذي لم يقف في طريق بحثه عن المجد، وتطلعه إلى الزعامة؛ فهذا السواد لم يترك في نفس خُفاف أثرًا يصل إلى درجة العقدة، ويكون حائلًا بينه وبين الوصول إلى سموِّ المنزلة، ورفعة المكانة في قومه. 5 - منافسته للعباس بن مرداس، والمناقضات بينهما: من المعالم البارزة في حياة خُفاف في الجاهلية، منافسته للعباس بن مرداس - أحد فرسان بني سليم المعروفين، وواحد من شعرائها المبرَّزين - على زعامة القبيلة، وقد أثمرت هذه المنافسة بينهما مجموعة من المناقضات، تعتبر من أولى النقائض في الشعر العربي، وتضيف رصيدًا فنيًّا إلى هذا الفن. وهذه المهاجاة بين خُفاف والعباس يتضح فيها فن النقائض في أكمل أشكاله، وأوضح صوره، وتبين لنا المعالم التي بُنِيَ عليها هذا الفن، كما تكشف لنا عن التطور الذي صاحبه في العصر الجاهلي، حتى وصل إلى ما وصل إليه بعد أن صار فنًّا متكاملًا، له أسلوبه، وله خصائصه. ثانيًا: حياة خُفاف في الإسلام ودوره فيه: لا يُعرَف على وجه التحقيق متى أسلم خُفاف وكيف أسلم؛ ذلك أنه كما سكتت المصادر القديمة عن حياته في الجاهلية؛ مما جعل تفاصيلها غير واضحة المعالم، وجوانبها غير متينة الخيوط، فإن هذه المصادر أشد سكوتًا عن حياته في الإسلام، فباتت مطموسة المعالم، واهية الخيوط، شديدة الغموض، عنها في الجاهلية. وإلى القارئ الكريم بعض ما ذكرته المصادر الأدبية والتاريخية عن إسلام خُفاف وحياته في الإسلام: • شهِد مع النبي صلى الله عليه وسلم فتحَ مكة، ومعه لواء بني سليم، وشهد حنينًا والطائف. • شاعر مشهور بالشعر، وهو ممن ثبت على إسلامه في الردة، وهو أحد فرسان قيس وشعرائها. • مخضرَم أدرك الجاهلية وأسلم، وثبت في الردة، ومدح أبا بكر، وبقِيَ إلى أيام عمر. • قال الواقدي في الكلام عن فتح مكة: "ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، فيهم لواء يحمله عباس بن مرداس السلمي، ولواء يحمله خُفاف بن ندبة، وراية يحملها الحجاج بن علاط"، وفي الكلام عن غزوة حنين، يقول: "وكان في بني سليم ثلاث رايات: راية مع العباس بن مرداس، وراية مع خُفاف بن ندبة، وراية مع الحجاج بن علاط". • وخُفاف من فرسان العرب المعدودين، مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم، وحسُن إسلامه، وشهِد الفتح وكان معه لواء بني سليم، وشهد حنينًا، وثبت على إسلامه في الردة، وبقي إلى زمن عمر. هذا حشد لِما ذكرته المصادر عن حياة خُفاف في الإسلام، آثرتُ أن أسجِّلَه وإن كان مكررًا؛ لأستنتج منه حياة شاعرنا في الإسلام، ودوره فيه، ومن خلال ما عرضته يتضح لنا الآتي: أولًا: أغفلت المصادر القديمة الحديثَ عن إسلام خُفاف؛ فلم تذكر لنا متى وكيف أسلم، ولكن الواضح أنه أسلم قبل الفتح، بدليل إجماع المصادر على شهوده إياه، والذي تطمئن إليه النفس أن خُفافًا أسلم سنة ثمانٍ من الهجرة، وهو العام الذي أسلمت فيه سليم؛ فقد ذكرت كتب السيرة أن سليمًا دخلت في الإسلام سنة ثمانٍ من الهجرة؛ إذ جاء وفد منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه العباس بن مرداس، وأنس بن عباس بن رعل، وراشد بن عبدربه، فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمرَ، وشعارنا مقدمًا، ففعل بهم ذلك، وشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فتحَ مكة، وكان ذلك سنة ثمانٍ من الهجرة. فهل كان خُفاف ضمن هذا الوفد فأسلم مع مَن أسلم منه؟ أو تُراه أسلم منفردًا؛ حيث لم يَرِد اسمه في قائمة هؤلاء الوافدين على النبي صلى الله عليه وسلم؟ والذي أراه أن خُفافًا لم يكن ضمن الوفد، وإنما أسلم منفردًا؛ فلعله تأخر عن الوفد لسبب ما، أو لعله سبقه إلى الإسلام؛ إذ لو كان مع وفد قومه، لذُكِرَ مع مَن ذُكِرَ من مشاهيرهم: العباس بن مرداس، وأنس بن عباس بن رعل، وراشد بن عبدربه، خاصة أن خُفافًا لم يكن مغمورًا في قومه، ولا مؤخرًا فيهم، بل فارسهم المقدَّم، وشاعرهم المعروف. ثانيًا: أن لخُفاف صحبةً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه حديثًا واحدًا، ذكره ابن عبدالبر في (الاستيعاب)، وابن الأثير في (أُسْد الغابة)، ولم أعثر على الحديث في كتب الصحاح الستة، ولا في غيرها من كتب السنة، بيد أني وجدته في المقاصد الحسنة للسخاوي، وفي كشف الخفاء للعجلوني، والحديث مرويٌّ من طرق متعددة، منها خُفاف، وروايتهما تتفق مع رواية ابن عبدالبر، وابن الأثير، مع اختلاف في بعض الألفاظ، ونص الحديث كما ورد في كشف الخفاء: "ورواه أيضًا خُفاف بن ندية أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، على من تأمرني أن أنزل؟ أعلى قريش أم على الأنصار أم أسلمَ أم غفار؟ فقال: ((يا خُفاف، ابتغِ الرفيق قبل الطريق؛ فإن عَرَضَ لك أمر لم يضرك، وإن احتجت إليه رفدك))، والحديث بنصه في المقاصد الحسنة وفيه: ((وإن احتجت إليه نفعك))، بدل "رفدك". والحديث - كما نُصَّ عليه في كشف الخفاء والمقاصد الحسنة – ضعيف؛ قال في كشف الخفاء بعد أن ذكر الحديث بطرقه المختلفة: "وكلها ضعيفة، ولكن بانضمامها يَقْوَى فيصير حسنًا لغيره"، وقال في المقاصد الحسنة: "وكلها ضعيفة، ولكن بانضمامها تَقْوَى". والحديث لم تُذكَر مناسبته، ولا الظروف التي قيل فيها، ولكن يُفهَم منه أن خُفافًا كان يرغب في النزول على إحدى القبائل ليقيم بها، فلما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، وجَّهه إلى ما فيه الخير له؛ وهو اختيار الرفيق الصالح، الذي ينصره متى احتاج إليه، ويمُدُّ له يد العون متى احتاج إليها. ثالثًا: أنه شارك في الأحداث الإسلامية، وقام فيها بدور يتكافأ ومكانته بين الفرسان المعدودين، والأبطال المغاوير؛ فشهِد مع النبي صلى الله عليه وسلم فتحَ مكةَ، وكذا شهِد حنينًا والطائف، وكان في مركز الصدارة منها؛ حيث كان يحمل لواء بني سليم في تلك المعارك، كما ثبت على إسلامه في الردة، وتبرأ ممن ارتد من قومه. رابعًا: أن خُفافًا كان مؤمنًا صادق الإيمان، فثبت على إسلامه في الردة، وعادى قومه، وتبرأ منهم؛ لأن كثيرًا منهم قد ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجل منهم، يُقال له: الفجاءة، أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال له: إني مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعنِّي، فحمله أبو بكر على ظهر، وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس - المسلم والمرتد - يأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع منهم، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز بما كان منه، وأمره بالسير إليه بمن معه من المسلمين حتى يقتله أو يأتيه به، فسار طريفة، فلما التقى الفريقان، ورأى الفجاءة من المسلمين الجِدَّ، قال لطريفة: والله، ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر، وأنا أميره، فقال له طريفة: إن كنت صادقًا ضَعِ السلاح، وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج معه، فلما قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بقتله، ففعل ما أمره به، فقال خُفاف بن ندبة، يذكر الفجاءة فيما صنع: لِمَ يأخذون سلاحه لقتاله ولِذاكُمُ عند الإله أثامُ لا دينهم ديني ولا أنا منهمو حتى يسير إلى الصراة شمامُ فهو يستنكر هذا الصنيع الغادر، مبينًا أن فاعله آثم، ثم يتبرأ مما دانوا به من ارتداد عن الدين، ويتبرأ من الانتساب إليهم، وهذا دليل على عمق إيمانه، وصدق تدينه. خامسًا: أنه رثى أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأبيات. سادسًا: عاش خُفاف حتى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أجمعت المصادر التي تناولت حياة خُفاف على ذلك، وحدد البعض سنة وفاته بأنها سنة 20 من الهجرة، (640 ميلادية). هذه هي حياة خُفاف في الإسلام، وذاك دوره فيه، فماذا عن شعره الإسلامي؟ لم يُعثَر لخُفاف على شعر إسلامي له قيمة في تصوير حياته في الإسلام، وجِلاء غموضها، وكشف خفاياها، وليس فيه ما يجلو دوره في الإسلام، ويُبرِز إسهامه الفعَّال فيه؛ فكل ما بين أيدينا من شعر لخُفاف في الإسلام اثنا عشر بيتًا، بيتان قالهما في الفجاءة يذكره فيما فعل مع أبي بكر، وقد سبقا. وله في رثاء أبي بكر رضي الله عنه عشرة أبيات، تدل على إيمانه العميق بالله عز وجل، وإعجابه بأبي بكر، وحبه الشديد له؛ وهي التي أولها: ليس لشيء غير تقوى جداء وكلُّ شيء عمره للفناء ولا شكَّ أن لخُفاف شعرًا غير هذا قاله في الإسلام، قد يكون ضاع فيما ضاع من تراثنا العلمي والأدبي والفكري في عصور الغزوين: التتري والصليبي، وقد يكون مطمورًا بين المخطوطات التي تزخَر بها المكتبات العربية والعالمية، ولمَّا تَصِلْ إليها يد الباحثين بعدُ لتنفُض عنها غبار النسيان. ينظر للمزيد عن خُفاف : الاستيعاب لابن عبدالبر: 2/ 450، أسد الغابة: 2/ 138، ط الشعب، الإصابة لابن حجر:1/ 448، الأصمعيات: 21، الأعلام للزركلي: 2/ 356، الأغاني: 18/ 74، تاريخ الطبري: 3/ 242، خزانة الأدب: 2/ 472، رسائل الجاحظ: 190، الشعر والشعراء: 1/ 30، طبقات ابن سعد: 4/ 275، كشف الخفاء: 1/ 204، المغازي للواقدي: 2/ 818، المقاصد الحسنة: 151- 152.